استغرقت وقتاً طويلاً كي أكتب عن تجربتي منذ اللحظة التي سمعت فيها من طبيبتي النسائية عن إصابتي بمرض فيروس الورم الحليمي HPV، نتيجة سلوكياتي "المندفعة" التي يستفزّها مرضي النفسي، اضطراب الشخصيّة الحديّة، الذي شُخّصت به قبل ثلاث سنوات من قِبل عدد من المعالجين النفسيين. لديّ الكثير لأحكيه عن تأثير سلوكياتي هذه على صحتي النفسي، من وجهة نظري، لكني مؤخراً وبسبب ممارستي الجنس غير الآمن، وأحياناً تعاطيَّ المخدّرات، عرفت أنّ هذه السلوكيّات أثّرت على صحّتي الجسديّة.
استغرقت وقتاً طويلاً كي أستوعب وأحلّل أزماتي النّفسيّة والتّجارب القاسية التي مررت بها، والتي هي أكبر من قدرتي على الوصف. استغرقت وقتاً طويلاً كي أتقبّل حقيقة أن مجمل أفكاري عن ذاتي وسلوكي مشوّهة بالكامل، وبحاجة إلى إعادة ترتيب، وأنني لو بقيتُ ألف عام أشرح بأنّ هناك جزءاً ناقصاً في تلك الأحجية، وهي ذاتي، فلن يفهمني أحد.
تصف المعالجة النفسية الأمريكية مارشا لينيهان، التي أصدرت العديد من الكتب حول العلاج الجدلي السلوكي للمصابين باضطراب الشخصية الحديّة، بأنهم "يشبهون الأشخاص المصابين بحروق من الدرجة الثالثة في أكثر من 90% من أجسادهم، ولأنهم يفتقرون إلى الجلد العاطفي، فإنهم يشعرون بالألم عند أدنى لمسة أو حركة".
ارتياب وقلق واغتراب
في الحقيقة، لا يُعدّ تشخيص اضطراب الشّخصيّة الحدّية سهلاً، وذلك لاشتراكه في بعض الأعراض مع اضطرابات أخرى، مثل اضطراب ثنائي القطب، ولكن، يتميّز اضطراب الشخصيّة الحدّية بوجود نمط ثابت من السلوكيّات يؤثّر بشكل أساسي على علاقات المريض مع الآخرين، فهو يؤثّر في أفكار الناس وعواطفهم وسلوكيّاتهم، ما يجعل من الصعب عليهم التأقلم في العديد من مجالات الحياة، الاجتماعيّة والنفسيّة، والعاطفيّة بالذات. وأنا شخصيّاً أشعر في معظم الوقت بعدم اليقين بشأن نفسي، وعلاقتي معها، ومع الآخر، وغالباً ما أجد صعوبةً في التحكّم في مشاعري ورغباتي.
أستطيع القول إنّ تاريخي في البيئة التي نشأت فيها، والمرّات التي تلقّيت فيها ضرباً من والدتي، والتّجارب العاطفيّة السيّئة، سممّتني لسنوات طويلة، فمثلاً أوّل تجربة عاطفيّة اختبرتها كانت مع شخص نرجسيّ يشحذ الحبّ طوال الوقت، ولا يهتمّ إلّا بنفسه واحتياجاته الخاصّة. كنت أعاني من سوء التّقدير، وأمنح طوال الوقت الحبّ والمشاعر والاهتمام دون مقابل.
يقول الطبيب النفسيّ الأمريكيّ أدولف ستيرن، رائد مصطلح "اضطراب الشخصيّة الحدّية"، إنّ معاناة هؤلاء المرضى بشعورهم العميق بالفراغ والوحدة تنبع من شعورهم بـ"الاغتراب" عن ذويهم منذ سنّ مبكّرة، لذا يميلون إلى تقليص علاقتهم الشخصيّة؛ بسبب حساسيّتهم المفرطة تجاه الرفض، ومع ذلك، فإنّ الوحدة ليست خياراً سهلاً أو مريحاً لهم، بل إنّ الألم الناتج عن خطر الرفض المتأصّل في العلاقات يكون شديداً لدرجة أنّه يصبح غير محتمل.
