إنني لا أتحدث عن نفسي.
دخل شَقيقُها جُنونَه الأولَ وكانت هي تَتَفَرج على تحولاته العجائبية صامتة، وفي البدء حسبته يمزح. كتب لها في رسالة تهنئة بعيد ميلاد قديم، كلاماً كثيراً ناعماً، ثم عَرَّجَ دونما سبب على "سادو- مازوشيته" التي تأكل روحه، وقَدَّرَت فيما بعد بأنه كان يدّعي ويتباهى، ثم حسبت عمره آنذاك على أصابعها: سبعة وعشرون عاماً. كان يتسلّى إذن بإظهار غرابته.
قرأت فيما بعد ضياعه الكامل عن هذه السَّادِية عند "مجنون" آخر. كان غي دو موباسان ينام مع عاهرات المدينة كمن يمارس رياضة يومية تقريباً، ثم يخبرهن بأنه مصاب بالسفلس، ويتلقّى البكاء الضروري بعدها باستمتاع كَدِرٍ. كتب لصديق له عندما تلقى خبر مرضه أول مرة: "هللويا، أنا مصاب بـ (الجدري العظيم)، وبالتالي لن أخاف بعد الآن من التقاطه أبداً".
كان يلهو بألمه بفظاظة فقد كان شاباً جامحاً في السابعة والعشرين أيضاً. تمنح الأرقام بعض المصادفات الدَّبِقَة. قال لهم شقيقها في البداية بأنه يسمع الأصوات وصارت الأصوات تأتيه كل ليلة، وقد أَسَرَّ لها ذات صباح بأن الأصوات تخبره أنه قد وُلد ملعوناً، وسيبقى ملعوناً للأبد.
كانت تلك واحدة من شتائم والدهما الشهيرة في الحقيقة، وحين ذَكَّرَته هي بذلك شعر بالإهانة والغضب. تكمن المشكلة ربما في أنه كان يكبرها كثيراً، وقد حاولت مع ذلك أن تَفْهَمه. أخذت كتباً من غرفته خفْيَة، وقرأتها عشرات المرات وهي تحسب بأنها قد تتسلّل هكذا إلى لُبِّهِ. كانت عيناه تغيمان فجأة وهو يقرأ عليها قصائده في ساعات الصفاء والمودة، ويكون عليها أن تُجَارِيَ لعبته.
كان غي دو موباسان ينام مع عاهرات المدينة كمن يمارس رياضة يومية تقريباً، ثم يخبرهن بأنه مصاب بالسفلس، ويتلقّى البكاء الضروري بعدها باستمتاع كَدِرٍ... مجاز
- هل جاؤوا مرة أخرى؟
- إنهم لا يتركونني أبداً.
فيما بعد فكرت بأنه كان من العظيم أنها لم تُجَنَّ بِدورِها. جلست مراهقة الرابعة عشر صامتة، وتلقت كل شيء من شقيقها العاطل وتلوّثت روحها بالدخان، ثم بقي كل ذلك بداخلها حتى بعد رحيله إلى حيث لا يدري أحد. وقعت بين يديها بعد سنوات قصة "الهورلا" لموباسان، وفهمت أكثر من غيرها معنى أن يسكنك وُجُودٌ آخر، وأن يملي عليك حياتك وقراراتك وكل شيء. كان البطل يُجَنُّ تدريجياً وهو يكتشف بأنه ليس وحده أبداً، وأن ذلك الوجود الأثيري هو من صار يملك حياته.
بدت القصة برمّتها مثل يوميات طويلة لشخص يغرق في الجنون تدريجياً، وتبدأ، يا للغرابة، بامتداح صباح ربيعي، ثم تنتهي بتساؤلات جنائزية واستغاثات حارقة: "إنني أصبح مجنوناً يا إلهي، فمن ينقذني!"، غير أن شقيقها لم ينقذه أحد.
