الضفّة، قطار إلى الجهة الأخرى
في اتجاه العودة لمنزلي، أتباطأ دوماً في القيادة، حيث استعدّ لعبور مزلقان القطار، ومزلقان القطار ذاك هو بؤرة زحام المنطقة التي أسكن بها، لذا نعتبر عبور المزلقان بمثابة العودة للمنزل، إذ إنه فور عبوره يتبخّر الزحام وأقطع شارعاً واحداً في دقيقتين للوصول للمنزل. بسبب ذلك الزحام، ورغم تعلّمي للقيادة منذ سنوات، كنت مازلت مقتنعة بأن قدمي أفضل من ألف سيارة، فذلك الزحام المحيط بمزلقان القطار خطوتان فقط بالنسبة لقدمي، لكن من الممكن أن أنحشر داخل السيارة لما يقارب الساعة.
طقس يومي أسميه "توقع الزحام" صار عادة لدي، يجعلني أتباطأ حينما أتوقع زحام المزلقان، لكنني اليوم حينما تباطأت، وصار المزلقان في مواجهتي، كان فارغاً، دون قطار ينتظر في المحطة، وإشارة مرور وفرشات الباعة وزحام المارة والسيارات. كان شبه فارغ ومن دون قطار.
بسبب قرب منزلي من القطار، عشت حياتي بأكملها مرتبطة بقطار "أبي قير"، وهو قطار ضواح، أسسه الملك فاروق كي يكون قطاره الملكي الذي يتحرّك به من قصر "المنتزه" حتى باقي ضواحي الإسكندرية، ولم يستمتع به الملك سوى سنوات قليلة، إذ أممته ثورة يوليو وجعلته قطاراً للشعب. كان يربط القطار بين أبي قير، في أقصى شرق المدينة، ومحطة مصر، وسط الإسكندرية والمحطة المركزية بها. يصل القطار لمناطق لا يصل إليها خط الترام الذي ينتهي عند محطة فكتوريا، وعلى الرغم من خفوت سيرته معظم الوقت إلا أنه كان مقصد الطبقة تحت المتوسطة التي يخدمها ترام المدينة .
أفكر الآن في ذلك الفراغ الذي خلفه وقف القطار لصالح مترو جديد. أفكر في أبطال حكاياتي الذين كانوا يقطعون سكة القطار مشياً بحثاً عن الونس. أين ستذهب أطيافهم وأين سيذهب ركاب القطار من الطلبة والموظفين بشكل يومي؟... مجاز
لسنوات، ظل قطار أبي قير يقسم الإسكندرية لمنطقتين، بحري وقبلي، وبين الكلمتين فرق كبير، فبعبور القطار من المنطقة القبلية للبحرية تتضاعف أسعار الشقق وحدها، كأنك قفزت عدة طبقات في السلم الاجتماعي، وبصفتي من سكان المنطقة القبلية، كان حلم جيراني دائما الانتقال لبحري. يحاول الكثير من أبناء المناطق القبلية مداراة انتمائهم لتلك المناطق كعاهة مثلاً، فكان لدي تلك الجارة التي حينما يسألها أحد عن مكان سكنها، فتدعي أنها من سكان "ميامي" القريبة منا، تلك الجارة انتقلت بعد سنوات كثيرة لـ "سيدي بشر بحري" في منطقة أسوأ بكثير من شارعنا الهادئ، لمجرّد الانتماء للجانب الآخر من سكة القطار.
الانتقال لبحري كان حلم الكثيرين ممن يعيشون في المنطقة القبلية، رغم أن ذلك الانتقال في نفس الحي، بنفس الشوارع الضيقة والزحام وكل شيء. فقط ذلك العبور من جانب السكة الحديدية للجانب الآخر كان حلماً لم أفهمه، فحينما أعبر شريط القطار تقابلني الأشياء نفسها بنفس شكل الأشخاص .
رغم قرب القطار من منزلي إلا أنه لم يكن خياري في المواصلات، فكثيراً ما يكون مزدحماً ولا أحب إيقاعه السريع وحركته، عكس الترام البعيد عن المنزل، لكنني أفضله دوماً بسبب إيقاعه الهادئ والشعور بالألفة بين محطاته الكثيرة، وخطوطه وركابه الذين أشعر أنهم يشبهونني. في إحدى قصصي كتبت عن ذلك الفارق بين القطار والترام الهادئ، والذي يفضله الكثير من أبناء المدينة بسبب مروره بين المناطق الأفضل، عكس قطار "أبي قير" الذي كان يقطع المدينة مروراً بالكثير من الأحياء الفقيرة من المدينة.
