"علينا أن نستأصل الرّحم"؛ هكذا من دون مقدّمات صعقني طبيبي النّسائي. إذ إن فحصي السنوي النّسائي، الذي أجريه في وقته دوماً، أظهر إصابتي بفيروس hpv، الذي يصيب 80% من النّساء من خلال العلاقة الجنسيّة، والذي لقلّة علمي هو سبب في إصابة بعض النّساء بسرطان عنق الرّحم وسرطان الرّحم. وهناك أكثر من 100 نوع من فيروس الورم الحليمي البشري hpv، وهو عدوى فيروسية بعضها يسبّب الثآليل، وبعضها الآخر يمكن أن يسبّب الإصابة بأنواع مختلفة من السّرطان.
يبدو أنّني من النوع الذي يقوى عليه هذا الفيروس، فالفحص التالي أثبت أنّني أدخل مراحل تطوّر المرض بسرعة قياسية. ارتأى طبيبي أنّ الأنسب والأضمن أن يُستأصل رحمي حتى أكون "في السليم"، على حدّ قوله.
هذه ليست سنتي، مع أنّني استهللت أول شهورها بمناقشة رسالتي وحصلت على شهادة الماجستير في الإعلام، لكن يبدو أن للقدر رأياً آخر.
مبتورة الشعور خرجت من عيادته، أحاول استجماع تنفّسي، فيما تغصّ أفكاري بمئة سؤال وسؤال: لماذا أنا؟ لم الآن؟ ماذا سأفعل؟ ماذا لو كنت مصابةً بالسّرطان وطبيبي لم يشأ إخباري لأنّني كنت وحدي؟
لم أتّصل بزوجي. عرفت أنّه سيغضب، فهو -على الرغم من أن لدينا ابنتين وولداً- لا يزال يريدني أن أنجب أخاً لابننا الوحيد، وبحالتي هذه أصبحتُ عائقاً أمام مشروعه.
هاتفت صديقتي الحميمة، التي تلقّت الخبر بهدوء غريب، وبكلّ جدّيّة نصحتني بأن أستمع إلى طبيبي العالم بخفايا هذا الفيروس.
إلى العملية درّ
عوض أن أهدأ، استنفرت، وقررت مراجعة طبيب آخر، على عجل. وهكذا فعلت! ذهبت، كما نفعل نحن أبناء القرى النائية، إلى بيروت لاستشارة طبيب مشهور متخصص في سرطان الرّحم. لكن لخيبتي، كان كلامه مطابقاً لكلام طبيبي، لا بل أرهبني حديثه عن أن الوقت ليس لصالحنا، وأن علينا استئصال الرّحم بأسرع وقت حتّى لا نخاطر. عندما عرف زوجي، غضب، واستنكر، وبكى… ثمّ هدأ وقال: "صحّتك أهمّ من أحلامي"، ورافقني إلى المستشفى لإجراء العملية.
لم أرد أن أستعلم عن تفاصيل عمليتي على الإنترنت. أردت أن أبقى جاهلةً خباياها، فهكذا يخفّ توجّسي. كانت عملية بالمنظار، طالت أكثر من اللّزوم، خرجت منها بإحساس متناقض، فأنا الآن أعود إلى حياتي بجسم ناقص أنثوياً، والميعاد سيختفي، وسأدخل باكراً سنّ اليأس التي أهابها. طبعاً بكيت عندما غادر الجميع غرفتي. بقيت وحدي ألملم شتات انفعالاتي المتزاحمة، وأحاول وضع الأمور في نصابها الصحيح. وبعد مدّ وجزر في عقلي هدأت، وبعقلانية ما كنت أعلم أنها موجودة عندي، صرت أرى النصف الملآن من الكأس أيضاً: فأنا عرفت مبكراً أنّني قد أصاب بسرطان الرّحم فيما نساء كثيرات غيري يأكلهنّ المرض قبل أن يكتشفن إصابتهن ويكون الأوان قد فات.
أنا محظوظة لأنّني سأعود إلى أولادي بعد وقت قصير، ولو بعضوٍ ناقص، لكن بصحة جيّدة تخوّلني الاهتمام بهم كما في السابق.
