"اللذة الحسية تشغل العقل إلى حد جعله هامداً". سبينوزا
اليوم الأول بعد الألف الرابعة، لليلة توارى فيها القمر خلف الغيوم المعتمة. فأمسى البحر الملاصق للميناء مقبضاً أكثر بصوت أمواجه المكتومة... الحطام يفرد ذراعيه بين بقايا المنازل المتهدّمة كطائر أسود أسطوري ينتشى بقتل كل إحساس بالحياة في المدينة. تطل اللاذقية بوجه شوّهته سنين الحرب الطويلة، لتبكي في الظلام، ما كان من أبنائها وما هو آت.
كانت الدوريات موزّعة في كل مكان بشكل يبدو منظماً، أما دوريتي فارتكزت بشمال غرب الميناء، في نقطة غير بعيدة عن منتصف الطريق، فالعشوائية هي صفه الحياة منذ دنّستها أقدام الحرب، بل هي الحقيقة الوحيدة هنا. خواء غريب يجتاحني، كحيوات مفترس ينهش أحشاء حيوان اّخر حي، لكنه لا يتألم، وكأن ما يحدث لا يمسّه، يميته فقط!
أستند على بندقيتي وتمتد عيناي لتسرحا في ظلام لا نهائي. يقظة ملعونة أصابت خلايا مخي من أيام، وعطلت كل شعور بالنعاس يصاحب ليلى أو نهاري. تكاد الأفكار تخرج من رأسي وتجري أمامي في الظلام. أفكار صغيرة ممسوسة، لها ضحكات وقحة لا يردعها السكون ولا أي شيء.
كانت أيامنا كلها هنا بلا نهاية. يتصل الصباح بالليل ثم صباح آخر وليل ليس أخير، بلا تغيير سوى تبادل العتمة مع الضوء. حتى القتل لم يعد يثير فينا جديداً، وكأن الله نسينا في تلك البقعة من العالم ولم يعد يرانا... مجاز
كانت أيامنا كلها هنا بلا نهاية. يتصل الصباح بالليل ثم صباح آخر وليل ليس أخير، بلا تغيير سوى تبادل العتمة مع الضوء. حتى القتل لم يعد يثير فينا جديداً، وكأن الله نسينا في تلك البقعة من العالم ولم يعد يرانا! نسيناه حين بدأ هذا كله، فنسينا للأبد. الله، كم هو عجيب حين تفكّر في تلك الكلمة، منذ متى لم تخطر لي؟
الأصوات تتعالى فأنتبه من ذهولي على حفنة من رجالي، وقد قبضوا على مجموعه من المدنيين في الطريق. العيون خائفة والأجساد مرتعدة وكأنها ليست لرجال بل أطفال أخذوا من أمهاتهم. رعشة جامحة تنتابني حين أقف أمامهم، شامخاً بزيي المموّه وقامتي المفتولة وسلاحي.
يبدأ الاستجواب المعتاد بعد اطلاعي على هوياتهم. جميعهم من المحايدين. لاهم موالون للنظام ولا هم من المعارضين... خسارة. أنظر لهم باحتقار. جبناء التزموا اللاموقف، وكأنهم يسخرون بحياديتهم من كلينا (المعارضين والموالين). أشعر بموجة عارمة متصاعدة من الفوران والغضب تهز أطرافي، لكني أحاول التماسك. أمثال هؤلاء من قوض عزيمتنا ونخر فينا السوس. ضعفهم واستسلامهم كحائط متهدّم لبناء قوى متماسك. حله الوحيد الترميم وهو غير مضمون، أو الهدم وإعادة البناء، وأنا من أنصار الحل الأضمن.
كانت المسألة كلها تتعلق بالابتكار. في لحظات السأم ينهار كل شيء وتنهض فكرة وحيدة لتحيي الموتى باللاأمل، وصاحب الفكرة هو الإله. أليس الإله يحيي ويميت؟ أنا أيضاً أحيي جنودي، وأقتل السأم.
أمرت جنودي باللازم، وبعد ثلاث ساعات، قبيل الفجر بنحو الساعة، تحدثت مع المقبوض عليهم موضحاً قواعد لعبة الليلة. سنتركهم يجرون، واحداً تلو الآخر، في خط مستقيم، من غير توقيف منا ولا اعتراض، عليهم فقط أن يفلتوا من القناص. اهتزت الأجساد وتعالت الهمهمات في اعتراض، وكأنهم أدركوا نور النجاة لكن الموت لاح لهم مغنياً. ابتعدت بلا مبالاة، لأتمركز في نقطه تتيح لي متعة المشاهدة.
بدأنا العد. واحد... يجرى من بعيد بخوف يحيطه أمل في الهروب من القناص، فجأة بعد الأمتار التسع، يسمع الطلقات، فيتقافز مذعوراً لا يدري لأي اتجاه، فأصرخ فيه مهدداً: "للأمام"، فيفرّ مهرولاً ليتفادى الرصاص بلا تفكير بين ظلمة الليل ونور الفجر الوليد. يجري بلا هدف سوى الحياة، وهل نختلف عنه؟
قبيل الفجر بنحو الساعة، تحدثت مع المقبوض عليهم موضحاً قواعد لعبة الليلة. سنتركهم يجرون، واحداً تلو الآخر، في خط مستقيم، من غير توقيف منا ولا اعتراض، عليهم فقط أن يفلتوا من القناص... مجاز
تتراقص الرصاصات حوله كلما تعب أو توقف لتحثّه على الاستمرار مهما يكن، وفجأة وبعد حوالي الكيلو الثاني من الركض، يرى الطريق في الضوء الخافت، فيلهث بكل ما فيه أملاً في الوصول. وتتعالى أصوات الجنود وكأنها تشجّعه، فيهرول مناضلاً لآخر رمق فيه، لكن الطلقة تسبق حلمه المتقد، فيهوى في حفرة انتظرته منذ البدء. نتصايح بجنون وتزيد اللوثة مع كل عدّاء تطويه الحفرة. اثنان... أربعة... عشرة... عشرون... واحد بعد الأربعين.
بزغ الفجر أخيراً ودخان النيران المتصاعدة من الجثث المحروقة. ومن داخل الحفرة يتسلل لأنوفنا ليملأ خلايانا، بنوع نادر من المخدرات يصعب العثور عليه إلا بين الموتى. ننتشي بالدخان وتزيد اللذة حتى تبلغ أقصاها، فيصل الإجهاد لمنتهاه بالرجال بعد أن تعطلت عقولهم طوال الليل بفعل ذلك "الكيف الممنوع".
تتداخل الأحداث والذكريات، ولا شيء أو صورة محدّدة تستقر في كهوف العقل الغائرة، سوى صوت بعيد ضعيف لذلك الرجل من أسرى الليلة، وهو يرتد باكياً بعكس اتجاه الحفرة مهللاً: " يا الله... يا الله أغثني"، فنكتشف أنه أعمى، لا يجدي معه التهديد ولا الرصاص ليعكس اتجاهه، فنضطر لقتله كي لا يعرقل لذتنا ويفسد لعبة الليلة.
تتهادى الأصوات وينام الجنود بعد هستيريا الضحكات واللعب، لكني يقظ منتبه على الرغم من ذلك كله. يدق صوت الأعمى رأسي بمطارق حديد ساخن، تكوي جوانب عقلي بألم لا ينقطع، وصوته يرجّ أركاني: "أغثني... أغثني"، هكذا بلا انقطاع، بلا أمل في انقطاع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...