في حين ينتظر العالم المناصر للقضية الفلسطينية إصدار المحكمة الجنائية الدولية لمذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وربما خطوات عملية أخرى تنتزع حق الشعب الفلسطيني، أدرج تقرير للأمم المتحدة الجيش الإسرائيلي على قائمته السوداء أو قائمة العار للدول التي تنتهك حقوق الأطفال.
ويبدو بأن هذه الصفعة، التي تلقاها غلعاد أردان، سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، في مكالمة هاتفية، تُضاف إلى صفعات أخرى عزلت إسرائيل دولياً منذ بداية حربها على قطاع غزة. منها الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل لارتكابها جريمة إبادة جماعية في غزة.
"تُعتبر القائمة السوداء أسوأ تصنيف بحق الدول ضمن التقارير التي تصدرها الأمم المتحدة بناءً على طلب من مجلس الأمن الدولي"، تقول لرصيف22 د. سونيا بولس أستاذة القانون الدولي الإنساني في «جامعة نبريخا» في إسبانيا.
لكن ماذا تعني هذه الخطوة عملياً؟ وهل بمقدورها أن تحمي الأطفال الفلسطينيين من القتل والتجويع والخوف ونزع الطفولة أو اللاطفلنة التي يواجهها أطفال فلسطين على مدار تاريخهم الحديث؟
تعتبر الأكاديمية والباحثة نادرة شلهوب كيفوركيان، في إحدى مقالاتها، أن "سلاح اللاطفلنة يُستخدم من جانب المشروع الصهيوني وسياساته وآلياته العسكرية لإيذاء الفلسطينيين في كيانات اجتماعية- سياسية حميمية وغالية، ألا وهي أطفالهم".
لقد قتلت إسرائيل في حربها المستمرة على القطاع، وحدها، ما يزيد عن 15 ألف طفل، وجرحت عشرات الآلاف ويتّمت نحو 17 ألفاً وتسببت في فقدان 21 ألف طفل غزي، بحسب منظمة "أنقذوا الطفولة" البريطانية.
هي أرقام تدلل على الأرض الخصبة والجاهزة لأي طرف أممي أو قانوني في إصدارها أي قرار يهدف إلى معاقبة إسرائيل أو محاسبتها.
لطالما تهربت إسرائيل من القائمة
"تصدر الأمم المتحدة هذه القائمة بشكل سنوي. وتحدد فيها، بشكل علني، الأطراف المسلحة في النزاع. إلى جانب الانتهاكات المسؤولة عنها. كما تُحمّل مرتكبي الأذى ضد الأطفال أثناء الحرب المسؤولية من خلال هذه القائمة"، تقول بولس.
وتضيف: "أما معايير إدراج وشطب بالقائمة، فحددها الأمين العام للأمم المتحدة عام 2010، حين أشار إلى أن إدراج طرف ما في القائمة، ينطوي على انتهاجه نمطاً من الانتهاكات،
يشمل تجنيد الأطفال أو استخدامهم أو قتلهم أو إصابتهم بإصابات خطيرة أو الاعتداء الجنسي عليهم أو اختطافهم أو مهاجمة المدارس والمستشفيات- الذي يؤدي لسقوط على العديد من الضحايا".
خلص التقرير الجديد لعام 2023 إلى أن إسرائيل مسؤولة عن 5698 انتهاكاً، بما في ذلك قتل الأطفال وتشويههم والهجمات على المدارس والمستشفيات
وخلص التقرير الجديد لعام 2023 إلى أن إسرائيل مسؤولة عن 5698 انتهاكاً، بما في ذلك قتل الأطفال وتشويههم والهجمات على المدارس والمستشفيات.
تؤكد بولس أن" إسرائيل نجحت، تاريخياً، في التهرب من الإدراج في القائمة السوداء. على سبيل المثال في عام 2015، فشل الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك بان كي مون في إدراجها في القائمة، على الرغم من توثيق الأمم المتحدة مقتل ما لا يقل عن 561 طفلاً وإصابة 4271 آخرين في حرب عام 2014 على غزة".
وأقر التقرير السنوي للأمين العام الصادر عام 2015 بأن عدد الأطفال الذين قتلتهم إسرائيل عام 2014 كان ثالث أعلى عدد ضحايا من الأطفال في العالم. وعدد المدارس التي تضررت أو دمرت هو الأعلى من أي مكان آخر في العالم. لكنه لم يدرج إسرائيل في ملاحق التقرير.
وفي حين وثقت الأمم المتحدة سقوط أكثر من 8700 ضحية من الأطفال على يد إسرائيل بين عامي 2015 و2022، إلا أن حجم الانتهاكات في الحرب المتواصلة على قطاع غزة أكبر من أن يتجاهله الأمين العام.
تشير بولس إلى أنه لدى إدراج أحد الأطراف في هذا التقرير، يتم إنشاء آلية الرصد والإبلاغ في البلد المعني، يتولاها فريق عمل من منظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونيسف وأعلى ممثل للأمم المتحدة في البلاد.
