على بعد أمتار من الحدود الشمالية لقطاع غزة، تقع مدينة بيت لاهيا التي تضم عشرات الهكتارات من الأراضي الزراعية. فيها كنا نرى أرضاً طيبة خضراء تكسوها عناقيد الفراولة المعلقة كالذهب الأحمر، ترويها مياه الأمطار فتنبعث منها روائح جميلة كعطر نادر يدمنها من يشتمها، وفي الصباح الباكر تداعبها خيوط الشمس عندما تشرق في يوم دافئ، فتطرب أصوات طيورها الآذان كلحن موسيقي جميل، وتداوي نسمات هوائها المسائية القلب العليل، لتعيد الحياة لزائريها الذين كانوا يستمتعون بطبيعتها الخلابة.
في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، تحولت جنة الأرض تلك إلى جحيم حقيقي، بفعل القذائف والصواريخ الإسرائيلية، التي قضت على الأشجار المثمرة وأبادت مئات الدونمات الزراعية المنتشرة على الحدود الشرقية للقطاع، فجعلت منها صحراء قاحلة.
كان من المفترض أن يبدأ المزارعون كالمعتاد موسم جني ثمار الفراولة ما بين كانون الأول/ ديسمبر ومنتصف آذار/ مارس، تجهيزاً لغزو المنتج الأحمر الأسواق المحلية وتصديره من غزة لأسواق الضفة والداخل الفلسطيني المحتل وأوروبا، لولا ما حل عليه من نكبة كما وصفها المزارعون.
بجانب خيمته كان يجلس المزارع النازح بشير سلمان، وملامح وجهه تدل على كمية القهر والألم التي يعيشها، إذ ترك أرضه مصدر رزقه وتعبه منذ 20 عاماً، ونزح قسراً إلى المخيمات في رفح جنوب القطاع، يقول: "ما حدث لمزرعة الفراولة التي أمتلكها تقشعر له الأبدان، تغيرت ملامحها وتحولت إلى ثكنات عسكرية، لا ملامح لها سوى الخراب. الآليات العسكرية تصول وتجول بلا رحمة، شقا عمري وتعب السنوات في أرض الأجداد كله راح".
قتل الاحتلال حلم بشير (38 عاماً) وعاث بأرضه فساداً، فلم تكن مزرعة الذهب الأحمر التي يمتلكها مجرد حقول فحسب، بل كانت مزاراً سياحياً تأتي إليها وفود من خارج القطاع وداخله، للاستجمام والتقاط صور بين مناظر الطبيعة الخلابة، إذ تشتهر منطقة بيت لاهيا كما أشار المزارع بخصوبة تربتها وعذوبة مياهها، ما يجعلها أرضاً مناسبة للفراولة. ويمتلك المتحدث في هذه المنطقة الخصبة قرابة 3 دونمات مزروعة بالفراولة، في حين يقدر إجمالي المساحات المزروعة بهذه الفاكهة على مستوى القطاع بـ3600 دونم.
الحرب الإسرائيلية دمرت خُمس الأراضي الزراعية في القطاع، والخضروات والفواكه من المحاصيل التي تضررت أكثر من غيرها.
يضيف: "في كل حرب كانت تتعرض المزرعة للتجريف والقصف بالفوسفور، وكنت أعيد إحياءها من جديد، وأعتني بها كما أعتني بأبنائي، لكن هذه المرة أبيدت بالكامل. هي مصدر رزقي الوحيد والآن أعيش على المساعدات الإغاثية لأعيل أبنائي الستة، كلهم كانوا يعملون في المزرعة وفقدوها".
ويوضح أن الإنتاج خلال الأعوام الماضية كان وفيراً، مما ساهم باستقطاب قرابة 20 عاملاً إضافياً، كانوا يعملون في التعشيب وقطف الثمار وتغليف المنتج للتصدير والبيع في الأسواق.
أكثر من نصف الأراضي تضررت
يعاني القطاع الزراعي في غزة من ويلات الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ ثلاثة أشهر، والتي تستهدف الأراضي والمزارعين والمنشآت الزراعية التي تضم مزارع دواجن وخضروات وأسماك، تعتمد عليها الأسواق الغزية بشكل كبير، أما ما تبقى الآن فهو جزء قليل لا يكفي لسد حاجة السوق المحلية.
وفي تقرير أعده الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني نهاية كانون الأول/ ديسمبر، أشار إلى أن الحرب الإسرائيلية دمرت خُمس الأراضي الزراعية في القطاع، واعتمد التقرير على خارطة رصدتها الأقمار الاصطناعية وبينت التغيرات التي حدثت للجانب الزراعي بسبب الحرب، وتأثيرها على صحة وكثافة المحاصيل الزراعية.
