شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أبشع شيء أن يتحوّل الكاتب إلى كاتب

أبشع شيء أن يتحوّل الكاتب إلى كاتب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الجمعة 12 يوليو 202411:08 ص

"أبشع شيءٍ لمّا يتحوّل الكاتب لكاتبٍ": يقول الروائي رشيد الضعيف، في مقابلة حديثة له مع فاتن حموي عبر صوت الشعب، "فيُحاسب على أنه كاتب ويُؤسر ضمن الصورة التي وُجدت عنه". قد تكون هذه الجملة الأكثر وقعاً في نفسي ضمن المقابلة الممتدة على طول 45 دقيقة، حاولت خلالها فاتن دفع الروائي إلى منح المستمع فسحةً في عمق خصوصيته، فجاءت هذه  الجملة لترنّ في أذني، في الغالب بحكم دخولي الحديث في عالم الكتّاب.

قبل فترةٍ، استحوذ عليّ التساؤل والقلق حيال إمكانية أن "يتحوّل الكاتب إلى كتاب"، بمعنى أن يعرّف عنك الناس بكتابك فقط ويتناسون كل شيء آخر. قلت وقتها إنني قلقة من أن أتحوّل من إنسانةٍ وكاتبةٍ وغيرهما إلى كتاب، فهذا التحوّل قد يُنتج إنساناً من أحرف وورق، شبهة إنسان يعيش فقط في المخيّلة. ماذا يصنع المرء ببديلٍ له على هيئة أحرف؟ وبم يتغذّى ذاك الكائن الصُّوري؟

استنتجت وقتها أن الإجابة قد تكون خطيرة، لكنني لم أنتبه إلى شرٍّ محدقٍ آخر، مفاده أن يتحوّل الكاتب إلى كاتب. لذا، همّني طرح رشيد الضعيف، أو توجّسه، وقرّرت أن أبحر معكم في الاتجاه الذي رسمه لنا هذا الصباح.

تبدو الحرية أحد المسوّغات الأساسية لبشاعة أن يتحوّل الكاتب إلى كاتبٍ فقط، أن يتمّ حصرك في قالبٍ واحد أمر ينعكس مباشرةً على حريتك، والأدب منبع للحرية كما يقول اسماعيل كداريه، وليست الحرية منبعاً للأدب، فكيف تتحوّل هذه الحرية العابرة للجغرافيا والتاريخ إلى قفص؟ حرية الكاتب تأتي من داخله، وهي حرية الفرد بشكلٍ عام، ولا يمكن لقالبٍ واحد أن يقيّدها.

قلقة من أن أتحوّل من إنسانةٍ وكاتبةٍ وغيرهما إلى كتاب، فهذا التحوّل قد يُنتج إنساناً من أحرف وورق، شبهة إنسان يعيش فقط في المخيّلة. ماذا يصنع المرء ببديلٍ له على هيئة أحرف؟ وبم يتغذّى ذاك الكائن الصُّوري؟

وفي هذا السياق، تقول توني موريسون، إن عملَك ليس أنت، بل أنت الشخص الذي يقوم بالعمل، لماذا إذن، ورغم تنبيه موريسون، دائماً ما ترتبط هوية الأشخاص بعملهم، لا سيما الكتّاب منهم؟

أما التطوّر والنموّ، فهما عاملان قد يقفان وراء جملة رشيد الضعيف، ذلك أن تحوّلك من شخصٍ إلى كاتبٍ قد تكون له انعكاساته لناحية التطوّر والنمو. تُعدّ فيرجينيا وولف من الكتّاب الذين اشتغلوا بشدة على مواضيع الهوية والكتابة والإبداع، وهي تقول: "النفس التي تثابر على التغيّر هي نفسٌ تثابر على العيش"، مشيرةً بذلك إلى أهمية النمو الشخصي المستمر والتكيّف، وإلى أن الهوية الديناميكية ضرورية لحياة مثمرة. لذا، يبدو أن حصر هوية الكاتب بكونه كاتباً أشبه بقتل إبداعه عبر تجميد السيولة في هويته، وهو ما تؤكّده وولف بقولها: "أنا متجذّرةٌ، لكنني سائلة، لكنني أتدفّق".

يؤكد الكاتب الأميركي جيمس بالدوين أن للمرء أن يحدّد بنفسه هويته، أن يقرّر من هو، وأن يفرض على العالم من حوله التعامل معه على أساس قراره هو، لا على أساس الصورة التي رُسمت له.

تعدّت هوية بالدوين التي رسمها لنفسه كونه كاتباً، هو الذي ترك أميركا هرباً من العنصرية القاتلة فيها، والذي جاهر بمثليته، معتبراً أن "المرء يختار حبيبه وأصدقاءه بالقدر نفسه الذي يختار فيه أهله". استخدم بالدوين الكتابة ليفهم نفسه ويكتشف هويته، ولم يدعها تصبح هي هويته.

