بثيابهما النظيفة وشعرهما المتفلّت من جدائله، تنام صغيرتاي إلى جانبي في السرير، أتمعّن في ملامحهما الوادعة وأجفانهما المطبقة، وأمسح ظهريهما بيد مرتجفة تحاول أن تسكت صوتاً داخلياً ملحّاً: "كان يمكن أن نكون نحن، كان يمكن أن تكونا هما".
أفكّر، ماذا لو أن يد الله التي أسقطتني في الساحل السوري قد انحرفت قليلاً نحو الجنوب فسقطت في غزّة، أجزم أنني كنت سأنجبهما في أي مكان ولدت، ولو حدث ذلك لكان يمكن أن تكونا هما. طفلتان بملابس النوم البريئة التي استحالت رمادية بفعل الإسمنت المنهار والرماد، بعيون مدوّرة، مفتوحة على اتساعها، تحاول استيعاب ما حدث، بدم لا أحد يعرف من أين ينبع، بحناجر مبحوحة متخرّشة، تائهتين، خائفتين، باكيتين بغير دمع، عاجزتين كل العجز، تصرخان: "بدي ماما، وين ماما"، في مستشفى يتراكض فيه الجميع بغير وجهة، ويعلو صراخ الجميع على عويلهما المكتوم.
الفكرة بحد ذاتها تشعرني بالذعر، أصعب السيناريوهات بالنسبة لي ألا أشاركهما العالم، أي عالم، أقرّبهما مني وأتابع تصفّح الأخبار: "اسمي عمر وأختي اسما سوسو". أنا أيضاً ابنتي الكبرى تتحدث نيابة عن أختها، كان يمكن أن نكون نحن، كان يمكن أن تكونا هما، كان يمكن أن تكونوا أنتم!
بعد ليل مطوّل من الكوابيس، أستيقظ لأجهزهما للمدرسة، أتخيّل شكل بقع الدم على المريول، وشكل الغبار والحصى والحروق في الشعر وأنا أضفر الجدائل الشقر، وشكل كسرة خبز يابس في علبة طعام محطمة سقط عليها الجدار. كانوا جميعاً أطفالاً بغد مدرسي، بواجبات منزلية مقيتة أمضوا ساعات في حلها، دون أن يعلموا أن عيناً لن تراها، ليتهم علموا فأمضوا ساعاتهم الأخيرة في اللعب، في الشجار، في مشاهدة يوتيوب غير هادف يمنحهم متعة أخيرة.
كانوا جميعاً أطفالاً بغدٍ مدرسي، بواجبات منزلية مقيتة أمضوا ساعات في حلها دون أن يعلموا أن عيناً لن تراها، ليتهم علموا فأمضوا ساعاتهم الأخيرة في اللعب، في الشجار، في مشاهدة يوتيوب غير هادف يمنحهم متعة أخيرة
عقدة الناجي
علمت من خلال المنشورات الكثيرة على مواقع التواصل أنني لم أكن الوحيدة، كنا كثراً، نحن الذين نجلد أنفسنا على وجودنا خارج القطاع، ونلومها على لعنة بقائها حية بعد كل الحروب والزلازل والأزمات التي مر بها كل بشريّ على اختلاف الجغرافيا، الجنة التي حدثونا عنها في الطفولة ‑ والتي لا أذكرها إلا في الأزمات ‑ لا يشعر الناس فيها بالخوف ولا بالحزن.
أفكر أنه كان من الأفضل لو متنا ورأينا المشهد من هناك، حيث لا نستطيع الحزن حتى لو رغبنا وحاولنا، الوضع أشبه كمن يعرف الخواتيم فلا يقلقه تصاعد الأحداث وتعقيدها في الحبكة، أعرف جيداً هذا الشعور، أنك تريد أن تعتصر قلبك ولكنك لا تستطيع، يذكّرني بالمرتين اللتين أخذت فيهما إبراً مهدئة لمواجهة انهيارين عصبيين، فتعجز الأسباب عن تحريضي على البكاء مهما أجهدت نفسي في ذلك.
قرأت كثيراً عن هذه العقدة، الحالة التي يدخلك بها تعرّض الآخر للموت والأذى بينما أنت مضطر لممارسة حياتك بشكل طبيعي، تطهو وتعمل وتدرس بينما هو يبحث عن النجاة بحياته فقط، تشعر أن الحياة غير عادلة، أن الله فكرة لا وجود لها إلا في الكتب المقدسة، وأننا نعيش في غابة، البقاء فيها لمن يحمل سلاحاً أحدث، ومن يستطيع الكذب أكثر، فتبحث عن زر أحمر تنهي به هذه المهزلة وتطفئ النور إلى الأبد، إلى أن تشدّ أيدي أطفالك ثوبك إلى أسفل: "ماما، جهز الغدا؟" تتذكّر أن الزر الأحمر يعني عويل "بدي ماما"، فيرتجف قلبك وتطوي سبابتك المستندة على الزر.
