كثيرة هي المشاعر والأفكار التي تنبثق من كل تجربة عبور جندري. صعوبة هذه التجارب تمتد من الجسد العابر إلى المحيط الحميم القريب منه فالوسط الاجتماعي الأكبر، لتجعل منها محنةً تخاض على مستويات عدة.
الكاتب المسرحي الأردني رفاييل خوري، قادم من هذه الصعوبة، فبرغم مغادرته بلاده قبل سنوات طويلة وانتقاله للعيش في برلين بعد رحلة تعددت محطاتها الجغرافية، إلا أن تجربته في المسرح لا تزال تتعثر لعوامل عدة لعلّ أهمها قراره العبور.
لم يترك خوري للتحديات أن تتحكم في مصير حكايته وحكايات عابرين وعابرات التقاهم في طريقه، فحوّل الكثير منها إلى كتابات بعضها نُفّذ على خشبة المسرح، ولعل أهمها مسرحية "هي هو أنا".
المسرح... إدمان
يصف الكاتب المسرحي الوثائقي رفاييل خوري، في حواره مع رصيف22، علاقته بالمسرح بأنّها "إدمان"، ونوع من الشغف الذي سكنه منذ سنوات طفولته ولا يعرف مصدره، لا سيما أنه نشأ في السعودية، حيث كانت الأجواء محافظةً ولم يكن المسرح أو السينما جزءاً منها في مراحل طفولته المبكرة.
يقول المسرحي الأردني المقيم في برلين: "قررت أنني سوف أصير ممثلاً وأنا في السادسة من عمري".
مع مراهقته انتقلت العائلة للعيش في الأردن، وهناك التحق رفاييل بالأوركسترا الوطنية عازفاً على آلة البوق الفرنسية.
ساهمت مشاركته في الحفلات الموسيقية في جعله يعتاد على الأداء أمام الجمهور، وربما أججت شرارة تعلّقه بالخشبة.
"المسرح هو شيء طقوسي وشعائري، كما أنه ارتبط تاريخياً بالمجتمع الكويري والعابرين/ ات جنسياً، قبل أن يتحوّل في يومنا هذا إلى مكانٍ لافظٍ للمثليين/ ات، ومتحيّز جنسيّاً ورأسمالي مسيّس"
برغم تعلّقه الشديد بالمسرح، مضى وقت طويل على صعوده الخشبة. الأسباب كثيرة، أهمها أن المسرح لا يمكن أن يكون مصدراً للدخل، بحيث يكتفي به الفنان عملاً. لكن رفاييل يصرّ على الاستمرار في عمله المسرحي: "هو أشبه بحبٍّ من طرفٍ واحد لا يمكنني التوقّف أو الابتعاد عنه".
يرى خوري أن المسرح أشدّ واقعيّةً من الحياة: "هو شيء طقوسي وشعائري، كما أنه ارتبط تاريخياً بالمجتمع الكويري والعابرين/ ات جنسياً، قبل أن يتحوّل في يومنا هذا إلى مكانٍ لافظٍ للمثليين/ ات، ومتحيّز جنسيّاً ورأسمالي مسيّس"، عادّاً أنّ المسرح شهد تحوّلاً كبيراً عبر التاريخ جعله يفقد جوهره الفنّي الحقيقي.
تصوير Marion Aguas
الأدوار الجندرية التقليدية دفعتني للإخراج
أراد خوري أن يكون ممثلاً، وذلك قبل أن يرفض والده الأمر بسبب هويته الجنسية والجندرية حينها: "حين كان عمري 18 عاماً، سألني والدي: ماذا تريدين أن تدرسي؟ فأجبت: المسرح، وعلى الفور وبلا تردد أجاب والدي: لا. صُدمت وقتها من هذا القرار الحاسم لديه". انتهى الأمر بأن درس خوري الإعلام في الجامعة الأمريكية اللبنانية في بيروت، غير أنه التحق في أثناء ذلك بورش متخصصة في فنون المسرح.
كان موضوع الجندر تحدّياً آخر بالنسبة له للتمثيل: "الأدوار كلها كانت للبنات. لم تكن هناك أدوار للمثليات، لم تكن هناك شخصيات مثلية في الأعمال المسرحية التي حضرتها أو قرأتها آنذاك". شعر خوري بأن الإخراج يمكن أن يكون المدخل الصحيح لإدماج أدوار أكثر للمجتمع المثلي في المسرح: "أصعب شيء بالنسبة لي الكتابة، لأنها تضعني خلف الشاشة بعيداً عن المسرح، ما تسبب لي بنوع من الإحباط. الآن أعمل على مسرحية جديدة وسأعود من خلالها إلى خشبة المسرح وأنا متحمس لها".
"لم أكتب مسرحياتي للجمهور الأوروبي، بل كتبتها لنا نحن العرب. بالطبع، تهمّني ردود الأفعال في أوروبا على أعمالي، لكن لنتخيل مدى قوتها وأهميتها عندما تأتي من الناس الذين ننتمي ونتوجه إليهم، وعندما تُكتب بلغة من نشاركهم/ نّ الثقافة والتجارب"
في تلك المرحلة، تلقّى رفاييل تدريباً مع مخرجة المسرح اللبنانية لينا الأبيض، في بيروت، لخمس سنوات تقريباً، لكنه لم يجد النص الذي يعجبه: "النصوص التي كانت تُقترح عليّ لم تكن تشبهني"، وفق قوله.
وخلال أحد مهرجانات المسرح في الإسكندرية، صادف أن شاركت فيه محاضرة من ألمانيا تناولت في محاضرتها موضوع المسرح الوثائقي. شعر خوري بأن هذا الشكل هو ما يبحث عنه، ويمكنه من خلاله كتابة مسرحيات عن قصص وقضايا الجندر ومجتمع الميم-عين، خاصةً أنه يرى أنّ المسرح وسيلة ليس فقط لجعل الأشخاص يشاهدون ويفهمون حياة الكويريين والكويريات، بل أيضاً لأجل المجتمع الكويري، بهدف المطالبة بمساحة للكويريين/ ات في المسرح.
يكشف رفاييل عن أولى تجاربه في كتابة النصوص المسرحيّة، بين عامي 2008 و2009. كانت هناك مجموعة اسمها "ميم"، وكانت عبارةً عن بيت للمثليات في مار مخايل: "تعرفت فيه إلى سيدة جزائرية عابرة جنسيّاً، أتت إلى لبنان لأسباب تتعلّق بسلامتها. عندها بدأت أفكر لماذا لا أطرح عليها الأسئلة وأقوم بكتابة نص عن حياتها؟ لاحقاً، قررت أن أضمّ إلى المسرحية شاباً لبنانياً عابراً جنسيّاً، كان موجوداً في المجموعة نفسها، وهكذا بدأت أجمع قصص الأفراد، وبدأت الحكايات والقصص تقود بعضها البعض، كما المسرحيات".
الرقابة
يتحدث رفاييل خوري عن الرقابة في لبنان ويقول: "من خلال عملي مع المخرجة لينا الأبيض، عرفت مدى شدّة الرقابة في لبنان، واكتشفت كم هي صارمة".
في العام 2014، عمل رفاييل على مسرحية بعنوان “No Matter Where I Go" في الجامعة الأمريكية في بيروت (AUB)، تناولت قصص النساء الكويريات.
يتأسّف خوري لاضطرارهم/ نّ إلى عرض هذه المسرحية بشكل مغلق، نظراً إلى أن الممثلات اللواتي شاركن فيها لم يكن بإمكانهنّ الظهور على المسرح بسبب الخوف من عائلاتهنّ وفقدان وظائفهنّ، ما اضطر المنظمين إلى جعل العرض مقتصراً على بعض الدعوات الخاصة.
تصوير Marion Aguas
في هذا الصدد، يشير إلى أنّه عادةً ما تُقام مثل هذه المسرحيات في لبنان بشكل سرّي دون دعوة أي جهات إعلامية: "لهذا ليس لدي أي صورة تثبت أنني قمت بإخراج المسرحية، لأن الوضع كان حساساً إلى هذا الحد، وكان هذا أول عرض أخرجه وليس لدي أي إثبات على حدوثه".
