تمر أمام المشاهد الذي يقلّب صفحات التواصل الاجتماعي فيديوهات تشرح ما يسمى بـ"وصفات الحرب"، كيفية تحضير "مسخّن" الحرب، أو "بانكيك الحرب" أو "فطائر الحرب".
فقد أجبرت حرب التجويع الممنهجة التي تمارسها إسرائيل بحق قطاع غزة، الغزيين والغزيات على ابتكار أصناف من الطعام تذكرهم بحياة طبيعية.
واستعاضوا بمنتجات المعلبات التي تصلهم كمساعدات عن المواد الغائبة كاللحوم والدجاج. فيحتوي اليوم المسخن الفلسطيني والبرغر والمنسف على لحوم معلبة.
وأسواق غزة، المدينة البحرية التي كانت تعتاش على الصيد والأكل البحري، أصبحت خالية من الأسماك. فاستبدلها الغزيون بالتونا المعلبة، وحضّروا زبدية الروبيان (الجمبري) الفخارية الغزية الشهيرة، لكن دون أي روبيان في الحقيقة.
وفي ضوء الحصار الخانق والغلاء الجنوني الذي ارتفع فيه كيلو البصل إلى 50 دولاراً، وعدم وصول المساعدات إلى عائلات كثيرة، يواجه نحو 96% من الغزيين مستويات مرتفعة من انعدام الأمن الغذائي.
وقد انتشرت في الأيام الأخيرة منشورات لغزيين يقولون فيها إنهم لا يجدون اليوم "التكيات" التي كانت تُطعم أعداد كبيرة من الغزيين، بسبب عدم توفر المواد الخام والداعمين لهذه المشاريع.
فيضطر كثيرون إلى اللجوء إلى البدائل، إن توفرت، وإلى أكل أوراق الشجر الذي كان يظللهم أو يعطيهم من ثمره وحسب.
"أي نبات تمنحنا إياه الأرض نحوله إلى طعام"
اشتهت عائلة حمدية شعبان (58 عاماً) من حي الدرج في شمال قطاع غزة، طبق ورق العنب المحشي بالأرز. لكن داليات القطاع إما قُصفت أو اقتُلعت لتستخدم في إشعال النار عند الطهي.
فاضطرت لإقناع عائلتها بمذاق أوراق شجر التوت بديلاً من ورق العنب. "أي نبات تمنحنا إياه الأرض نحوله إلى طعام"، تقول حمدية لرصيف22.
وتردف: "صنعت من أوراق التوت والخبيزة الفطائر، واستبدلت أوراق السلق الذي نعدّ منه السماقية، الطبق الشعبي في غزة، بأوراق التوت".
تحكي الجدة للأطفال كيف تقوّي هذه الأوراق عضلاتهم بعد أن هزلت أجسادهم، تماماً مثل السبانخ.
يواجه نحو 96% من الغزيين مستويات مرتفعة من انعدام الأمن الغذائي
وتتصل من حين إلى آخر بابنتها التي تعيش في الخارج لتبحث لها عن وصفات تناسب الإمكانات المتوفرة ومحتوى المعلبات.
"البضائع شحيحة جداً في الشمال. أخرج برفقة زوجي بحثاً عن أي شيء نطهوه. فلا نجد سوى القليل وبأسعار مرتفعة"، تقول حمدية.
وتتساءل: "هل يعقل أن يكون سعر كيلو البندورة 120 شيكلاً؟ (ما يعادل 30 دولاراً) بعد أن كان سعره قبل الحرب أربعة شواكل؟)".
تشتهي حمدية صحن سلطة من الخضار الطازج، لكن هذا الصحن سيكلفها الكثير. فتعود مع زوجها محملين بعلب التونة واللحم، وتحاول ابتكار أطباق من هذه المعلبات تسد جوع عائلتها الكبيرة.
"باشاميل" ومسخّن وبرغر من اللحم المعلّب
لا يجد الغزيون، وسط غياب الخضار واللحوم، سوى المعلبات القليلة التي تصلهم من البازيلاء والفاصولياء والفول والحمص واللحم والتونا، أو مواد جافة أخرى كالأرز والمكرونة والعدس.
من هذه المعلبات القليلة، تحاول سهير زياد (38 عاماً) أن تستجمع خبرتها في إعداد الطعام والحلويات، كي تصنع منها أطباقاً لذيذة لصغارها، الذين باتوا يأكلون كثيراً بسبب الخوف من القصف بحسب تعبيرها.
تهرس سهير الفاصوليا البيضاء حين لا يتوفر الفول. أو تخلط حبوب البازيلاء بحبوب الحمص حتى تصنع أقراص الفلافل.
لا تستغني هي أيضاً عن الأعشاب، شأنها شأن معظم أهالي غزة. فتستخدم الأعشاب الخضراء بدلاً من السبانخ التي كانت تحشوها في أقراص العجين.
أما اللحم المعلّب فأعدت منه الفطائر وصواني المعكرونة بالباشميل والكوسا المحشية. وأعدت أطباق الأكل البحري من خلال طهو التونا المعلبة مع الأرز.
أما حمدية، فأعدّت من اللحم المعلّب أقراص البرغر، عجنتها بالبهارات والدقيق، وذكرت أحفادها بالأيام التي كانوا يتناولون فيها البرغر في مطاعم غزة.
تقول بغصة كبيرة: "نحاول صناعة حياة طبيعية تحت القصف حتى نفرح الصغار ونقول لأنفسنا إن الحياة مستمرة".
وعلى الرغم من المعنى الإيجابي الذي تحمله هذه الابتكارات، إلا أن المعلّبات، دون توفر سواها من المواد الغذائية، تتسبب بسوء التغذية، لا سيما للأطفال، الذين فقد 25 منهم حياته جراءها.