نشأت في منطقة "سيدي بشر"، في بيت بناه أبي وجدي للعائلة. حكى لي أبي عن خلو المنطقة لسنوات، بينما صوت القطار كان الصوت الوحيد الذي يسمعونه. وبالقرب من القطار سمعت كل الحكايات عن الأشخاص الذين أكلهم القطار أثناء عبورهم خط السكك الحديدية، ومن بين الحكايات، ظلت حكاية تدور في رأسي حين أعبر شريط القطار، حيث حكى لي أخي عن شخص دهسه القطار أثناء عبوره، وحينما بحثوا عن جسده ظلوا يجمعون بقية لحمه من على القضبان في حين شربت الحصى دماءه كلها.
أسمع صافرة القطار قادمة من بعيد. أدير رأسي لشريط القطار لكن السكة كانت خاوية تماماً. عبرت ووصلت منزلي وفي أذني مازالت تعوي صافرة قطار وهمي... مجاز
سأتذكر تلك الحكاية دائماً حينما أتأمل شريط القطار، وستجعلني أتأنى قبل العبور كي لا يدهسني القطار، رغم أنني أنحدر من جدّ عمل بالسكك الحديدية طوال حياته، وسكن أبي لسنوات مساكن الهيئة، قبل أن يشتري أرض "سيدي بشر" القريبة من القطار، ويبني عليها هو وجدي بيت العائلة الصغير. لكنني سأظل أرتجف لسنوات بسبب تلك الحادثة التي حكاها أخي، وهي قليلة ضمن كثيرين أنهى القطار حياتهم، أو كان وسيلتهم الوحيدة لإنهاء حياتهم في صخب.
السكك الحديدية لا تقتصر فقط على القطار ومحطاته، لكنها حياة كاملة من محال وأسواق تعجّ بالزبائن. اعتدنا شراء الأشياء البسيطة منها، مثل مستلزمات المنزل والإلكترونيات، وقبل تلك المحال ظلت الأكشاك متكاثرة على خط القطار، أكشاك من الصفيح تعيش بها الكثير من الأسر، وقبل بداية الألفية تخلصت الإسكندرية من أكشاكها وعششها المصنوعة من الصفيح، بعدها بسنوات بني سور كبير يفصل سكة القطار عن الشارع والبيوت، فبعد أن كان على تبة عالية، عارية من الناحية القبلية، ومسورة من الناحية البحرية المليئة بالمحال، انعزل القطار خلف سور عال، وكان هناك مشروع لبناء كباري للمشاه كي تقل حوادث القطار، لكن الناس هجرت تلك الكباري وصنعت فتحات صغيرة في السور لتعبر، وداخل تلك الفتحات انتشرت الفروشات والباعة والمحال الصغيرة كي تخدم العابرين يومياً.
بين تلك الفتحات كنت أعبر يومياً شريط القطار، ومنها أنتقي شخصيات حكاياتي المختلفة .
أفكر الآن في ذلك الفراغ الذي خلفه وقف القطار والتخلص منه لصالح مترو جديد. أفكر في أبطال حكاياتي الذين كانوا يقطعون سكة القطار مشياً بحثاً عن الونس. أين ستذهب أطيافهم وأين سيذهب ركاب القطار من الطلبة والموظفين بشكل يومي؟ أراقب تكدّس شوارع المدينة وخلو مواقف الميكروباص من السيارات التي لا تكفي ذلك العدد اليومي من البشر الذين لفظهم القطار.
بينما تعبر عجلات السيارة أرضية المزلقان الحجرية، أنظر للإشارة بشكل تلقائي فلا تومض بالأحمر، أكمل عبوري، لكنني أسمع صافرة القطار قادمة من بعيد. أدير رأسي لشريط القطار لكن السكة كانت خاوية تماماً. عبرت ووصلت منزلي وفي أذني مازالت تعوي صافرة قطار وهمي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 18 دقيقةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 21 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 22 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت