صباحاً، وقبل خروج العصافير من أعشاشها، تقمّصت "س" حركات مارلين مونرو، تبعاً لآخر ذكرى جميلة لها في حياتها، بفارق وحيد في سحنتها، وهو شعرها المسدل بإهمال على كتفيها. أمسكت بيديها الضامرتين سيجارة معتقة حارقة، وبطريقة ملتوية أمسكت ملقطها الصغير. نظرت إلى المرآة بتكشيرةٍ عابرة لتبصر وجهها المنعكس الفارغ من الملامح. شقت طريقها نحو شارع غلبت عليه رائحة الرماد والعطن، وفي الجو فاحت رائحة عطورٍ عفنة.
كانت الأيام الأخيرة في حياة "س" تدفعها نحو الهلوسة والجنون، لقد فقدت معنى الحياة وتحولت تدريجياً إلى شيء يشبه انعدام الوعي. وقفت على ممرّ المشاة بجسدها الملوّح الصافي، عارية من رأسها حتى أخمص قدميها، نامصة حاجبيها الكاملين، قاطعة أعشاب الطريق المزهرة على حافة الرصيف، والتي تكسوها شباك عنكبوت جائع تلمع تحت خيوط الشمس الأولى. وضعت العشب الكثّ مكانهم ضاحكة من الألم، غافرة للإله المذعن باعتذاره عن أخطائه الفادحة في طريقة الخلق.
صُعِقَ المارة من هول المشهد، مقتربين صوبها، مفجوعين بنظراتهم المستلذّة بالجسد الغضّ، منهم من اقترب يربّت على أكتافها مصدراً ضحكاتٍ صاخبةً مغموسة باللذة العلنية، ومن تبقى منهم ظل يحاول الدخول وسط الحشود ليشاهد ما فاته. وهذا ما جعل الشارع يستحيل بستاناً من الرؤوس غير المتناسبة، بلعابٍ سائلٍ ودموع حارة.
أرادت "س" الموت كما يجب يكون، أرادت الحصول على موتٍ حيّ. كانت رغبتها أن ترى تلك الوجوه المُغبرَّة وتعابيرها المستسلمة الباحثة عن الحرية. بيد أن هدف "س" الحقيقي هو إيلامهم. أرادت "س" تحريرهم من القيود البشرية بتذكيرهم بعملية الإحساس كالبشر، بتقبّل روائح بعضهم، وجهات نظر بعضهم، يأس بعضهم من بعض.
تظهر حقيقة البشر الخام بحالتين عند "س"، مرةً عند الموت ومرة أخرى عند الولادة. في الولادة، يخرّ إنسان راكعاً مؤمناً بالله إيماناً كاملاً في تلك اللحظة، أما الموت فهو الحقيقة المطلقة، إنه اختفاء الحياة وخفوت لونها...
أرادت "س" الموت كما يجب يكون، أرادت الحصول على موتٍ حيّ. نصَّبت نفسها إلهاً جديداً، لأن رغبتها الأولى كان دفع هؤلاء البشر نحو التسليم بشيء ما، شيء رأته هي وجعلت منه عموداً لفعلتها هذه.... مجاز
وقفت أمام محل ملابس مستعملة، صرخت صرخة مرعبة جعلت جميع من في الشارع يحوّل بصره تجاهها، مندفعين نحوها بأفواهٍ فاغرة.
ارتخى الجميع مكانهم واقفين بلا حراك، نظروا نحو السماء، وصوت أنين مخنوق عَمَّ الأرجاء فجأة. وقفوا خانعين أمام صوت أوركسترا مشهورة. كان جبين "س" متورماً، مشوّهاً كمؤخرة عنكبوت عجوز انزلق في فخه. صاحبت الأوركسترا رائحة بولٍ عمّت المكان وردّت جميع إلى صوابهم. عمّ الصراخ بين المارة مهدّدين بالاستقصاء أن لم يعترف أحد بجريمته.
تقدم صبي صغير يظهر على مُحياه براءة باهتة أمام الملأ. تقدم بثقة غريبة تجاه "س" عابقاً برائحة البول.
بصوت مبحوح قالت "س": "امسك يدي لنقفز فوق السيارة".
يومئ... انكسرت مرآة السيارة وأصدرت صوتاً يشبه في شدّته صوتَ طبلٍ ضخم في شارعٍ فارغ. توقف المارة عن الصراخ ليصحوا جميعهم حينئذ مصعوقين من المشهد.