كما تسبب المعلبات منتهية الصلاحية والفاسدة التسمم الغذائي والنزلات المعوية لمئات من الغزيين خلال الشهرين الأخيرين، بحسب وزارة الصحة في غزة.
الوصفات المبتكرة كمصدر للرزق
فقدت سهير مصدر رزقها خلال الحرب، بعد أن كانت تبيع الحلويات والمعجنات عبر الإنترنت. بعد فترة من نزوحها واضطرارها لدفع إيجار مكان النزوح، وشراء الاحتياجات الأساسية للعائلة، لم يتبق في جيبها سوى القليل. ما يكفي بالكاد لشراء الحطب لتسخين علبة فول.
لم تُطعم سهير صغارها فقط، بل طرق بابها أطفال النازحين ليحصلوا على شيء من وجباتها المبتكرة. فشجعتها نازحات حولها باستكمال مشروعها الذي شغلها قبل الحرب.
تعد اليوم سهير الفطائر وتبيعها في السوق مقابل شيكل واحد لكل قطعة (ما يعادل ربع دولار).
"شاركت نازحات أخريات أفكاراً جديدة في إعداد الطعام. فصنعت "القطايف" في رمضان وخبزت أصنافاً من الكعك في الفرن الطيني. وزينت إحداها بالمربى احتفالاً بعيد طفلتي"، تقول سهير.
وتردف: "حياتنا قلبت رأساً على عقب، في كثير من الأحيان أسرح في حياتي السابقة وأشعر أنني سأجن، خسرنا كل شيء بعدما اعتدنا حياة الرفاهية. اليوم نعيش ولا ندري في أي لحظة سنموت. لذا نحاول سد جوعنا وإسعاد صغارنا بأبسط الإمكانيات المتوفرة".
لا بد من الاكتفاء الذاتي
نجاح خضير (60 عاماً) النازحة من مدينة غزة إلى رفح، لم تستسغ مذاق المعلبات، فقررت هي أيضاً طهو محتواها لإعداد وجبات تذكّر ولو قليلاً بوجبات الغزيين قبل الحرب.
وفي يوم من الأيام، عادت إليها شقيقتها من رحلة البحث عن الحطب ببذور الثوم. ولأن نجاح "ابنة الأرض"، كما تصف نفسها. فقد زرعت هذه البذور حول خيمتها.
في صغرها، كانت تراقب عمل والدها الذي امتلك أراضي زراعية في شمال القطاع، فورثت عنه حب الزراعة. ولعل هذا الحب يعود اليوم بشكل آخر مع معاناة النزوح.
نما الثوم، وبدأت نجاح في البحث عن بذور نباتات أخرى في الأسواق، مستعينة بابنها الذي عمل مهندساً زراعياً.
نعيش ولا ندري في أي لحظة سنموت. لذا نحاول سد جوعنا وإسعاد صغارنا بأبسط الإمكانيات المتوفرة
"أحبطني معظم من حولي، وقالوا إن تجربتي ستفشل. لكني أصررت على التجريب في وقت كان السوق معدوماً من الخضروات والفاكهة"، تقول نجاح.
ثم نمت بذور الجرجير والفجل والبندورة في أحواضها، فدُفع الناس من حولها للسؤال حول الزراعة وتفاصيلها.
تسرد نجاح قصة مؤلمة مرت بها بعد نجاح تجربتها في الزراعة. فحين أمر الجيش الإسرائيلي إخلاء مدينة رفح، فكّت العائلة الخيمة وحملت أمتعتها وأخلت المكان.
"لم أحتمل أن أترك مزروعاتي، فسارعت بسحبها من جذورها لآخذها معي. فأنا أعتبرها تماماً مثل أولادي"، تقول شارحةً.
حين وصلت نجاح إلى مواصي خانيونس، وجدت أن الأرض رملية، فبحثت عن تربة طينية وزرعت فيها خضرواتها. وها هي تنتظر محصول الذرة والريحان والشمام.
نساء أخريات زرعن في حدائقهن وأحواضهن الخاصة في شمال القطاع أيضاً. فحمدية شعبان، وبعد أن سمعت حفيدتها ريمان، ابنة السنوات الثلاث تقول: "يا رب تمطر بطيخ وشوكولاتة"، زرعت بذور البطيخ في المنزل وتحققت أمنية الحفيدة.
تتذكر الجدة إن البيت لم يحتو إلا على قليل من الحبوب بعد ثلاثة أشهر من الحرب واشتداد حرب التجويع.
"لقد اضطررنا إلى دخول الاستئذان هاتفياً من معارفنا الذين نزحوا من منطقتنا حتى ندخل بيوتهم ونأخذ ما تبقى من أرز وطحين"، تقول حمدية.
وتتابع: "بعدما أن نفذ كل شيء، أصبحنا نشتهي الخضار. وحتى حين توفرت، لم نستطع اقتناءها من الأسواق بسبب ارتفاع الأسعار. لقد وصل كيلو الفلفل الأخضر مائة دولار".
ومع اشتداد حرب التجويع، لجأت حمدية إلى الزراعة في البيت من أجل الاكتفاء الذاتي. بحث زوجها في الأسواق وعثر على بعض البذور.
فزرعت الجرجير والفجل والكوسا والباذنجان، وتنتظر الآن محصول الذرة، ساعية إلى نقل التجربة إلى جيرانها.
وهي تجارب فردية قد تسد رمق بعض العائلات، ولفترة قصيرة، لكنها لا يمكن أن تعوّض حاجة الغزيين الغذائية في أكبر حرب تجويع ممنهجة في العصر الحديث.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه