شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
أبعاد أزمة المياه في مصر وتداعيات سد النهضة (12)... الرؤية القانونية للنزاع

أبعاد أزمة المياه في مصر وتداعيات سد النهضة (12)... الرؤية القانونية للنزاع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الأحد 30 يونيو 202402:19 م

أبعاد أزمة المياه في مصر وتداعيات سد النهضة (12)... الرؤية القانونية للنزاع

استمع-ـي إلى المقال هنا

شرحنا في المقالَين السابقَين أهمّ قوانين وقواعد المياه الدولية، وكذلك تطبيق هذه القوانين في حالات نزاع مماثلة للنزاع المصري الإثيوبي. بينما سيركز هذه المقال على آخر حالة نزاع مماثلة وهي معاهدة مياه السند ومشروع "باجليهار" للطاقة الكهرومائية بين الهند وباكستان، وما يمكن أن نستخلصه من البعد القانوني لتحليل هذا النزاع.

تعتبر العلاقات الهندية الباكستانية معقدة، ومليئة بالتوتر، وعدائية إلى حد كبير لأسباب تاريخية كثيرة. ومع ذلك، فإن المعاهدة المتعلقة بنهر السند تبدو استثناءً. بعد ثماني سنوات من المفاوضات التي رعاها البنك الدولي، وقّع البلدان على معاهدة مياه السند في أيلول/سبتمبر 1960. وقد أثبتت المعاهدة ديمومتها بشكل ملحوظ، فنجت من ثلاث حروب لاحقة بين البلدين، ومن السمات الواضحة فيها تأثير قوانين المجاري المائية الدولية العرفية الممثلة فيها.

نشأ النزاع على سد النهضة عندما تصرفت دول المنبع بشكل أحادي وبطريقة تضرّ بمصالح دول المصب.

تحفظ تلك المعاهدة للهند حقها في استخدام مياه الأنهار الشرقية الثلاثة (رافي، وبيس، وسوتليج)، التي تحمل 33 مليون فدان/قدم من تدفقها السنوي إلى الهند، وحق باكستان في استخدام مياه الأنهار الغربية الثلاثة (تشيناب، وجيلوم، وإندوس)، والتي تزودها بـ 165 مليون فدان/قدم. وقد ساعدت آليات التعاون الوثيق وتبادل المعلومات في الاتفاق على مبدأ "الاستخدام العادل والمُنصِف" وهو لا يتعلق إطلاقاً بتقسيم كميات المياه بالتساوي.

علاوة على ذلك، وبموجب المادة الثالثة من المعاهدة، يُحظر على دولة المنبع، الهند، بناء مرافق تخزين أو تخزين المياه على الأنهار الغربية، وبالتالي يتم الحفاظ على تدفق المياه إلى باكستان. ولكن يُسمح للهند ببعض الاستخدام الزراعي المحدود، والاستخدام المنزلي وغير الاستهلاكي وتوليد الطاقة الكهرومائية.

وفي أيار/ مايو 1999، أعلنت الهند قرارها ببناء محطة توليد الطاقة الكهرومائية "باجليهار" على نهر تشيناب في كشمير، واعترت باكستان المخاوف بسبب تصميم ومواصفات المشروع وتسببه في تعطيل وخفض تدفق المياه إلى أراضيها، ومنطقة التخزين المتمثلة في بركة السد. عام 2005، طلبت باكستان من البنك الدولي تزويدها بخبير محايد لدراسة الانتهاكات الهندية، وفقاً للمزاعم الباكستانية، على النحو المسموح به في المادة التاسعة (2) (أ) من المعاهدة. صدر تقرير الخبير ليطالب الهند بتعديل تصميم السد لتقليل تأثيره على تدفق المياه لباكستان، من خلال تخفيض ارتفاع السدّ وسِعَته، وتغيير مواصفات أنفاق سحب الطاقة. واعتبرت باكستان تقرير الخبير "نصراً عظيماً"، إذ أيد ثلاثة من مطالبها، دون المطلب الرابع.

هناك أوجه تشابه بين هذه القضية مع قضية سد النهضة، ويشبه تحقيق لجنة الخبراء والتقرير اللاحق الصادر في أيار/ مايو 2013، والذي طلبته مصر والسودان، تقرير الخبير المحايد في حالة الهند وباكستان، إذ وجدت لجنة الخبراء مشكلات في تصميم سدّ النهضة، وأوصت بإجراء تعديلات ومزيد من التحقيقات للتأكد من التأثيرات على مجرى النهر. لكن ذلك لم يؤدِّ ذلك إلى حل سلمي كما في حالة الهند وباكستان، وقد يكون هذا بسبب عدم وجود معاهدة مفصلة ودقيقة متفق عليها بشكل متبادل بين إثيوبيا، كدولة منبع، ومصر والسودان، كدول مصب، حول الإدارة المشتركة للنهر. بينما قدمت معاهدة السند إطاراً للفصل الفعال والحل السلمي للنزاع حول مشروع باجليهار.