ويكلف الفريق بتوثيق الانتهاكات والتحقق منها لاستخدامها في تقارير الأمم المتحدة في آلية قد تؤدي إلى تحسينات ملموسة في سلوك الأطراف المدرجة.
هي حرب على الأطفال
يُقتل في غزة طفل كل عشر دقائق في المتوسط. وهو معدل قتل دفع بمنظمات أممية إلى اعتبار حرب الإبادة على القطاع حرباً على الأطفال.
فقد أشار تقرير الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال أن الاحتلال الإسرائيلي يعتبر الأطفال هدفاً رئيساً في حربه على الشعب الفلسطيني، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية أو القدس.
من جهتها، حذرت منظمة منظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونيسف، من أن قطاع غزة أصبح أخطر مكان في العالم على الأطفال. وأن التأثير الذي تحدثه الحرب على الصغار يؤكد الاعتقاد السائد بأن الحرب في غزة "هي حرب على الأطفال".
لكن الحرب عليهم لا تُقاس في حجم قتلهم فقط. فعدد المفقودين والجرحى واليتامى والجوعى والمرضى الذين لا يحصلون على العلاج يفوق أيّ تصور.
وتوضح رهام الجعفري، مسؤولة التواصل والمناصرة في مؤسسة آكشن إيد-فلسطين، أن الانتهاكات الإسرائيلية بحق الأطفال في غزة متنوعة وعديدة، فمنهم من تعرض للفقدان وأصبح يتيماً ومنهم من فقد كامل أفراد العائلة وأطلق عليه اسم "الطفل الناجي من عائلة فقدت جميع أفرادها"، إضافة لفقدان البيت، والدمار والنزوح في مراكز الإيواء في ظل انعدام الغذاء والماء والملابس.
وكان الرقم الأخير الذي صدم العالم بخصوص انتهاكات حقوق الأطفال في غزة، هو ما أعلنت عنه منظمة أنقذوا الطفولة البريطانية، بأن تقديراتها تشير إلى فقدان نحو 21 ألف طفل في غزة نتيجة الحرب الإسرائيلية.
لا ينتهي الأمر عند الإصابة والفقدان، فالأعمال التي يؤديها الأطفال على نحو يومي، جعلت مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الانسانية، تشير إلى كونها أعمالاً خطيرة تثقل كاهلهم، من قبيل إحضار المياه والمواد الغذائية.
كما يتعرضون للذخائر المنتشرة وغير المنفجرة، وللعنف عند نقاط التوزيع بسبب التنافس على الموارد الشحيحة.
"إن الأطفال في القطاع يقومون بأدوار غير مطلوبة منهم، تشمل قطع مسافات طويلة للحصول على الماء لمساعدة عائلاتهم. ومن الصعب فهم مدى تحملهم للرعب الذي يواجهونه"، تقول الجعفري.
وتردف: "إضافة إلى القتل والاستهداف، يعاني أطفال غزة من الصدمات النفسية في ظل مشاهد القتل والدمار وفقدان الأقارب والأصدقاء واضطرارهم لاختبار تجارب تبر أطرافهم".
فقد أشارت الإحصائيات إلى نحو عشرة أطفال يفقدون طرفاً أو أكثر بشكل يومي.
تذكر الجعفري بحرب التجويع التي يعيشها أطفال غزة. "من المفجع أن أطفال الشمال يموتون لمجرد عدم تمكنهم من الحصول على طعام كاف"، تقول.
في كثير من الحالات، ليس لدى الأطفال خيار سوى شرب المياه قليلة الملوحة أو الملوثة، مما يؤدي إلى ارتفاع حالات التهاب المعدة والأمعاء والإسهال.
"هكذا، يضطر أطفال غزة إلى النوم جائعين وعطشى على صوت القنابل المتساقطة من حولهم"، تؤكد الجعفري.
الأطفال في القطاع يقومون بأدوار غير مطلوبة منهم، تشمل قطع مسافات طويلة للحصول على الماء لمساعدة عائلاتهم. ومن الصعب فهم مدى تحملهم للرعب الذي يواجهونه
نزع الطفولة يصل ذروته في غزة
تؤكد الباحثة والأكاديمية نادرة شلهوب كيفوركيان، في مقال لها بعنوان "الوصول إلى الذروة في نزع صفة الطفولة"، على أن الاستهداف الإسرائيلي للطفل الفلسطيني ليس عشوائياً، بل هو سياسة مقصودة، وعلى أن نزع الطفولة أو اللاطفلنة يمثل عنصراً إقصائياً من عناصر المنطق والممارسة الاستعمارية الاستيطانية.
وتضيف كيفوركيان: "إن نزع الطفولة خلال هذه الحرب، والتي تعلن نفسها على أنها ترمي إلى "تدمير 'حماس" من أجل "الثأر"، هو أمر يخفي وراءه ما هو أكثر شراً. فالهجوم الإبادي على غزة وأطفالها يشي بهذا النزع، بحيث يتم وصف الأطفال الفلسطينيين بأنهم دوماً، وإلى الأبد يولدون كلا- أطفالا وكـ"إرهابيين" بالفطرة".
وفي مقالها، تضيف الباحثة أن "حرب الإبادة الحالية تخيم مع ما يواكبها من صدمات نفسية على الأطفال ومجتمعهم ومساحاتهم وحيزهم وأجسادهم، ومن عنف لا متناهٍ في الحقل السياسي، على جميع نواحي حياة الأطفال الفلسطينيين، سواء أكانت جسدية أم اجتماعية أم نفسية وذهنيّة أيضاً".
وتضيف: "الأطفال في غزة هم بمثابة شهود عيان على نظام فكري يحول أجساد الأطفال إلى حلبة عقاب جماعية، ويحول أجسادهم وحياتهم إلى مختبرات لتجربة الأسلحة الفتاكة المحرمة دولياً".
وتنوه كيفوركيان إلى أن كلمات الأطفال ومشاهدهم وشهاداتهم، تحتم علينا إعادة النظر في هذا الامتناع الدولي، الراهن والتاريخي، من اتخاذ أي خطوة تجاه حياة هؤلاء الأطفال الذين تعرضوا لعنف عنصري، وتم وسمهم بالحيوانات التي يمكن قتلها وإبادتها من دون أي محاسبة أو عواقب، على يد دولة أدت أفعالها إلى مقتل ما يزيد على أربعة آلاف طفل في شهر واحد.
سيشعر الرأي العام العالمي المنحاز لفلسطين الآن بأهمية وقوفه واحتجاجه إلى جانب فلسطين وعدالة قضيتها، بعد إدراج إسرائيل في هذه القائمة
خوف إسرائيل من الأجيال القادمة
"إن سياسة الاستعمار المركزية هي "إجلاء الأرض من شعبها". وعندما تستهدف إسرائيل الطفل وتهدم كيانه، هي بذلك تعمل على زعزعة الهوية الوطنية، وبالتالي إلى نزع الإنسان من جذوره، وإلى إجلائه من أرضه. فتصير سرقة الطفولة أو اللاطفلنة هدفاً أساساً"، تقول لرصيف22 هانيا عبيد، الاختصاصية النفسية وخبيرة التدخل وقت الحروب.
وتردف: "إسرائيل تواجه مشكلة حتى مع إنجاب الفلسطينيين للأطفال. لأن وجودهم يعد خطراً على "دولة إسرائيل". ليس لدوافع ديمغرافية فحسب، بل إن الخوف
يتمثل بوجود أجيال قادمة تطالب بالأرض".
وتوضح عبيد أننا نراقب الطفل من عدة نواحي في مراحل نموه، فثمة النمو الجسدي والنمو العاطفي والنمو الانفعالي بالإضافة للنمو الاجتماعي والعقلي. والطفل في غزة يتعرض لاستهداف مباشر في النواحي الأربعة.
"الأطفال في غزة يعانون من التشرد والتشتت وانعدام الحياة الاجتماعية. ويعيشون حالة نفسية صعبة في ظل عدم توفر المعرفة لدى العائلة في مسألة التعامل مع الحالة النفسية للأطفال"، تقول عبيد.
وتضيف: "ليس مهماً اليوم توصيف حالة هؤلاء الأطفال فقط، فالأهم هو الجهد الكبير الذي يجب أن نضعه بعد الحرب من أجل التعامل مع الأطفال، وعلاج ما سوف تتركه الحرب من آثار جسدية ونفسية عليهم، وإعانتهم على تخطي ما مروا به في حرب الإبادة".
ماذا بعد إدراج إسرائيل في القائمة السوداء؟
ترى د. بولس أن القرارات الأممية الأخيرة لصالح فلسطين تعد مكاسب مهمة، لكنها بحاجة لتصور سياسي واضح يؤدي إلى استثمارها، حتى نرى نتائج على أرض الواقع.
وتشير إلى أن إسرائيل باتت تشعر أنها معزولة دولياً، جراء التغييرات الحاصلة على سياسات بعض الدول تجاهها. "سيشعر الرأي العام العالمي المنحاز لفلسطين الآن بأهمية وقوفه واحتجاجه إلى جانب فلسطين وعدالة قضيتها، بعد إدراج إسرائيل في هذه القائمة"، تقول بولس.
وتردف: "عام 2004، صدر رأي استشاري لأهم محكمة دولية قال إن إقامة جدار الفصل العنصري على الأراضي الفلسطينية مخالف للقانون الدولي. وهو موقف لم يستثمر فلسطينياً. إن حصول هذه التغييرات لا يجب أن يمنحنا الشعور بالراحة".
وتؤكد بولس أن أهم إنجاز قانوني يمكن أن يضيع دون رؤية سياسية واضحة. فكيف يمكن أن يستثمر الفلسطينيون، على المستوى السياسي والمدنية، خطوة كهذه؟ وهل ستُسحق تحت أذرع آلة الحرب والاحتلال الإسرائيلية كما سُحقت غيرها من القرارات والقوانين الدولية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...