وبالفعل، كنت أعاني من حالة رفض مستمرّ مع كل محيطي، بدءاً من العائلة والأصدقاء في المدرسة والجامعة، وصولاً إلى العلاقات العاطفيّة التي خضتها مع الرجال، وانفصالي عن الواقع والمجتمع، ولم أشعر بالانتماء قط إلى شيء في حياتي، كأنّ هناك جداراً يفصلني عن كلّ شيء، كأنّ حياتي بدأت بالتصدّع والتحوّل تماماً في سنّ صغيرة. المنزل كان الخيار الأسوأ لأكون أنا، والمدرسة كانت مكاناً للشّعور بالوحدة أكثر. تعرّضت للضرب من زميلاتي في المدرسة بسبب شخصيّتي الضعيفة، ولم أكن أعلم كيف أنتمي إلى مجموعة، أو حتّى تكوين صداقات مع أحد.
كنت طفلةً معنيّةً بلفت الانتباه، ومع هذا التوتّر المحموم، وجدت نفسي أبدّل بشكل مستمرّ من طبيعة ملبسي، ومظهري، وأساليبي في الحياة في العموم، بل وصل الأمر إلى تغيير اسمي، واتّباعي طريق شخص آخر في الحياة، وتبنّيها بالكامل، وتبديل أهدافي من وقت إلى آخر.
فيروس الـHPV نتيجة السّلوك "المندفع"
أستطيع القول إنّ تاريخي في البيئة التي نشأت فيها، والمرّات التي تلقّيت فيها ضرباً من والدتي، والتّجارب العاطفيّة السيّئة، سممّتني لسنوات طويلة، فمثلاً أوّل تجربة عاطفيّة اختبرتها كانت مع شخص نرجسيّ يشحذ الحبّ طوال الوقت، ولا يهتمّ إلّا بنفسه واحتياجاته الخاصّة. كنت أعاني من سوء التّقدير، وأمنح طوال الوقت الحبّ والمشاعر والاهتمام دون مقابل.
في الحقيقة لم أحظَ مُطلقاً بعلاقة كان يهتمّ فيها الشّخص بمشاعري وذاتي. كنت أتعرّض للنقد دائماً، ولم أشعر بأنّي كافية أبداً ولا حتّى لنفسي. كنت أعيش طوال الوقت في علاقات غير مستقرّة، وغير آمنة، ومندفعة كثيراً على نحوِ يجرّني إلى الهاوية، وأخاف الهجران لأنّني هُجرت مرّات عديدةً. حالة الاستقرار العاطفيّ تلك جعلتني أميل إلى الانخراط في سلوكيّات اندفاعيّة ومتطرّفة، مثل ممارسة الجنس غير الآمن وتعاطي المخدّرات بشكل مُفرط، ومحاولات عديدة لإيذاء نفسي، والتّفكير في الانتحار.
قبل خمسة أشهر، أخبرتني طبيبتي أنّني مُصابة بفيروس الورم الحليمي HPV، وهي عدوى فيروسيّة تُصيب النساء نتيجة ممارسة الجنس غير الآمن والمحفوف بالمخاطر، ومع شركاء عديدين من دون واقٍ ذكريّ، ولهذا الفيروس أنواع عديدة بعضها يسبّب ظهور ثآليل حول الأعضاء التناسليّة، وتسبّب بعض الأنواع الأخرى سرطان عنق الرحم، وهو ثاني أكبر أنواع السرطانات شيوعاً لدى النساء.
يقول الطبيب النفسيّ الأمريكيّ أدولف ستيرن، رائد مصطلح "اضطراب الشخصيّة الحدّية"، إنّ معاناة هؤلاء المرضى بشعورهم العميق بالفراغ والوحدة تنبع من شعورهم بـ"الاغتراب" عن ذويهم منذ سنّ مبكّرة، لذا يميلون إلى تقليص علاقتهم الشخصيّة؛ بسبب حساسيّتهم المفرطة تجاه الرفض، ومع ذلك، فإنّ الوحدة ليست خياراً سهلاً أو مريحاً لهم، بل إنّ الألم الناتج عن خطر الرفض المتأصّل في العلاقات يكون شديداً لدرجة أنّه يصبح غير محتمل.
أخبرتني طبيبتي حينها بأنّ معظم الأشخاص الذين يصابون بالفيروس لا يُظهرون أيّ أعراض، وقد يشفون من العدوى دون الحاجة إلى علاج. ومع ذلك، يمكن أن تتطوّر العدوى المستمرّة بأنواع الفيروس المُسرطنة إلى حالات سرطانيّة إذا لم تُعالج، حيث تشير الدراسات إلى أنّ الفيروس مسؤول عن أكثر من 90% من حالات سرطان عنق الرحم والشرج، وما يُقارب 70% من حالات سرطان الفرج والمهبل.