قانون المياه الدولي والنزاع المصري-الإثيوبي

تحدث النزاعات على المجاري المائية المشتركة كثيراً، وهو غالباً أمر لا مفرّ منه، إذ تتعارض مصالح الدول عند استخدام وإدارة مورد محدود للغاية على وجه هذا الكوكب، وهو المياه. وعادة ما تكون لمصالح دولة ما الأسبقية على مصالح الدول الأخرى عند اتخاذ القرارات بشأن استخدام المياه. كما أن الطلب المتزايد على المياه العذبة المرتبط بالنمو السكاني ملحوظ للغاية حالياً، ومن المرجح أن تؤدي تأثيرات تغير المناخ إلى تفاقم احتمالات نشوب مثل هذه الصراعات. تمت إدارة العديد من النزاعات المتعلقة بالمياه من خلال تطبيق مبادئ قانون المياه الدولي، في حين لم تنجح هذه القوانين في حلّ نزاعات أخرى.

يظل التعاون هو أفضل وسيلة لحلّ أي نزاع بأقل قدر من الضرر لجميع الأطراف. ويتعين على الطرفين المتنازعين حل خلافاتهما وإيجاد أرضية مشتركة من خلال استخدام قانون المياه الدولي كأساس، مع الأخذ في الاعتبار حق البشر في الحصول على المياه النظيفة بتكلفة مقبولة

إن مبادئ قانون المياه الدولي المضُمنة في قواعد هلسنكي لسنة 1966، وقواعد برلين للموارد المائية لسنة 2004، ليست مُلزمة، كما إن اتفاقية الأمم المتحدة للاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية لسنة 1997 مُلزمة فقط للدول التي صدقت عليها، وهو ما لا ينطبق على الوضع بين مصر وإثيوبيا، رغم أن هذه القواعد الثلاث تمثل المبادئ الراسخة للقوانين الدولية العرفية والتي تحمل في طياتها سلطة كبيرة من الخبراء والمؤسسات الدولية التي تنشرها وتتعامل بها.

ينبع النزاع حول سد النهضة من التوتر الناتج عن التعامل مع المبدأين القانونين، "الاستخدام العادل والمُنصِف" و"الالتزام بعدم التسبب في ضرر جسيم". من ناحية، تعتمد إثيوبيا في موقفها على الاستعانة بمبدأ "الاستخدام العادل والمُنصِف" والحجة القائلة إنها لم تحصل على نصيبها العادل في الماضي، وباعتبارها دولة من دول المنبع، يمكنها التصرف من جانب واحد للوصول إلى ما تعتبره "حصتها العادلة"، بغض النظر عن تأثير ذلك على دول المصب.

ومن ناحية أخرى، تلتزم مصر في موقفها بالاستعانة بمبدأ "الالتزام بعدم التسبب في ضرر جسيم" لدول المصب، فتزعم بأن الإجراءات الأحادية التي اتخذتها إثيوبيا غير عادلة وتسبب ضرراً جسيماً لها.

وبدراسة وتطبيق العوامل التي تُحدد الاستخدام المنصف والمعقول للمجرى المائي على كلا البلدَين، والتي وردت في المادة الخامسة والسادسة لاتفاقية الأمم المتحدة للاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية، نجد التالي:

إن كون إثيوبيا هي مصدر حوالي 84% من مياه النيل، لا يعتبر عاملاً ذا صلة في تحديد استخدام الدولة لمياه المجرى المائي المشترك، وليس لها الحق في حصة أكبر من المياه تحت هذا الزعم. وقد يبرر ارتفاع عدد السكان في إثيوبيا وانخفاض نصيب الفرد من الدخل نسبياً عن نظيره في مصر زيادة الاستخدام على أساس المساواة، ويبدو كذلك أن إنشاء إثيوبيا لسدّ النهضة واستخدامه لتوليد الكهرباء وبيعها لتحسين الظروف الاقتصادية للبلاد له ما يبرره في هذا الصدد أيضاً. وإذا كانت استخدامات مصر لمياه النيل تمنع إثيوبيا من تحقيق هذا الهدف، وفقاً للمزاعم الإثيوبية، فقد تعتبر غير عادلة.

ورغماً عن هذه المزاعم، أعلنت الدولة المصرية أن استخداماتها لمياه النيل تخضع لمبدأ "الاستخدام العادل والمُنصِف"، مبررة ذلك بأن مصادر وموارد المياه لديها شحيحة للغاية. وقد طالبت مصر سابقاً من الأمم المتحدة أثناء المفاوضات إضافة بند "توافر بدائل أخرى متاحة للمياه" للعوامل المحددة للاستخدام المنصف والمعقول للمجرى المائي.

من المرجح أن تؤدي تأثيرات تغير المناخ إلى تفاقم احتمالات نشوب نزاعات على مجاري المياه بين الدول.