لا تبدو الحياة منطقية من هنا، صباحاً وأنا أكنس المنزل من الغبار، حط على شباكي عصفور، فكّرت أنه قادم من هناك، وأنه يخشى أن يتنهّد فيلفظ آخر ما تبقى في صدره من غبار مدخنة سكنها.
القطة التي شاكستها فتجاهلت كل "بسّ" قلتها لها، كانت ربما حزينة على مثيلتها هناك التي لم تكفها أرواحها السبعة لتبقى حية كما أخبرها العصفور. أنا اليوم أعيش في عالمين وهذا يمزقني، أفكّر بكتابة شيء عن هذا، بوضع صورة سوداء على حساب فيسبوك، بمشاركة الهاشتاغ الكليل، فأتخيّل العيون المدورة المذعورة تشيح بصرها عني بدون أي تعبير يشي بأنني فعلت شيئاً، يشعرون بالإحباط وخيبة الأمل، ويشلّني العجز والشعور بالظلم والمهانة.
أكذب على نفسي مرة أخرى
منذ اندلعت الحرب السورية وأنا أقنع نفسي بأن الموت لا يؤلم، الأمهات هناك يطمئنّ أطفالهن بعبارة مشابهة: "لا تخاف من صوت القصف، الصاروخ أسرع من الصوت، الصاروخ الي بيقتلك ما بتسمع صوتو". هل يوجد شيء مريح أكثر من هذا؟ أجزم أن من يقضون نحبهم بالرصاص أو الذبح أو القصف لا يتألمون، يخافون قبل الموت ربما إذا ما وعوا وجوده، أما الألم الحقيقي فهو للناجين والمتفرّجين، التنكيل بالجثث يؤلم الأحياء أيضاً، أما الموت فهو لحظة انقطاع الإرسال، وانتقال الصورة من الأسود والأحمر إلى الضوء الساطع الذي لا تحجبه الأصابع.
أشاهد أطفال غزة في مشهد أكفانهم المحزومة كأنها أشرعة، متناثرين في كل مكان، متعامدين مع أيادي ذويهم بكل إتقان، منتظرين لحظة تحول السواعد في التشييع إلى سواري ليفردوا بياضهم الناصع، ويبحروا بطمأنينة إلى عالم مهيب أزرق
الناجون من أي تفجير وأي قصف يصفون لحظات ما قبل الوقوع وبعده، أما لحظة الحدث فتمرّ أسرع من أن يتكون عنها أي انطباع، لحظة لا تشبه شيئاً، ولا يشبه ما بعدها ما قبلها بأي شيء.
أنت خائف؟ إذن أنت حي، مبروك! أما موت الآخرين، حتى الوالدين، فسوف يصبح بالنسبة لك عادة، حدث يؤرجحك بين الحزن على الفقد والفرح بالنجاة، فتنهار باكياً مصدوماً، ثم تهمس لك روحك الغالية "ولكننا نجونا"، وبالطبع، فإن موت الأبناء حدث مستثنى من هذا السيناريو، فهو الموت الروحي الذي يسبق الموت الحيوي. الموت لا يؤلم الموتى، الموت يؤلم الأحياء فقط، وهو عمل شاق للأحياء، أما الأموات فهم مرتاحون إلى الأبد.
في قصة "جوع" لصديقتي الكاتبة رهام عيسى، يتحول الناس المحاصرون الجوعى إلى أمنياتهم وشهواتهم التي يتوسلون الله بها كل ليلة، الآباء يصيرون قطع لحم، والأمهات حبات بطاطا، أما الأطفال فيستحيلون سكاكر ملونة شهية متناثرة في كل مكان. أتذكّر هذه الصورة وأنا أشاهد أطفال غزة، ترى أي أمنيات طلبوها في لحظاتهم الأخيرة؟ فتأتيني الإجابة في مشهد أكفانهم المحزومة كأنها أشرعة، متناثرين في كل مكان، متعامدين مع أيادي ذويهم بكل إتقان لدورهم الشيئي، منتظرين لحظة تحول السواعد في التشييع إلى سواري ليفردوا بياضهم الناصع، ويبحروا بطمأنينة إلى عالم مهيب أزرق، حيث لا تخونهم سماء ولا تضيق بهم أرض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.