لقد سمعت عن شقيقات أفضل منها طبعاً. وقفت أنتيغون مثلاً في المسرح الإغريقي بشجاعة أمام عمّها الملك المتغطرس، وقالت بوضوح إنها ستضحّي بنفسها من أجل شقيقها. كان الوقت قد فات لإنقاذ حياته، ولا بد إذن من "إنقاذ جثته"، ودفنها كما يُدفن الآخرون، ضداً على سلطة المرسوم الملكي.
- أيُّ لعبة تلعبين؟
- أنا لا ألعب أبداً
أحيا جان أنويل الكاتب المسرحي الفرنسي شخصية أنتيغون مرة أخرى سنة 1944، وفهم مواطنوه حينها بأنه يتحدث عن المُقاومة، ثم اختلفوا بشأن موقفه، وقالوا غير ذلك، ولكن المسرحية لم تفقد شيئاً من وهجها مع ذلك. كانت قد قرأتها ضمن مقرّر دراسي في صغرها، ثم شاهدتها مرات كثيرة على مسرح جامعي بمدينتها، وعلى حاسوبها، وفي كل مكان، وتنهّدت بمرارة فيما كانت البطلات النحيلات دائما يصرخن بأنهن سيقمن بواجبهن، وكان يَعِنُّ لها عندها بالضبط أن تضحك.
كان الراوي وحده من يفهمها في الحقيقة؛ رجل كهل يرتدي معطفاً رثاً في الغالب، لإضفاء بعض المعاصرة على القصة، ويبتسم للجمهور نصف ابتسامة وهو يشرح الحقائق الحزينة: "هذا هو الجميل في التراجيديا. التراجيديا نظيفة، التراجيديا مريحة، لأننا نعرف أن الأمل مفقود سلفاً".
حياتها هي كانت دراما مبتذلة بالطبع، ولذلك فهي لم تكن بطلة أبداً، ولم تحاول أن تُحرك ساكناً، حتى عندما حَلَّ "الجنون الكبير"، وبدأ شقيقها يُهَلوس ويصرخ في كل مكان بأسماء مُطارِديه العديدين اللصيقين به، وفهم الآخرون أخيراً بأنه لم يكن يمزح.
كان الجو أبعد ما يكون عن الدعابة والكوميديا، ولكنه ليس تراجيدياً أيضاً، وقد أبقت إذن على فمها مغلقاً منذ أن سمعت لعنات والدها التي لاحقت شقيقها دائماً، مثل أوديبٍ قنوط ويائس، وحتى حين اقتاداه معاً إلى "مستشفى المجانين" بالقوّة والحيلة وبعض المصادفات المتواطئة.
في لحظة ما، قرّر أن يَكُفَّ عن المقاومة. كان يجلس بينهما في مقعد سيارة التاكسي باستسلام تقريباً، بعد أن وجّه لهما بضع ركلات وضربات في الهواء، ثم غلبه التعب، وعندها نظر إليها باسماً وعرفت بالضبط ما يُفكر به، فلقد حكى لها تلك القصة في زمن سابق: وَجْهُ جي دو موباسان المحتقن وهو يقتاد شقيقه إلى مصحة الأمراض العقلية، ثم يسمع نبوءته لحظة كانوا يوثقونه: "أنت هو المجنون، أتسمعني؟ أنت هو مجنون العائلة"، غير أن أخاها اكتفى بالهمهمة المبهمة والنظر.
ربما كان الأمر أن المشهد الخاص بهما كان أقل ترتيباً مما يجب. أجهدت نفسها في الركض في إدارات كثيرة لأيام حتى تحصل على تصريح بإدخاله إلى المصحّة، مع ممرضين وسيارة إسعاف لنقل "المجنون الخطر" كما يجب، غير أن ذلك لم يُؤتِ أُكْله. لم تكن تعرف بعدُ كيف تَرْشو أحداً. كانت تمشي وسط كل تلك الإجراءات الطويلة كالمسرنمة، وكان ثمة أيضاً بعض الأسئلة: هل أنها تنقذ أخاها أم أنها تضيّعه إلى الأبد؟
يجمع المشفى العتيق مئات المصابين بأمراض عقلية ومدمنين لا على التعيين، إذ لا مكان يخصّص لهم في مدينتها الصغيرة التي تَقْرِضُها المخدرات والحشيش والبطالة وسوء الحظ، أما من لا يستطيعون تحمّل ظروفهم البائسة، فيمكنهم أن يحلّوا ضيوفاً في ذلك المكان الضيق القذر بالنهاية، متحملين شتائم الممرضين والأطباء المستعجلين ورائحة البول والنحس الغامض في الهواء الراكد.