كان صبي البول يداعبها على مرأى من الجميع، متنهّداً من اللذة، فخمد لهبهم حائرين: أي شعور يتوجّب عليهم تجريبه؟
بينما كان المجتمعون يحترقون بنار اللذة المجانية، اقتحم مسحوقون هذا المحفل الماجن، فئة تركض بجنون وتطلق صرخاتٍ مدوية. تعرفهم من شخصياتهم الخانعة التي تعتبر مادة أساسية لتجريب كافة سبل المعاناة والاضطهاد لتحقيق نتيجة تاريخية. اعمل لتحصد مجموعة خانعة، فتحقق توازناً اجتماعياً خاسراً.
التفّ حولها مجانين العصر هؤلاء، اقتربت نحوهم لإشباع فضولهم اللاهث لشيء جديد جراء الملل من مضاجعات متكرّرة آخر ساعات الليل، حيث الأقاويل بدأت تتردد أن الرجال المسحوقين في هذا الحي يعدّون شقوق الحائط ليكسروا الضجر من أجساد زوجاتهم. وقفوا يشاهدون "س" بحماسة، شواربهم متهدلة ووجوههم محمرّة من الانفعال، يفكرون بخيانة رسمية لزوجاتهم. ضربت "س" سطح السيارة بقدمها منزلة الصبي برفق، طارحة سؤالها: "الانتحار قوة أم خوف؟"
حكّ جميع رؤوسهم بحثاً عن إجابة مُقِنَعة، لتكمل الزعيمة خطابها: "ما هو عدد الأشخاص الذين انتحروا في سبيل عدم رضاهم عن ذواتهم العليا؟ بسبب حب فاشل؟ بسبب زواج قسري؟ بسبب فضيحة متداولة، كما حصل منذ اللحظات؟".
كان الصبي ينشج بالبكاء موقناً بأنه أصبح أضحوكة كما أصبحت "س" التي استمرّت ضاحكة باضطراب، مخاطبة إياهم: "وصيتي لكم أن يكون وسم فضيحتي منمّقاً لغوياً وهو: (موت حلزونٍ رضخ للشجاعة)".
تعالت أصوات الضحكات الساخرة. قالت "س" بلامبالاة: "والآن سأعرض عليكم عملاً يؤدي إلى انتحار بعضكم، تحت اسم (جريمة شرف رجولية) رغم أنني لا أعتقد أنكم تحبون الهزل".
أومأت للصبي ليستدعي المسحوقين. تقدم المسحوقون بخجل، لأن الصورة الحية أمامهم تدفعهم نحو زنا فاضح، نحو كسر الأعراف الاجتماعية، رغم أنهم يقدمون على الخيانة بالخفاء، واضعين الذنب طيلة حياتهم في صندوقٍ أسود.
رمقتهم "س" بنظرة شريرة: "جربوا الخيانة دون كذب أو نفاق. ضاجعوني الآن".
أرادت حياة بعيدة عن ألم الواقع الذي يحيط بها، جنزير يخنق رقبتها، مكبّلة بكتبها، بعائلتها، بقناع ثانٍ وحياة لا تساوي شيئاً، أما في البرزخ وتحت التراب، سَتَحيا "س" كجذور شجرة بلوط باسقة بلا أقنعة، ولن يراها أحد... مجاز
دُهِشَ الجميع مطلقين عبارة ها ها، مشغّلين هواتفهم لتوثيق الحادثة. فكّر المسحوقون بأن حياتهم البائسة ليست ثمينة مقابل خيانة مُخمَلية، وأن مضاجعة مجانية لا تفوت، وآخرون ارتعشوا من هول الفكرة، لأنهم سئموا مؤخرات زوجاتهم، فلا مانع من مؤخرة جديدة بالنسبة إليهم. فكّ كل واحد منهم حزام بنطاله الذي كان عربون موت فاخر لـ "س".
زعقت بوجوه أربعة منهم: "اثنان اثنان. لذة مقسومة بالتساوي".
بدأت المضاجعة فعلاً، داعب الحشد "س" العارية من كل حدب وصوب. صوبت عينيها تجاه الناس فرأت اللعاب يملأ قسمات وجوههم مستمتعين برؤيتها. سألت نفسها: "هل سيبقى لي هذا اللعاب المحموم كذكرى أليمة؟ لعاب شهي؟ لا ضير".
دفعت "س" الحشود المتكالبة حولها. وقفت على مقدمة السيارة من مسافة مناسبة للحشد، مترنحة إثر لذتها وألمها. قفزت كلاعب ماراثون دقيق أُصيب دماغه بالجنون، لتحزّ رقبتها وسط جو غريب يسوده الضجر، لأنها قطعت أمسيتهم الماجنة وأكملت الحشود حيواتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...