شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
أطفال غزة في الحرب... ذوات مهشّمة وطفولة مبتورة

أطفال غزة في الحرب... ذوات مهشّمة وطفولة مبتورة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والفئات المهمشة

الاثنين 6 نوفمبر 202302:12 م

منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، واندلاع الحرب على غزّة وعمليات الاستهداف المباشر للمدنيين وخصوصاً الأطفال، وأنا واقعة كفريسة هشّة لصور الأطفال والفيديوهات المرئية التي تظهر بشاعة العنف الذي يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي بحقهم، بقتلهم وتحويلهم إلى أشلاء، أو تركهم أحياء مضرّجين بالدماء مبتوري الأطراف.

تقدّر نسبة الأطفال في قطاع غزة بـ 55% من عدد السكان البالغ حوالي 2 مليون و200 ألف نسمة، ووفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية، فإن نسبة الأطفال الذين استشهدوا منذ بداية الحرب وصلت إلى 40% من إجمالي عدد الضحايا الذي وصل حتى اللحظة إلى 9227 شهيداً.

ومع هذا الكمّ المفجع من الأطفال الشهداء، هناك الآلاف من الجرحى الأطفال الذين تعرّضوا لإصابات وأضرار بالغة، بعضها انتهت ببتر الأطراف، ومن نجى منهم من الموت والإصابة، فقد منزله وربما عائلته بأكملها.

إن استهداف الأطفال من قبل الاحتلال الإسرائيلي ليس بالأمر الجديد؛ فمن ينسى الطفل محمد الدرة الذي استهدفه جنود الاحتلال بوابل من الرصاص وهو في حضن والده في العام 2000، والطفلة الرضيعة إيمان حجو، ذات الأربعة شهور، والتي قتلت بشظية وهي في حضن والدتها، ومذبحة أطفال عائلة بكر الذين تم استهدافهم وهم يلعبون على شاطئ البحر في العام 2014. إنه تاريخ طويل من الإجرام بحق الأطفال وانتهاك مباشر لحقوق الإنسان واتفاقيات حقوق الطفل.

جزء كبير من إنسانيتي أُصيب بالعطب. أشعر بالقسوة تقبض على قلبي لا تفارقه، ويهتزّ إيماني بإنسانيتي التي كانت المبدأ الوحيد الذي يجمعني مع كل من حولي. اليوم أشعر أنني بحاجة لأن أشذّب إنسانيتي وأقصّ أجنحتها لأن هذا العالم الحقير لا يستحقها

في هذه الحرب، أصبح استهداف الأطفال بالجملة وبطريقة أكثر بشاعة وتطرّف، تحت ظل صمت عالمي رهيب، أمراً لا يحتمل. أتنقّل بين عناوين الأخبار والمشاهد المرعبة الدامية للأطفال المستهدفين وأنا أتمزّق من الألم، وأشعر، في ظل هذا العجز الشخصي وهذا الصمت الدولي، بأن جزءاً كبيراً من إنسانيتي أُصيب بالعطب. أشعر بالقسوة تقبض على قلبي لا تفارقه، ويهتزّ إيماني بإنسانيتي التي كانت المبدأ الوحيد الذي يجمعني مع كل من حولي. اليوم أشعر أنني بحاجة لأن أشذّب إنسانيتي وأقصّ أجنحتها لأن هذا العالم الحقير لا يستحقها.

في حديث مع والدي بعد انقطاع لأيام عن التواصل بسبب انقطاع شبكات الكهرباء والاتصالات والإنترنت عن غزّة، كان يتحدث عن مخاوفه وقلقه وهو يحيط أخوتي وأحفاده باهتمامه ورعايته في هذا الوقت الصعب. كان والدي تحت القصف يفكّر بهم ويعبّر لي عن خوفه على إنسانيتهم بعد أن عاشوا كل هذا العنف الوحشي، ويتساءل كيف يمكن أن نحدّثهم عن الإنسانية ومعاني الرحمة في كل هذا التوحّش الذي تمت ممارسته عليهم؟

في حديث مع والدي بعد انقطاع لأيام عن التواصل بسبب انقطاع شبكات الكهرباء والاتصالات والإنترنت عن غزّة، كان يتحدث عن مخاوفه وقلقه وهو يحيط أخوتي وأحفاده باهتمامه ورعايته في هذا الوقت الصعب.

منذ أيام وأنا أتساءل، كيف يختبر هؤلاء الأطفال هذا الشكل من التجارب العنيفة؟ كيف تبدو الصورة لديهم، وكيف يدركون أجسادهم المشوّهة وذواتهم المجروحة التي تم انتهاكها وأوجاعهم التي تمّ استفزازها؟ هل سيتعافون غداً من الخيبة؟ كيف سيكبرون؟ كيف سيتذكرون طفولتهم؟ كيف سينظرون إلى أنفسهم بعد أن شوّهتهم الحرب أو بترت أطرافهم؟

في طفولتي، كنت إذا ما تعرّضت للأذى وبكيت لأي سبب كان؛ أنظر في المرآة طويلاً؛ أتحدّث إليها، أبكي أمامها وأنظر إلى نفسي الهشّة تارة والقوية تارة أخرى. كان النظر إليها يمنحني شعوراً مريحاً وإحساساً قوياً بصورتي الشخصية، وبهذه الحالة من الاكتمال والمشاهدة الذاتية التي تمنح الثقة بشكل ما. وحتى حين كبرت وأصبحت أمّاً لديها أطفال، كان طفلي حين يصاب بالأذى أو يصدم جسده أو يتعرّض لإصابة أثناء اللعب، يبكي ويصيبه الخوف؛ فأسرع به إلى المرآة كي يرى نفسه كاملاً، وبأن هذا الجرح لم يغيّر كثيراً منه، ولم يؤثر في هيئته، وأنه مازال جميلاً كما يرى نفسه، وكما أراه أيضاً.

كان هذا الفعل دواء سحرياً كفيلاً بأن يمسح الخوف عنه ويعيد إليه ثقته ويوقفه عن البكاء، والآن، في خضمّ هذه المشاهد وهذه الحرب، أتساءل إن كان هؤلاء الأطفال قد أدركوا ما حدث، أو قادرين على استيعاب هذا الأذى النفسي والمادي الذي تعرّضوا له، أو قادرين على رؤية صورتهم في عيون الآخرين؟

ذكّرني ذلك بمرحلة المرآة للمحلّل والطبيب النفسي جاك لاكان، وهي مفهوم يصف تطور إحساس الطفل بذاته. ووفقاً لاكان، فإن أول لقاء للطفل مع صورته في المرآة هو لحظة محورية في تكوين الأنا لدى الطفل، إذ يتعرّف الطفل على الصورة في المرآة باعتبارها تمثيلاً خارجياً لنفسه، ويؤدي هذا الإدراك إلى تنمية الإحساس بالذات باعتبارها منفصلة عن العالم الخارجي.

يحدث هذا الأمر للأطفال بعمر 6-18 شهراً من نمو الطفل، وقبل هذه المرحلة وهذه المواجهة مع المرآة، يكون الطفل منذ ولادته في حالة ارتباط ووحدة مع الأم، مدفوعاً باحتياجاته لها، ومع مرحلة المرآة يحقّق الطفل أول إدراك لاستقلاليته الجسدية، وهكذا تبدأ عملية التعرّف على الذات التي تستمر مدى الحياة.

وبالتالي يمكننا أن ندرك أن مرور أطفالنا بهذه المرحلة، وفقاً لـ لاكان، يعني نقل شعور الطفل من حالة الجسد المجزّأ إلى حالة الكيان الكامل، وهو ما يعني مقاربة هي الأشدّ نحو حقيقة الذات وماهيتها، وفي الوقت الذي يستهدف الاحتلال الإسرائيلي الأطفال الرضّع دون ال 18 شهراً، ويجعل منهم أشلاء وقطعاً مبتورة، فإنهم يغادرون الحياة دون أن يعرفوا ذواتهم أو يدركوا التشكيل الكامل لجسدهم، وهذا يدفعني لأن أتبنى بعضاً من الميثولوجيا الشعبية، فأصدّق الخرافة التي تقول بأنهم سيصيرون عصافير، إذ تبدو هذه الخيالات منطقية، فهؤلاء الأطفال تم قتلهم دون أن يدركوا كياناتهم وتشكيل الجسد الموحّد الخاص بهم.