كانوا يطوفون داخل رأسه وحوله كسرب من النحل، وكان يخافهم. كتب عنهم من قبل شِعْراً بدا للآخرين سياسياً تقريباً: لن أنحني، لن أنحني، لن أنحني... ولكنها وحدها كانت تعرف بأنه يخاطب أصواتَ رأسه القلِق... مجاز
- لا يبدو خَطِراً
- حَمَل سكيناً وهاجَمَنا بها البارحة يا سيدي
بدا والدها مثيراً للشفقة فجأة وهو يجيب على أسئلة الطبيب ويتضاءل متقلّصاً ويصغر؛ ذلك الانكماش الذي يلازم مواطنينا في الإدارات العمومية، أما شقيقها فكان يتأمّل المكان بجبين يتفصّد عرقاً، وعرفت هي وحدها عندها بـ "أنهم قد جاؤوا".
كانوا يطوفون داخل رأسه وحوله كسرب من النحل، وكان يخافهم. كتب عنهم من قبل شِعْراً بدا للآخرين سياسياً تقريباً: لن أنحني، لن أنحني، لن أنحني... ولكنها وحدها كانت تعرف بأنه يخاطب أصواتَ رأسه القلِق.
قرر البطل في قصة "الهورلا" أيضاً بأنه لن يستسلم لذلك الآخر الذي يسكنه، وفكر بالنهاية بقتله حتى ولو بإشعال حريق في بيته الشخصي. ربما لم يكن أخوها بهذه القوة، مَنْ مِن نَسلهم كان قوياً أصلاً، أو أن الحياة الحقيقية لا تشبه القصص؟
كان دو موباسان يروي هلاوسه حتى يتخلص منها غالباً. طاف به الجنون وطاف هو به منذ صغره وهو يرى ضياع أمه ثم شقيقه وينتظر دوره. كان يتصوّر بأنه قد يهاجمه في كل مكان وحين، ويمكنُ أن تَتَخيله وهو يصيخ السمع أثناء الليل بريبة وحذر، أو يحدّق بالجدران والأشياء منتظراً جنونه في الظلام، ولا شك بأنه في النهاية قد ظَهَرَ.
كتب أخوها حواريات شعرية طويلة بين أصواته الداخلية المتعارضة حتى يتطهّر، واسودّ وجهه حين شبَّهه أصدقاؤه بفيرناندو بيسوا، الغارق بين أنداده العديدين. قال له صديقه مازحاً: هؤلاء غزاة فَخُذْ حَذَرَك! كان قد ضاق ذرعاً بالحياة وضاقت به، وصار عبئاً مضحكاً على الجميع، حتى أهله. إن مثل هذه الأمور تحدث. شرحت لها أمها حينها الوضعَ بوضوح شديد وهي تشدّ على يدها بعدائية: "أنا من رميتُ الدفاتر، وسأرميها دائماً". كانوا قد اكتشفوا دفتر أشعارها وقرّروا أنها لن تُجن بدورها، ثم مُنِعَت أيضا من التسلّل لاستعارة الكتب.
هل يُعْقل أنهم شجعوه على إحراق مكتبته كلها، وأنه قد فعل، وكان يضحك عندها بانشراح ويحسب أنه ينقذ نفسه؟ لقد بدا عندها كبطل "الهورلا" تماماً وسط حريقه الخراب، وكانت هي تتفرّج عليه وتجزّ على أسنانها مثل أنتيغون ضعيفة في دراما معاصرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...