بعد هذه التجربة، قاد اليأس رفاييل إلى التوقف عن العمل المسرحي: "كنت متحمساً لهذه المسرحية، لكنني لم أتمكن من إنتاجها. كما لم أجد طريقةً لحماية الممثلات اللواتي يعملن معي. وكان من الصعب جداً تقديم عمل مسرحي عن المجتمع الكويري في تلك الظروف"، مضيفاً أنّه لم يستطع إخراج مسرحية "هي هو أنا"، التي تتناول موضوع العبور الجنسي: "في ذلك الوقت، لم يكن ثمة مخرج/ ة مستعد/ ة لتولّي إخراج هذه المسرحية، وكنت أمر بظروف صحية منعتني من القيام بالإخراج بنفسي، بجانب غياب التمويل وأسباب أخرى".
مع استمرار الحرب في سوريا وانتقال العديد من أصدقائه من دمشق إلى ألمانيا، بدأ الأخيرون بتشجيعه على الهجرة إلى هناك: "كنت محظوظاً بامتلاكي جواز سفر ألمانياً لكون والدتي ألمانيةً".
كان رفاييل مستعداً لاكتشاف ألمانيا التي لم يكن يعرفها، وأكثر ما كان يودّ التعرف إليه هو مسرحها: "قلت ربما أتمكن من القيام بأعمال مسرحية في ألمانيا. فبالنسبة لي، لم أكن قادراً على العمل المسرحي في لبنان أو أي دولة عربية أخرى، ومع تدهور الوضع الاقتصادي في لبنان وتوافد اللاجئين/ ات، لم أعد أرى أي مستقبل لي في هذا البلد أو أي بلد عربي آخر. لم يكن لدي ما أخسره، فجئت إلى ألمانيا".
وفي هذا الإطار، يؤكّد خوري أنّ الاهتمام الكبير الذي توليه الرقابة للمسرح هو دليل على مدى تأثيره وأهميته: "لم أكتب مسرحياتي للجمهور الأوروبي، بل كتبتها لنا نحن العرب. بالطبع، تهمّني ردود الأفعال في أوروبا على أعمالي، لكن لنتخيل مدى قوتها وأهميتها عندما تأتي من الناس الذين ننتمي ونتوجه إليهم، وعندما تُكتب بلغة من نشاركهم/ نّ الثقافة والتجارب".
في أوروبا الوضع ليس أفضل
لا شكّ أن النظرة إلى العالم الأوروبي من حيث حريات الرأي والتعبير تغيرت مع موقف المؤسسات الإعلامية والثقافية من الإبادة في غزّة. وقد رأينا كيف فُرضت الرقابة المشددة على العديد من الأعمال والعروض الفنيّة المؤيدة لفلسطين وكيف حُجب الكثير منها.
صحيح أن الرقابة على المسرح بمعناها المباشر ليست موجودةً في المؤسسات الأوروبية، ولكن هناك نوعاً من الرقابة غير المباشرة كحجب تمويل بعض العروض أو رفضها بحجج غير منطقية قائمة على العنصرية. وهنا يشرح خوري: "عندما أرسلت نص ‘هي هو أنا’ إلى دور النشر في ألمانيا، أكدت دار النشر أن المسارح الألمانية لا تضمّ ممثلين/ ات من ذوي/ ذوات البشرة الملونة، ولذلك لا يمكنها نشر المسرحية. ولكن هذا ليس صحيحاً... إذا كانت دور النشر تمنع المسرحيات قبل أن تصل إلى المسارح، فكيف إذاً سنحصل على مسرحيّات متنوّعة شاملة لكلّ الفئات؟".
"أتمنى أن يأتي يوم يخبرني فيه أحد بأن ابنه أو ابنته عابر أو عابرة جنسياً، وأن المسرحية ساعدته في فهم كيفية التعامل مع ذلك ومعرفة وجهة نظر أبنائهم وبناتهم وفهمها"
كعابر جنسي يعيش في برلين، لم يشاهد خوري ممثلاً عابراً على المسرح في ألمانيا سوى مرة واحدة فقط، ولم يشاهد أي مسرحية مكتوبة تتعلق بالعابرين والعابرات. يتساءل: "لماذا لا نراهم/ نّ؟".