وجاء في التقرير أن أكبر نسبة ضرر مباشر حدثت في شمال القطاع، إذ شمل ما نسبته 39% من الأراضي المزروعة، و27% في باقي المحافظات. كما أشار إلى أن الخضروات والفاكهة من المحاصيل التي تضررت بشكل أكبر من غيرها، وتشكل ما نسبته 53% من مساحة الأراضي المزروعة، تعرض 21% منها للضرر، وأبرز هذه المحاصيل الفراولة والبطاطا. كما رصد تحليل الأقمار الصناعية تضرر مساحات من المحاصيل الحقلية طالت أراضي القمح والزيتون.
وفي نهاية كانون الأول/ ديسمبر أيضاً، قالت منظمة هيومن رايتس ووتش إن "صور أقمار صناعية راجعتها تظهر تجريف البساتين والخيم الزراعية والأراضي الزراعية في شمال غزة منذ بدء الغزو البري الإسرائيلي، ما يزيد المخاوف حول انعدام الأمن الغذائي وفقدان سبل العيش".
لا مياه ولا أسمدة
تحت خط النار يحمل المزارع حيدر زيدان روحه على كفه، فيذهب للعناية بما تبقى من الدفيئات الزراعية لمحصول الطماطم في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، بعد تعرض أرضه لقصف إسرائيلي أهلك الزرع، فتبقت له دفيئة واحدة من أصل ثلاثة.
تشتعل الحسرة في قلب المزارع الأربعيني في كل مرة يشاهد شتلات الطماطم التي نجت من القصف، لكنها لم تنج من قلة المياه وقد تموت من الجفاف بأي لحظة.
ما حدث لمزرعة الفراولة التي أمتلكها تقشعر له الأبدان، تغيرت ملامحها وتحولت إلى ثكنات عسكرية، لا ملامح لها سوى الخراب. الآليات العسكرية تصول وتجول بلا رحمة، شقا عمري وتعب السنوات في أرض الأجداد كله راح
يشكو المزارع حاله بالقول: "أفسدت الحرب الموسم الحالي، وما أنتجه المحصول لا يتعدى بضعة كيلوغرامات، أوزعها على عائلتي حتى لا يموتوا من الجوع. لا مجال لدي للبيع في الأسواق، وهذا ما عرضني لخسارة كبيرة، وصلت لثلاثة آلاف دولار".
ويشير في حديثه لرصيف22 إلى أنه يواجه صعوبة بالغة في الحصول على المياه للري، فالمصدر الوحيد المتوافر حالياً هو الآبار الجوفية، وبواسطتها يروي الدفيئة مرتين كل أسبوع فقط، في ظل انعدام التيار الكهربائي والسولار لتشغيل المولدات الكهربائية لنقل المياه، في وقت يحتاج فيه المحصول لينضج إلى الري يوماً بعد يوم حتى لا يموت من العطش، كذلك يعاني من قلة توافر الأسمدة والمبيدات الزراعية، لكنه يعلق بقوله" ريحة البر أفضل من عدمه".
ويتابع قائلاً إنه الأقل خسارة بالنسبة لحال أشقائه، إذ جرّف الاحتلال 6 دونمات زراعية من محصول البطاطس وأشجار الزيتون التي تم تضمينها وأحرقها بالكامل.
ونبّه إلى أن تربة الأراضي الزراعية لم تعد صالحة للزراعة بسبب قنابل الفوسفور ورش طائرات الاحتلال مواد سامة على المحاصيل، وتحويلها لأرض محروقة يسهل عليه اجتيازها للدخول لمساحات أكبر للقطاع ضمن خطة الاجتياح البري.
يعتمد الجانب الإسرائيلي على أراضي غلاف غزة بشكل كبير في توفير الأمن الغذائي الزراعي لأسواقه.
"غلاف غزة" والأمن الغذائي
لا تشكل الأراضي الزراعية على طول حدود قطاع غزة الشرقية مصدراً مهماً لسكان القطاع فحسب، بل للجانب الإسرائيلي الذي يعتمد عليها بشكل كبير، لا سيما المناطق التي يطلق عليها "غلاف غزة"، وهي رقعة الخضار للاحتلال تضم حقولاً ومزارع للدواجن والماشية والأسماك، وتشكل نحو 20 بالمئة من الأراضي الزراعية الإسرائيلية.