في الواقع، أنت تأتي إلى الكتابة حاملاً هويتك، ولا تنتشل هويتك من الكتابة. هذا علماً أن الهدف من فعل الكتابة هو، إلى حدّ ما، "تحسين" حياة القارئ والكاتب على حدّ سواء، وهذا أيضاً يغذّي هويتنا الإنسانية ويرتبط بالهدف من حياتنا.

إضافةً إلى ما سبق، تبدو توقّعات الآخرين وتوقّعات المجتمع من الكاتب عنصراً أساسياً يجعل "أبشع شيءٍ أن يتحوّل الكاتب إلى كاتب"، فهذه التوقّعات قد تؤثّر مباشرةً في عملية الإبداع فتجمّدها إلى حدّ ما، كما أن مطالبة الكاتب بإنتاجٍ مستمرّ تُثقل كاهله، هو الذي أتى إلى الإبداع كفسحةٍ حرةٍ تعكس شغفه وتجربته، لا توقّعات الآخرين منه. وثمة أمثلة كثيرة في مجتمع الأدباء توضّح إلى أيّ حدّ قد يؤثّر ضغط المجتمع في حالة الكاتب النفسية. عانى همنغواي حدّ الانتحار بسبب التأثير النفسي والجسدي للكتابة والضغط الذي تعرّض له بسببها، كما تفاقم اكتئاب سيلفيا بلاث بسبب الضغط الناتج عن الكتابة والشهرة، وخشيت فرجينيا وولف من خسارة قدرتها على الكتابة فتضاعف اكتئابُها، ويقال إن أحد أسباب قلّة نتاج كافكا هو خوفه الشديد من النقد ومن توقّعات الآخرين…

بما أن هوية الكاتب لا يمكن أن تقتصر على كونه كاتباً، لم يضمّن كتّابٌ كثيرون رواياتهم كتّاباً ضمن الشخصيّات؟

يقول الكاتب ستيفن كينغ إن الحياة ليست نظاماً داعماً للفنّ، بل العكس هو الصحيح. لذا، فعلى الكاتب ألا يعيش ليكتب، بل عليه أن يكتب ليسهّل عيشه: لمتعته ربما، وللتفريغ أحياناً، أو للمشاركة، أو للتفكير في بعض قضايا أو أمور الحياة، وغيرها من الأسباب الخاصة بكلّ كاتب والتي لا أهدف إلى حصرها هنا، لكن المهم بالتالي هو ألا يكون كاتباً فقط، فعيشه أوسع بكثير من كتابته، فمثل الأكل، وإن باختلافٍ عميق: أنت لا تعيش لتأكل، بل تأكل لتعيش.

في الواقع، كلّما تنوّعت حياة الشخص/الكاتب وخبراته، كلّما تمكّن من إثراء كتاباته، فيما العكس ليس بالضرورة صحيحاً.

أخيراً، قد تشكّل العزلة عاملاً يساهم في هذا التوجّس من التحوّل إلى كاتبٍ فقط، لأن المجتمع يعزلك في خانةٍ محدّدة، ككاتب، كما أن الكتابة بحدّ ذاتها هي حالة عزلة. عن هذا يقول فرانز كافكا: "الكتابة عزلةٌ تامة، هبوطٌ إلى قعر الذات الباردة"، هناك حيث يغترب المرء بإرادته عن عالمه الخارجي، وحيث يعزله المجتمع أيضاً.

ومع ذلك، اعتبر كافكا أن "الكاتب الذي لا يكتب أشبه بوحشٍ يقود نفسه إلى الجنون"، مشدّداً بالتالي على ارتباط الكتابة بالسوية العقلية وبالجنون، وهو الذي شكّل موضوع الهوية أحد أعمدة أعماله، فمن لا تتّسق هويته ككاتبٍ مع فعل الكتابة، فلا يكتب، سيعاني من دون شكّ برأي كافكا، تماماً كما يعاني كلّ امرئٍ يحيد عن هويته.

جولةٌ قصيرةٌ في بعض الأسباب التي قد تجعل كاتباً يرفض تماماً أن يتحوّل إلى كاتبٍ فقط، أخذتنا إليها جملة الروائي رشيد الضعيف من دون أن يعلم.

نهايةً، تتركني هذه الجولة مع سؤالٍ: بما أن هوية الكاتب لا يمكن أن تقتصر على كونه كاتباً، لم يضمّن كتّابٌ كثيرون رواياتهم كتّاباً ضمن الشخصيّات؟ 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image