يمثّل هذا الاستهداف المباشر للأطفال استهداف كيانات غير مكتملة الذات وغير مستقلة بوعيها، كيانات مجزّأة لم تفلح حتى الآن بلمّ شتات نفسها وتكوين كيان موحّد، وهذا يعني أنها مازالت غير قادرة على بناء ذاتها الحقيقية الاجتماعية الناشئة، القادرة على التأثير والتفاعل، ونتساءل حينها ما الخطأ الذي ارتكبه الأطفال ليتم قتلهم بهذه الطريقة البشعة؟

فالطفل الذي نشأ في قطاع غزة وبلغ من العمر 17 عاماً وعلى بعد خطوة من انتهاء عهد الطفولة، عاصر حوالي ستة حروب متتالية، وحصاراً خانقاً منذ العام 2007، هذا بالإضافة لصفة اللجوء الدائم التي تجعله يعيش حياة بعيدة عن الاستقرار والنمط الطبيعي لأي طفل في العالم

إنها فعلاً إبادة جماعية قائمة على التدمير والتبديد والفتك الذي سيحدث خللاً في الديموغرافية السكانية والتركيبة العمرية والنوعية لسكان قطاع غزّة، لا بل وستمتد آثار هذه الصدمة التي عايشها الأطفال والرضّع لتؤثر في مستقبلهم ووعيهم وتكوين شخصيتهم لاحقاً.

فالطفل الذي نشأ في قطاع غزة وبلغ من العمر 17 عاماً وعلى بعد خطوة من انتهاء عهد الطفولة، عاصر حوالي ستة حروب متتالية، وحصاراً خانقاً منذ العام 2007، هذا بالإضافة لصفة اللجوء الدائم التي تجعله يعيش حياة بعيدة عن الاستقرار والنمط الطبيعي لأي طفل في العالم.

وبالتالي هو طفل يعيش حالة من الصدمة الدائمة والمتتابعة؛ ما يعني تعطيلاً فعلياً لعملية مرحلة المرآة التي تحدث عنها لاكان، ففي حالات الصراع، يتم استبدال المرآة بمشاهد العنف أو الدمار أو الفوضى، ما يجعل من الصعب على الأطفال تكوين صورة ذاتية مستقرّة وإيجابية؛ وحتى إن كان هناك مساحة للتعافي، فمع كل حرب يتم نسف كل مجهود بناء يعمل على ترميم تكوين الذات الخاص بهذا الطفل، تاركاً وراءه أطفالاً بذوات مجزأة ومفهوم ذاتي مكسور أو غير مستقر، لأن تجاربهم المعاشة تتحدّى تماسك هويتهم ووحدتها.

إن تجربة الحرب التي خاضها أطفالنا مع هذه الحالة من الشتات تعزّز لديهم حالة من الاغتراب الدائم أيضاً؛ فالأطفال الذين شهدوا أو تعرّضوا للعنف والخسارة قد تتطوّر لديهم رغبات عميقة في السلامة والأمن والسعي الدائم نحو الشعور بالكمال، والتي يمكن أن تستمرّ طوال حياتهم، والاغتراب يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالشعور بالنقص، فإدراك الطفل لكونه بعيداً عن صورة الطفولة الطبيعية في عالم أصبح اليوم كقرية صغيرة، يخلق لديه شعوراً بالنقص، حيث يسعى جاهداً للوصول إلى هذه الصورة والاندماج فيها، ويستمر هذا الشعور بالنقص والرغبة طوال حياة الفرد، ويلعب دوراً مهمّاً في ذاتية الإنسان ورغبته.

إن التكوين الهشّ والمجزّأ الذي تتركه الحرب على أطفالنا يمثل قضية متعدّدة الأبعاد ومعقدة للغاية، وفي حين أن مرحلة مرآة لاكان قد ساعدتني في تخيل مقتضب حول تعقيدات واشكاليات الحياة التي تنتظر أكثر من مليون طفل في قطاع غزة، إلا أنني أعتقد أننا بحاجة لجهود حثيثة ومكثفة وواعية لمساعدة الأطفال على تجاوز آثار هذه الصدمة والطريقة التي تعطّل تشكّل مفهوم الذات والذاتية لديهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image