تتجلى الرقابة في أوروبا عادةً في الممارسات، وبحسب خوري فإن إقصاء العابرين والعابرات من الفضاء المسرحي يحدث بشكل غير مباشر، مشيراً إلى أن نسبة البطالة بين العابرين والعابرات في ألمانيا تصل إلى 40%، ما يعني أن الفرص للوصول إلى مدارس التمثيل والمسرح نادرة وصعبة، فعملية العبور بحد ذاتها لا تنتهي بسهولة، إذ تتطلب العديد من الإجراءات والأوراق والتحديات التي تستمر لسنوات. هذه المتطلبات تستهلك الوقت والطاقة، ما يجعل دخول مجال المسرح صعباً، ناهيك عن التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه المجتمع الكويري.
برغم الإنجازات والمحاولات
من أكثر اللحظات المؤثرة في خوري، عندما طلبت منه إدارة أحد المسارح في النمسا، في عام 2019، إخراج نص "هي هو أنا". يوضح: "أن أرى جمهوراً نمساوياً يشاهد قصةً لبنانيةً أردنيةً جزائريةً، ويتفاعل بصدق معها ويتعاطف مع شخصياتها، فهذه لحظة عظيمة بالنسبة لي"، عادّاً أن فرصة عرض مسرحيّته القادمة من بيروت كانت إنجازاً كبيراً "خاصةً أنها كانت من أكثر العروض نجاحاً في النمسا عام 2019".
يلاحظ خوري أن المراهقين/ ات هم/ نّ أكثر اهتماماً بحضور مسرحياته، وهناك أقليات من العرب مهتمة بحضور المسرح الكويري، ويستدرك بالقول: "لكن علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا، المسرح هو نشاط نخبوي ومعظم من يشاهدون المسرحيات يأتون من خلفيات ثقافية وتعليمية معيّنة، بحيث يكون هؤلاء الأشخاص أكثر انفتاحاً بشكل عام على مواضيع وقضايا مختلفة".
يحلم خوري في أن يأتي يوم تُعرَض فيه إحدى مسرحياته في بلد عربي، وأن يكون بين الحضور أهالي العابرين والعابرات: "مسرحيتي ‘هي هو أنا’ تتناول صراع الأهالي مع أبنائهم وبناتهم، وكيف ينظر الأهالي العرب إلى هذا الموضوع، ولذلك أتمنى أن يأتي يوم يخبرني فيه أحد بأن ابنه أو ابنته عابر أو عابرة جنسياً، وأن المسرحية ساعدته في فهم كيفية التعامل مع ذلك ومعرفة وجهة نظر أبنائهم وبناتهم وفهمها".
"أنا أحارب من أجل استرجاع مكاننا وقصصنا في المسرح، لأنني جزء من هذا الفن، والمسرح صُنع من قبل العابرين/ ات والمجتمع الكويري تاريخيّاً"
يعمل خوري اليوم على مسرحية جديدة ستكون جاهزةً خلال شهر أيلول/ سبتمبر 2024، وتحمل رسالةً مفادها أن المسرح فقد جذوره الكويرية: "هي تأكيد على أن المجتمع الكويري والعابرين والعابرات لديهم/ نّ مكان ومساحة في المسرح. أنا أحارب من أجل استرجاع مكاننا وقصصنا في المسرح، لأنني جزء من هذا الفن، والمسرح صُنع من قبل العابرين/ ات والمجتمع الكويري تاريخيّاً"، موضحاً أنه عاد إلى المسرح الإغريقي الذي كان يُعدّ عبادةً للإله ديونيسوس، الذي كان يُعتقد بأنه قادر على العبور من ذكر إلى أنثى. وكانت الطقوس في هذا المسرح تتميز بطابع كويري بامتياز، ما يوضح أن المسرح الكويري وجد جذوره مع اليونانيين القدماء.
وفي الختام، يؤكد رفاييل خوري أن هذه المسرحيّة بمثابة تذكير بالتاريخ، وأن المسرح انطلق من المجتمع الكويري: "كيف يمكن لأي أحد القول بأننا لا نستحق أن نكون جزءاً من المسرح بينما نحن الذين/ اللواتي أنشأناه في الأصل؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.