لدى مصر، مثل إثيوبيا، عدد كبير من السكان، لكن أنظمتها المتقدمة نسبياً تضمن الاستخدام المحافظ للمياه، وهو عامل آخر لتقييم الاستخدام، على الرغم من أنها أكبر مستهلك لمياه النيل. وتدعي مصر كذلك أن حقوقها التاريخية كأول دولة قديمة استخدمت مياه النيل يجب أن تُؤخذ في الاعتبار عند تفسير مبدأ "الاستخدام العادل والمُنصِف". ومن الجدير بالذكر أن استخدام إثيوبيا المنخفض على مرّ التاريخ لمياه النيل يظُهر عدم اهتمامها بالنهر من قبل، وسيكون في غير صالحها عند تفسير هذا المبدأ.

رؤية النزاع المصري-الإثيوبي في ظل الحالات المماثلة

بالمقارنة بين النزاع المصري-الإثيوبي وحالات النزاع المماثلة ذات الصلة، نجد أن النزاع نشأ عندما تصرفت دول المنبع بشكل أحادي وبطريقة تضرّ بمصالح دول المصب، واعتمد الطرف "المتضرر" على حكم مستقل لحل النزاع. وفي كل حالة، التزم الطرفان بالقرارات والتوصيات. ومع ذلك، في حالة النزاع المصري-الإثيوبي، لم يكن تقرير لجنة الخبراء المستقلين ولا الجولات المتعددة من التحكيم الدولي (البنك الدولي/الولايات المتحدة الأمريكية، ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي) كافية لحل نزاع سد النهضة، إذ لم تلتزم إثيوبيا بأي قرارات.

وإلى الآن، ما زالت إثيوبيا تواصل اتخاذها لإجراءات أحادية، والتي بدأت حين حوّلت أولاً مجرى النيل الأزرق للبدء في بناء السد، وثانياً، حين أجرت أربع مراحل لملء السد في حزيران/يونيو 2020 وأيار/مايو 2021 وآب/أغسطس 2022 وآب/أغسطس 2023، في انتهاك لاتفاقية إعلان المبادئ الخاصة بالسد، وقد اتخذت كل هذه الإجراءات دون أي موافقة من دولتَي المصب. وضعت هذه الإجراءات الأحادية إثيوبيا في وضع مماثل لتشيكوسلوفاكيا عندما حوّلت مياه الدانوب إلى قناتها الخاصة وكذلك لما فعلته أوروغواي بشأن بناء المطاحن.

هناك أوجه تشابه بين قضية الهند وباكستان وقضية سد النهضة من ناحية تقارير الخبراء، لكن في الحالة الثانية لم يتم التوصل إلى حل سلمي ربما بسبب عدم وجود معاهدة دقيقة متفق عليها بين إثيوبيا، كدولة منبع، ومصر والسودان، كدول مصب، حول الإدارة المشتركة للنهر

وتحتفظ مصر بخيار إحالة القضية إلى محاكم المياه الدولية، أو محكمة العدل الدولية، أو العودة إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إذا لم يحرز تقدم مُرضٍ في حلّ النزاع.

التعاون من أجل استدامة المجرى المائي

يظل التعاون بين الدول المتنازعة هو أفضل وسيلة لحلّ أي نزاع بأقل قدر من الضرر لجميع الأطراف. ويتعين على الطرفين المتنازعين حل خلافاتهما وإيجاد أرضية مشتركة من خلال استخدام قانون المياه الدولي كأساس، مع الأخذ في الاعتبار الحق الأساسي للبشر في الحصول على المياه النظيفة بتكلفة مقبولة. في حين يمكن استخدام اتفاقية الأمم المتحدة ومبادئ قانون المياه الدولي كنقطة انطلاق واقعية للمفاوضات، فمن الحالة الهندية الباكستانية، يبدو أن التوصل إلى اتفاق شامل وواضح حول طريقة إدارة المجاري المائية المشتركة قبل إنشاء أي مشاريع كان أمراً ضرورياً.

وقد لا يكون من قبيل المصادفة أن المعاهدات التاريخية الموقعة بين مصر ودول المنبع الأخرى قد وفرت مثل هذا الأساس، مما مكّن السودان ومصر من التفاوض على العديد من حالات الاستخدام التي يحتمل أن تكون محفوفة بالمخاطر بشكل ودي نسبياً، وبالاستفادة من فوائد مشتركة من مشاريع لاحقة.

علاوة على ذلك، فإن قانون المياه الدولي لا يهتم فقط باستخدام المجاري المائية أو حصصها أو الحفاظ على علاقات حسن الجوار، بل يهتم أيضاً بالحفاظ على النظم البيئية والبيئات البحرية، والحد من والسيطرة عليه، وحماية الأنواع والفصائل الحية، وحماية المجرى المائي نفسه. وقد تم تجاهل هذا النطاق إلى حد كبير خلال مفاوضات الدولتين، ومن شأن توسيع النطاق أن يوفر فرصة لحلّ مستدام ومستقبل أفضل للقارة الإفريقية كلها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image