طلبت الطبيبة منّي إجراء فحص المِنظار المهبليّ، وهو وسيلة غير جراحيّة تسمح للطبيب بفحص عنق الرحم عن طريق عدسة مُكبّرة مُضيئة تُشبه المنظار وبأخذ "خزعة" للسماح بفحص المنطقة التي استقرّ فيها الفيروس بهدف التشخيص المبكّر لسرطان عنق الرحم، خصوصا أنّني لم أتلقَّ اللقاح الخاص بالفيروس من قبل.
أتذكّر شعوري بالخوف حينها وأنا أغادر عيادة طبيبتي. تثاقلتْ خطواتي كثيراً يومها ودخلت في نوبة بكاء هستيريّة. شعرت بالوصمة والعار، وبدأت بممارسة هوايتي المفضّلة، وهي جلد الذات، ورحت أتساءل: لِمَ فشلتُ إلى هذا الحدّ في حماية نفسي؟
نشأت في بيئة عربيّة، ومن عائلة محافظة، ويمكنني القول إنّ لمس جسدي والحديث عن الصحّة الجنسيّة يكادان أن يكونا من المُحرّمات، ونظراً إلى أنّني نشأت بين إخوة رجال كثُر، كنت مقيّدةً بطريقة لبسي في المنزل كي لا تظهر "مفاتني" على حدّ قول أمّي. الحديث عن الدورة الشهريّة أمر في غاية الصعوبة، والحديث عن الجنس يكاد يكون مستحيلاً.
لم أكن أعرف جيّداً ماذا أحبّ في جسدي، والخوف من الأحكام الاجتماعيّة والعائليّة كان مصدر قلقي كلّ يوم، ففي النهاية مَن منهم يمكنه أن يتقبّل أنّني مارست الجنس، وأصبتُ بفيروس ينتقل عن طريق الممارسة؟ كلّ هذا دفعني للشعور بالعزلة أكثر، وتردّدت كثيراً في الذهاب للفحص بسبب الخوف من الكشف عن الإصابة.
في منطقتنا العربيّة، غالباً ما تُعاني النساء من "وصمة العار" المرتبطة باكتشاف الإصابة بالأمراض المنقولة جنسيّاً، خوفاً من أحكام المجتمع القاسية، بدءاً من الطبيب والمتخصّص في التحليلات المختبريّة، مروراً بنظرات موظّفة الاستقبال التي تسلّمك النتيجة! ومع غياب التوعية الجنسيّة لا يمكن الانتباه إلى ضرورة الفحص المستمرّ واتّخاذ إجراءات الوقاية في وقت مبكّر.
غالباً ما يُنظر إلى من تقدّم لِتلقّي اللقاحات الخاصّة بالأمراض المنقولة جنسيّاً، على أنّه "مثير للاشمئزاز"، وبالنسبة لي تجاوزَ الأمر كونه مجرد شعور بوصمة في داخلي، إلى تساؤلات وقلق أكبر حول كيف سيكون شكل الحياة بالنسبة لي كامرأة بعد إصابتي؟ هل سأحظى بحياة طبيعية؟ هل سأنجب أطفالاً، وأكوّن أسرةً سعيدةً يوماً ما؟ ماذا لو لم يحدث ذلك كلّه؟ هل سأكون قادرةً على مشاركة الشريك هذه التجارب كلّها؟ هل سيحاول أن يفهم قصّتي؟ هل سيفهم مرضي النفسيّ واضطرابي؟
أغضب بسرعة خارجيّاً وداخليّاً، في مواقف لا تستدعي أبداً حدّة الشعور هذه. لا أستطيع التحكّم بغضبي، وأشعر بأنّني في حلبة مُصارعة، أتشاجر فيها مع كل شخص أمامي، وفي الحبّ أخشى الهجران والرفض، وتصبح الحياة عبارةً عن حوارات متكرّرة كثيفة تتضمّن أسئلةً من نوع "هل تحبّني؟ هل أنا جميلة؟ هل أستحقّ الحبّ؟ هل أنا كافية لك؟"، وأخوض التجربة وكأنّني في سباق، وأسأل، هذه المرة: من سيكون الخاسر الأوّل؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.