ووفق ما نشرته صحيفة "غلوبس" المختصة بشؤون الاقتصاد الإسرائيلية مع بداية عملية طوفان الأقصى، فإن أراضي غلاف غزة الزراعية مهمة جداً بالنسبة للجانب الإسرائيلي، وتقول الصحيفة بأنه يعتمد عليها بشكل كبير في توفير الأمن الغذائي الزراعي لأسواقه.
وأشارت الصحيفة، نقلاً عن رئيس اتحاد المزارعين الإسرائيليين، إلى أن 75% من الخضروات المستهلكة في السوق الإسرائيلية مصدرها الأراضي الزراعية في مناطق الغلاف غزة، وتأتي بعد ذلك الفاكهة بنسبة 20%، ثم الحليب بنسبة 6.5 بالمئة.
ومع احتدام وتيرة المعارك ومنع الوصول إلى مساحات واسعة من هذه الأراضي لأسباب أمنية، أدى ذلك خلال الأشهر الثلاثة الماضية إلى قلة توافر المنتجات الزراعية في الأسواق الإسرائيلية، وارتفاع الأسعار بشكل ملحوظ، وزيادة الاعتماد على الاستيراد، مع مخاوف من ازدياد نسبة العائلات التي يمكن أن تعاني من انعدام الأمن الغذائي.
هل من حلول؟
في حديث لرصيف22، يشير المهندس الزراعي ماجد صالح إلى أن القطاع الزراعي في غزة يتعرض لإبادة، فلم تعد التربة صالحة للزراعة، كذلك فقد جزء كبير من المزارعين مصدر رزقهم.
يواجه المزارع حيدر زيدان صعوبة في الحصول على المياه للري، فالمصدر الوحيد المتوافر هو الآبار الجوفية، وبواسطتها يروي الدفيئة مرتين كل أسبوع، في ظل انعدام التيار الكهربائي والسولار لتشغيل المولدات الكهربائية لنقل المياه، في وقت يحتاج فيه المحصول إلى الري يوماً بعد يوم
ويوضح المتحدث بأن أي حلول للأمر مرتبطة مبدأياً بإنهاء الحرب، فجزء كبير من الأراضي الزراعية لا سيما في الشمال تخضع لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي، ولا تستطيع أي مؤسسة إغاثية أو تنموية أو وزارة الزراعة والمزارعون الوصول إليها، فجلها باتت ثكنات عسكرية وأماكن اقتتال.
لكنه في نفس الوقت يشير إلى إمكانية التعاون مع مؤسسات دولية لاعتماد خطة طوارئ للمزارعين، على الأقل لحماتيهم من الجوع بتوفير مصدر دخل لهم، بعد أن كان اعتمادهم الوحيد على العمل الزراعي.
ويتابع: "تجب مضاعفة المعونات المقدمة من الجهات المانحة، فلا تقتصر على الغذاء بل تشمل تقديم أدوات الزراعة وخراطيم المياه، وتوفير بديل عن الكهرباء والاعتماد على وسائل الطاقة الشمسية، لمساعدة المزارع في تشغيل مولدات كهرباء لضخ المياه عبر الآبار الجوفية للري".
ومن الحلول التي يطرحها إعادة استخدام المياه المعالجة للزراعة، بإنشاء محطات لمعالجة مياه الصرف الصحي، لإيصال مياه للأراضي التي لم تتعرض للتجريف لحمايتها من الجفاف. ويطرح إمكانية عقد اتفاقيات شراء مياه من مصر.
يجب تقديم أدوات الزراعة وخراطيم المياه، وتوفير بديل عن الكهرباء للمزارعين.
أما عن معالجة التربة، فيشير المهندس إلى ضرورة أخذ عينات من الأراضي الزراعية التي تعرضت لكميات كبيرة من الأسلحة والفوسفور الأبيض وفحصها في مختبرات علمية، لمعرفة طبيعة المواد المتفاعلة ومعالجتها، وهذا بالطبع يحتاج جهوداً من مؤسسات دولية وعالمية، لأن الإمكانات في غزة ضعيفة.
كما يوصى بضرورة تطبيق خطة المكافحة الكاملة عبر استخدام معالجات التربة، والحد من استخدام الأسمدة الكيماوية، وزراعة محاصيل زراعية تتحمل ملوحة التربة، وهذا من شأنه التقليل من الأضرار إلى حد ما وفق الظروف المتاحة في القطاع.
ويطالب الحماية من القانون الدولي لمنع الانتهاكات بحق الأراضي الزراعية والمزارعين وقت الحروب، وعلى رأس ذلك تطبيق القانون الذي يمنع استخدام أي مواد كيماوية وأسمدة ضارة بعد الحرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه