مرّت عقود على قراءتي لكتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟". أقتبس عنوانه، والحقوق محفوظة لأبي الحسن الندوي. لكن عنوان مقالي غير دقيق تماماً؛ لأن "الانحطاط" يوحي بذاتية الفعل، مثل الاشتعال والانشغال والانغلاق. أما الإشعال والإشغال والإغلاق فسلوك متعمد، بفعل فاعل. ولا أستريح لفكرة صوغ "فعل فاعل" يقوم بعملية "الحطّ". وما جرى للصحافة في مصر، منذ صيف 2013، إنما هو "حطّ" لا انحطاط. عقدٌ أول منزوع الصحافة، عشرية سوداء شهدت "الحطّ" من المهنة، وتصفيتها. جرى الحطّ أملا في الراحة من صداع الصحافة، فانفجرت وسائل التواصل الجديدة انفجاراً ذا طابع ميدوسي، لا يمكن القضاء عليه، ولا مواجهته طوفانه، بكتائب الزمّارين الهواة والمحترفين.
في الصحافة عبيد أصلاء يدمنون خدمة السادة. بنعومة ينقلون الولاء من حاكم إلى عدوه، ومن نظام إلى آخر. البعض يروّض القلم، ويقفز حافياً على قمم الصخور، من حسني مبارك، إلى المجلس العسكري، إلى محمد مرسي، حتى عبد الفتاح السيسي
حرية الصحافة معيار للحكم على الأنظمة. فاتني مسلسل "التاج"، ورأيت أن أشاهده بداية من الموسم الأول. كان ونستون تشرشل، الزعيم المهيب الذي أنقذ بلاده في الحرب العظمى، يخاف الصحافة. عاد إلى رئاسة الوزراء عام 1951، وتعرض لأزمة صحية، ومن سرير المرض اقترح على مساعديه الإعلان عن تعرضه لنزلة برد. ابتسموا من لؤمه وكذبه، فأشاح بوجهه قائلاً إن بإمكانهم رفع الدرجة إلى إصابته بالأنفلونزا. الصحافة الحرة كانت تزعج الملكة إليزابيث أيضاً. القصر لم يتخذ إجراء ضد صحفي نشر صوراً لنزوات الأميرة مارجريت شقيقة الملكة، ولم يعاقب صحفياً اتهم الملكة بالرجعية. لا يستعان بقناع النيابة العامة؛ لإرهاب الصحافة بشعارات تكدير السلم العام.
في الصحافة عبيد أصلاء يدمنون خدمة السادة. بنعومة ينقلون الولاء من حاكم إلى عدوه، ومن نظام إلى آخر. البعض يروّض القلم، ويقفز حافياً على قمم الصخور، من حسني مبارك، إلى المجلس العسكري، إلى محمد مرسي، حتى عبد الفتاح السيسي. يتذاكوْن أحياناً، فيتفادون مدح الحاكم، بالثناء على "الجماعة الحاضنة". تساءل الصحفي ياسر أيوب، في برنامجه التلفزيوني في تشرين الأول/أكتوبر 2012: "هل جماعة الإخوان المسلمين الآن تريد أن تحكم إدارة النادي الأهلي؛ استجابة لوصايا الإمام المؤسس حسن البنا؟". قال أيوب إن البنا تحدى حزب الوفد بتصريح عن التأثير السياسي لكرة القدم، قبل أن ينتبه إلى ذلك السياسيون "في العالم كله"، ومنهم هنري كيسنجر.
في ذلك الوقت، قرر أيوب أن ينفرد بالاحتفال بذكرى ميلاد مؤسس التنظيم، قائلاً إنه "يرد الاعتبار لحسن البنا كروياً ورياضياً". كان صعود تنظيم الإخوان إلى حكم مصر اختباراً كاشفاً دعا الكثيرين إلى إطلاق لحى الألسنة والأقلام، والادعاء بأن لهم صلة، تنظيمية أو روحية، بالتيارين الإخواني والسلفي. البعض سارع إلى الارتماء في جنة الإخوان. مصطفى الفقي اتصل بعصام العريان مهنئاً بتأسيس حزب التنظيم "الحرية والعدالة"، وطمأنه بأن إنشاء الحزب "بداية طيبة لنا كلنا. وناس كتير كتير كتير عايزة تخش الحزب... حتى أقباط... كتير ناويين على كده". ثم استحلفه وأوصاه بنقل مباركاته إلى محمد مرسي ومحمد الكتاتني؛ لأنه لم يستطع الوصول إليهما.
كان صعود تنظيم الإخوان إلى حكم مصر اختباراً كاشفاً دعا الكثيرين إلى إطلاق لحى الألسنة والأقلام، والادعاء بأن لهم صلة، تنظيمية أو روحية، بالتيارين الإخواني والسلفي.
في ذلك الوقت، واصلت أصوات أخرى انتقادها للإخوان. ثم اختفت الجماعة والأصوات معاً. لا تريد السلطة صوتاً عاقلاً يناقش ولو من داخل معسكرها. في تشرين الأول/أكتوبر 2016، منعت صحيفة "الأهرام" مقال "المدينة الفاضلة!" للدكتور أسامة الغزالي حرب؛ لوصفه العاصمة الإدارية الجديدة بأنها "نكبة، نعم هي عبء على الاقتصاد المصري"، وأنه لا يفهم سر اهتمام السيسي ببنائها "بقرارات منفردة، لم نسمع أن البرلمان ناقشها... توجه الموارد للافتتاح السريع للعاصمة الإدارية، وملايين المواطنين يئنّـون". فوجئ الغزالي بالمنع، ونشر المقال في صحيفة خاصة. كما رفضت "الأهرام" نشر مقال "تيران وصنافير وقواعد تأسيس الأوطان والدول" لأحمد السيد النجار، فنشره في الفيسبوك في 17 نيسان/أبريل 2016.
النجار رئيس مجلس الإدارة الوحيد، ربما في العالم، الذي تمنع مقالاته من النشر في مؤسسة صحفية أثناء رئاسته لها. وتحظى مقالاته، التي ينشرها في الفيسبوك، بقراءات وإعادة نشر أكثر مما لو نشرت في الأهرام. في هايد بارك الفيسبوك مشاهد بائسة، أعراض لأمراض تخلو منها مجتمعات تتمتع بالحد الأدنى من السلامة النفسية. مصر الآن مريضة، ولهذا السبب تنشط صفحات تحمل أسماء جهات سيادية، وتمارس ابتزازاً رخيصاص، وتتسول دعم الرئيس. السيسي لا يزعجه هذا الابتزاز. في نيسان/أبريل 2016 تحدث عن كتائب إلكترونية تفتعل حروباً، ويروّج لها الإعلام. وقال: "أنا ممكن بكتيبتين أدخل على النت وأعملها دائرة مقفولة، والإعلاميين ياخدوا أخبار وشغل منهم".
هذه الكتائب ربما يديرها عقل مركزي، متوسط القدرات بالضرورة، ولا يحظى بذكاء معقول؛ فلا يسمح لغيره بالاجتهاد. ومعظم أسماء هذه الحسابات تتضمن كلمة "مصر"، وتبدأ منشوراتها بكلمة "عاجل". وهذه نماذج عشوائية منها: "تم إرسال دعوات إليك من الرئاسة والمخابرات العامة والأمن الوطني لأنك عضو نشيط في الصفحة داعم لبلدك وقيادتك. وقع #تحيا مصر". "مصر بتتحارب من خونة في الداخل وخونة ودول في الخارج لإسقاط الرئيس السيسي ومصر. اللي مع الرئيس رغم أنف الخونة يوقع #تحيا مصر". "انطلقت الآن من جميع المحافظات حملة "كلنا معاك يا ريس" رداً على كل الخونة. "سيتم تسجيلك بقائمة الشرف الوطنية إذا دعمت الرئيس. #تحيا مصر".
ما جرى للصحافة في مصر، منذ صيف 2013، إنما هو "حطّ" لا انحطاط. عقدٌ أول منزوع الصحافة، عشرية سوداء شهدت "الحطّ" من المهنة، وتصفيتها. جرى الحطّ أملاً في الراحة من صداع الصحافة، فانفجرت وسائل التواصل الجديدة انفجاراً ذا طابع ميدوسي
سذاجة الأداء تقول إن هذا العقل المركزي لم يكمل تعليمه، فيخلط بين منصب الرئيس المحدد بنصوص دستورية، وشيخ قبيلة يستطيع حرمان أحد رعاياه من امتياز يتمتع به الآخرون. يقول التهديد: "على كل كاره للرئيس السيسي ألا يستخدم الكهرباء التي طورها ولا الطرق التي أضافها ولا أي مشروع أقامه. فأنت لا تستحق ذلك!". علامة التعجب في "النصّ". هذا الخلط يسيء إلى الرئاسة أكثر من ابتزاز الدعم لشخص أو مؤسسة. هبوط ساذج بالدولة إلى مستوى هيئة محدودة الإمكانات والنشاط، تتولى تنفيذ مهام لخدمة أعضائها. أما الدولة الحديثة فلا تفرق بين مواطنيها، ولا تمنّ الحكومة المنتخبة على أحد بإنجاز الأعمال التي تمنحها الشرعية.
حسابات الكتائب الإلكترونية تتضمن كلمة "مصر"؛ للترهيب. حشر "مصر" في العناوين يضع المعارضين، أو غير المؤيدين، في مرمى نيران يستحقها أعداء "مصر". توجد عناوين مضللة: "الفقه" مجرد رأي، لكنهم يجعلونه معادلاٌ لشيء اسمه "الشريعة". وكذلك "الحكومة" جهاز إداري منتخب لفترة محددة، وتخضع لمساءلة البرلمان. ويمكن سحب الثقة وانتخاب حكومة أخرى. لا الرئيس ولا الحكومة المنتخبة يمكنها الادعاء بأنها "الدولة". وإذا سقطت "الدولة" فإن "الوطن" باقٍ. وتحت راية النظام الحاكم والدولة، محتكرة السلطة والقوة، يستأسد الأقوياء. والفقراء ليس لهم إلا الوطن. ويستطيع الدكتاتور ترديد قول لويس الرابع عشر: "أنا الدولة والدولة أنا". ولا يجرؤ على الادعاء بأنه "الوطن". فمن يدفع للزمّارين؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكلام صحيح والله الواحد كان مكسوف وهو بيقرأ الكلام ده و فى ناس حوله لسه بيهزروا فى نفس الموضوع ،...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ اسبوعينمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ 3 اسابيععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...