لقاح لا بدّ منه
طويلة أيام المستشفى وعسيرة، عدت بعدها إلى منزلي كالعائد من سفر بعيد، وعندما استقبلني أولادي تلاشى ألمي الجسديّ والنفسيّ، وابتسمت من قلبي لأوّل مرة منذ ثلاثة أيام.
تغيّرت حياتي الخاصة، لا شكّ، مع تذمّر زوجي من إهمالي إياه على الرّغم من أنّني شرحت له مفاعيل هذه العملية هرمونياً على رغبتي الجنسيّة. الرّجال أفكارهم محصورة في عضوهم ورغبتهم، والباقي تفاصيل سخيفة لا تعنيهم!
لكنّ تركيزي اليوم منصبّ على ألّا تتغيّر حياة بيتي، وعلى ألّا يشعر أولادي بمزاجي المتحوّل بفعل سن اليأس المبكرة، وألّا أسمح لاكتئابي العابر بأن يؤثر على جوّ المنزل. على زوجي أن يتريّث قليلاً في مطالبه الزّوجيّة، وأن يعرف أنّني ربما لن أعود إلى طبيعتي السابقة تماماً حتّى يتقبّلني كما أنا بطبيعتي المستجدّة.
وعلى هامش كلّ ما حصل لي ويحصل، اقتنعت أكثر فأكثر بقراري السليم الذي اتخّذته قبل ثلاث سنوات بتلقيح ابنتيّ ضدّ هذا الفيروس، القاتل الصّامت، على الرغم من معارضة زوجي وتشكيك أمّي في جدواه. لا بل أنا سعيدة لأنّني أعلم أنّ ابنتيّ الآن محصّنتان أقلّه ضدّ هذا الفيروس الذي عاث خراباً في رحمي.
بكيت عندما غادر الجميع غرفتي. بقيت وحدي ألملم شتات انفعالاتي المتزاحمة، وأحاول وضع الأمور في نصابها الصحيح. وبعد مدّ وجزر في عقلي هدأت، وبعقلانية ما كنت أعلم أنها موجودة عندي، صرت أرى النصف الملآن من الكأس أيضاً: فأنا عرفت مبكراً أنّني قد أصاب بسرطان الرّحم فيما نساء كثيرات غيري يأكلهنّ المرض قبل أن يكتشفن إصابتهن ويكون الأوان قد فات.
وطبعاً سأتابع تثقيفهما على أهمية إجراء الفحص السّنوي النّسائي الذي يكشف باكراً عن أيّ تغيّرات مَرَضيّة، مع التشديد على المتابعة الدائمة عند الطّبيب المختص، ما يمكن أن ينقذ حياتهما.
ماذا بعد!
يقول طبيبي إنّ الأمور بخير، لكنّني بحاجة إلى ورقة تؤكّد هذا الأمر بما لا يقبل الشكّ، لذا أترقّب نتائج التحاليل التي أُجريت لي بعد العملية حتّى أستطيع المضي قدماً. لا نعلم ما ينتظرنا، وما تخبّئه لنا الحياة. الجهل متعب حيناً، ومريح في أكثر الأوقات. ما أجمل أن نحيا غير مكبّلين بمستقبل مظلم. أن نحيا من دون قيود ما قد يحصل. أن نحيا فقط ولو على أمل ساذج في أن الآتي أجمل.
كلّ تجربة خضتها في حياتي مهما كانت صعبةً، وما أكثرها تجاربي، خرجت منها أقوى. لم يكسرني شيء بعد، على الرّغم من ظروفي المتحوّرة. لا أزال أقف على الرّغم من كلّ مخاوفي وتوجّساتي كسنديانة تتصدّى للرّيح كلّ يوم.
تعلّمت أن الحياة فصول، وكلّ فصل يختلف عن الآخر، وما قد نراه نهايةً قد يكون فعلياً فرصةً علينا أن نغتنمها لبداية جديدة، وأن نغيّر مسارنا إذا لزم الأمر، وأن نناور القدر قليلاً.
عندما قلت لصديقتي: ليست سنتنا عزيزتي! ردّت بابتسامتها المعهودة: سوف ننظر إلى هذا العام بعد أعوام ونضحك. عادةً تَصْدُقُ صديقتي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه