في عام 2020 صدر كتابي "قبل تشييع الجنازة... في وداع مهنة الصحافة". كنت أقصد موت مهنة الصحافة في مصر، بعد صعود الموجة الثانية للقوى المعادية للثورة، موجة تستهدف محو سيرة ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، والانتقام من المراهنين عليها في التغيير، وملاحقتهم بفنون من الإرهاب... اعتقالاً وصمتاً وقتلاً ناعماً. والبعض فهم أنني أودّع المهنة، زاهدا فيها، فكيف أوّدعها قبل دفن جثّتها؟ هذا سلوك غير لائق، خيانة لا ترتضيها نفسي، ولا تستحقها مهنة درستها في الجامعة، واستهلكت من عمري خمسة وثلاثين عاماً، ولا يسمح التقدم في السن، وتراجع الصحة، بالعودة إلى حِرف عضلية سابقة. وداعي للصحافة خطوة تالية لإعلان موتها، وتشييع جنازتها.
وداع اضطراري؛ فلا تسعفني قواي بالتذكّر. توالي الانتكاسات أتلف ذاكرتي، نسيت تفاصيل كثيرة، وكل ساعة تلاحقني الأسئلة: هل حظي الرئيس المخلوع حسني مبارك بجنازة عسكرية رسمية؟ ألم يتهمه حكمٌ قضائي، نهائي باتٌّ، بأنه حرامي؟ لصٌ، هكذا قال الحكم، وهو عنوان حقيقة تقترن بأسماء مبارك وولديه. ألا تمنع جريمة مخلّة بالشرف، مثل السرقة، امتياز الجنازات؟ لماذا يعتقل عبد المنعم أبو الفتوح؟ وأين أحمد شفيق الذي قيل إنه الفائز في الانتخابات الحرة الوحيدة بعد الثورة؟ وأين الذين أعلنوا النية، النية فقط والله شهيد، على خوض انتخابات الرئاسة؟ انسَ هذا كله يا أخي، فأنا لا أعرف أسماء الوزراء، هل لهذا علاقة بآلام رقبتي؟
في عام 2020 صدر كتابي "قبل تشييع الجنازة... في وداع مهنة الصحافة". كنت أقصد موت مهنة الصحافة في مصر، بعد صعود الموجة الثانية للقوى المعادية للثورة، موجة تستهدف محو سيرة ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، والانتقام من المراهنين عليها في التغيير
على من تقرأ مزاميرك يا داود؟ ما جدوى الكتابة في زمن يفتقد حكمة معاوية وسلالته من المستبدين الأذكياء الملاعين؟ لماذا أكتب؟ بعد آلاف المقالات التي كتبها الكثيرون بنزاهة، نعود إلى ما تحت الصفر، ما قبل الحقوق الآدمية الأساسية، إلى عصور الاستبداد الظلامي الخشن، ويضطر طلاب الثانوية العامة إلى المذاكرة في القهاوي والكنائس حيث توجد مولدات للكهرباء. هل مارس الاحتلال الأجنبي هذا النوع من الإهمال الفاجر؟ كان يتجمّل بوجه حربائي حضاري، أمام شعبه وأمام غيره من قوى الاستعمار. في هذا العبث يطلّ وجه هولاكو، حين استولى على بغداد، (عام 1257 ميلادي، 655 هجري) استقر في القصر، وسيق إليه الخليفة العباسي المستعصم.
الخليفة البغدادي أرشد الغزاة إلى خزائن الأموال، وحوض مملوء بالذهب وسط القصر. ولم يقنع هولاكو بذلك، وأمر بحرمان المستعصم من الطعام؛ حتى شعر بالجوع، فقدم إليه هولاكو طبقاً مملوءاً بالذهب. سأل الخليفة: "كيف يمكن أن آكل الذهب؟"، فأجابه هولاكو: "ما دمت تعرف أن الذهب لا يؤكل، فلم احتفظت به، ولم توزعه على جنودك، حتى يصونوا ملكك الموروث من هجمات هذا الجيش المغير؟ ولماذا لم تحول تلك الأبواب الحديدية إلى سهام، وتسرع إلى شاطئ نهر جيحون لتحول دون عبوري؟"، فأجاب الخليفة: "هكذا كان تقدير الله"، فقال هولاكو: "وما سوف يجري عليك إنما هو كذلك تقدير الله". وقتل الخليفة، وانتهى أمر الخلافة.
الاختيار الآن بين الزائل والباقي، الزبَد وما ينفع الناس. وفي بؤس المعيشة، هل يفيد الناسَ حُسنُ القول؟
هل نكفّ عن الكتابة، لأن المستبد لا يتعظ ولا يبالي؟ أثق أنه يبالي، وأن الكلمة تخِزه. لا أجد لفظاً آخر دالّاً على الوخز. ليس وخز الضمير؛ فلا يُعوّل على ضمير ميت يستهين بالدماء والأرواح، والأعمار والكفاءات المنقذة من الضلال، والمستقبل، وظل الشجر. الوخز أسفل، ويعرف الحوذية تأثيره، الوخز يزعج المستبد؛ فلا يهتم بإشادات يرددها مرتزقته، الببغاوات، في العشرات من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية والفضائيات، ويأمر بحجب موقع إلكتروني نزيه، ويلاحق كاتبَ مقال، ويحاكم كاتبَ تدوينة. لو أن الكتابة عابرة ما ترصدوا نبلاء وضايقوهم في أرزاقهم وأعمارهم. المستبدون، في الفترات الرخوة، يحاولون ترويض المهن الخطرة، ويقتلونها إذا عجزوا عن استئناس الثقات.
ما الفرق بين مستبد أجنبي غازٍ، وآخر "وطنيّ" محلّيّ؟ لعله اختلاف في الدرجة، لا النوع. والاختلاف النوعي على الضفة الأخرى، لدى المقهورين ضحايا الاستبدادين. الضحايا تثور على الغازي الأجنبي، وتمنحهم المواثيق الدولية والأخلاقية العمومية والشخصية حقوق المقاومة، بالوسائل المتاحة كافة، والأدبيات تخلّد الثائرين، لكن صلات القربى تردعهم عن المواجهة بوسائل عنيفة للمستبد ابن البلد، السفيه، قليل الأصل الذي لا يحفظ عهداً، ولا يرعى أمانة. ويتشابه المستبد الأجنبي والمحلي، كلاهما يقتل ما يعجز عن إخضاعه. وفي كتاب "قبل تشييع الجنازة" رصدتُ مظاهر تمهّد لتشييع جنازة الصحافة، وقد تموت قبل نهاية عهد ضعيف الذاكرة، لا يدرك حجم المساخر، والتفنن في إهدار الهيبة.
جاء اللورد إدموند ألنبي مندوباً سامياً لبريطانيا، لإطفاء شعلة ثورة 1919. وقبل مغادرته وإلى الآن، صار دمية يحرقها أهالي بورسعيد، في احتفال جماهيري سنوي مسجل باسمه. ولا يقتصر الانتقام من الجنرال على حرقه احتفالاً بعيد الربيع، بل ترسخ "اللمبي" في الوجدان الشعبي بالشخصية العدمية الكاريكاتيرية، منذ إنتاج الفيلم الكوميدي "اللمبي" عام 2002. عجز ألنبي عن إخماد الثورة، لكن السفاح سليم الأول قضى على عشرات الحرف والصنائع، وفرّغ المخزون الثقافي والفني المصري، بأسر حوالي ثلاثة آلاف من فناني نحو خمسين حرفة: وراقين وخطاطين ومجلدين ومذهبين، بنائين ونقاشين ومزخرفين ورخامين ونجارين ونحاسين وحدادين وزجاجين، نساجين وصباغين. أسرهم السلطان الغازي، ورحّلهم إلى إسطنبول.
اليوم نشيّع مهنة ارتبطت تاريخياً بكشف الانحرافات، ومراقبة السلطات. دلّني، إن استطعت، على مقال واحد في صحف مصر، في السنوات السبع الأخيرة، ينتقد توجّهاً حكومياً، لا أقول رئاسياً، أو يناقش مشروعاً مختلفاً عليه. قد تعترض على قضاء الله في سمائه، وتمنع من انتقاد "نكبة" مشروع الكيان المسمى العاصمة الإدارية الجديدة، وخطيئة تفريغ القاهرة من ثقلها الرمزي وحمولتها التاريخية، ونقل هيئات ثقافية مثل المركز القومي للترجمة والهيئة العامة لقصور الثقافة إلى المعسكر. كان كتاب "قبل تشييع الجنازة... في وداع مهنة الصحافة" من أسباب عقاب ناشرته الكاتبة الفلسطينية بيسان عدوان وترحيلها، وقد شرّفتني في مجلة الهلال، بإعدادها ملفات مهمة عن قضايا فلسطينية.
لا تجدي الكتابة، ولن يتغير شيء. القطار منطلق، أعمى يتجاهل تقاطع الطرق، ومدى صلاحية القضبان لجنون السرعة، وتسبقه طبول، وتتبعه أبواق، وعلى شاشاته هتّيفة يسوّغون غياهب البارانويا، ويصفقون لانتصارات على أعداء وهميين
ماذا تفيد الكتابة الآن؟ لا أتذكر الشاعر الذي تساءل: "ما جدوى أن تزرع في المرحاض خميلة؟"، أظنه نجيب سرور الذي تنبأ بجلوس الصهاينة في مقهى ريش بالقاهرة. لا تجدي الكتابة، ولن يتغير شيء. القطار منطلق، أعمى يتجاهل تقاطع الطرق، ومدى صلاحية القضبان لجنون السرعة، وتسبقه طبول، وتتبعه أبواق، وعلى شاشاته هتّيفة يسوّغون غياهب البارانويا، ويصفقون لانتصارات على أعداء وهميين، ويشيدون بإنجازات أكد خياطٌ لئيم للملك أن الخونة لن يروها. قد تستهلك الرحلة جيلاً من مغفّلين ستسقطهم الذاكرة. لا أحد الآن يتذكر مذيعين ألّفوا كتباً مثل محمود فوزي وهالة سرحان، وإلى النسيان يذهب عماد الدين أديب وأخوه عمرو أديب، وبقية السلالة.
الاختيار الآن بين الزائل والباقي، الزبَد وما ينفع الناس. وفي بؤس المعيشة، هل يفيد الناسَ حُسنُ القول؟ لن أحرث في البحر، ولن أحلم بتغيير المستقر، وستبقى بذور الثورة مطمورة، تنتظر اكتمال النضج. سأراهن على العمق والجمال والمتعة، أتقصّاها في عمل أدبي أو فني، ولو جملة في كتاب، أو مشهدا أو جملة حوار في فيلم، "أنشودة للبساطة" كما قال يحيى حقي. سأكتب عما أودّ أن يشاركني الآخرون محبته؛ فتصير الحياة أكثر رحابة واحتمالاً، كتابة لا تزعج سكان القصور، ولا يتداعى بسببها النظام الاجتماعي. ينسى الكثيرون أن أحمد حسن الزيات وطه حسين وسلامة موسى وأدونيس ومحمود درويش كانوا رؤساء تحرير، كانوا أكبر.
أختم المقال بسطور من ديوان "مسامرات في الحياة الثانية"، للشاعر الصديق محمود قرني، الراحل الباقي: "أنا رجل قتلني وضوحي/لا أرغب في امتلاك شيء/سوى سلة من حروف الهجاء/أحاول هندستها حسب رغباتٍ يصفها العقلاء بأنها مجرد أضاليل".
آمل أن تجود سلّة الحروف بما يستحق القراءة، ولو حفنة من الأضاليل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...