شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
أبعاد أزمة المياه في مصر وتداعيات سد النهضة (9)... ماذا يُخبرنا التاريخ؟

أبعاد أزمة المياه في مصر وتداعيات سد النهضة (9)... ماذا يُخبرنا التاريخ؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الأربعاء 27 مارس 202409:19 ص

أبعاد أزمة المياه في مصر وتداعيات سد النهضة (9)... ماذا يُخبرنا التاريخ؟

استمع-ـي إلى المقال هنا

شرحنا في المقالين السابقين البعد التاريخي للأزمة والنزاع حول مياه نهر النيل، وركزنا على معاهدات نهر النيل التي وقعت في الحقبة الاستعمارية، من عام 1891 إلى عام 1929، وكذلك معاهدات ما بعد الاستعمار، من عام 1959 إلى اليوم.

ويبقى أن نناقش اتفاق إعلان المبادئ لسد النهضة، وهو ما سننهي به البعد التاريخي للنزاع، وسنناقش كيف كانت التفسيرات التاريخية للمعاهدات من الأسباب الرئيسية الكامنة وراء الخلاف الراهن، بسبب تباين وجهات نظر الدولتين حيالها.

أي مقترح يتعلق باستخدام مياه النيل يمكن أن تطرحه إحدى دول الحوض، سيهدد بشكل أو بآخر المصالح الوطنية للدول الأخرى.

اتفاق إعلان المبادئ لسد النهضة (2015)

تنبع أهمية هذه الاتفاقية من أنها الوحيدة في العصر الحديث بين الدول الثلاث، مصر والسودان وإثيوبيا، والتي تختص تحديداً بمناقشة مسائل متعلقة بسد النهضة، وقد تم التوقيع عليها بعد الكثير من المداولات بين هذه الدول في الخرطوم في 23 آذار/ مارس 2015.

يتألف الاتفاق من ديباجة وعشرة مبادئ، أربعة منها تتعلق بسد النهضة على وجه التحديد، في حين أن الباقي مستمدة من مبادئ قانون المياه الدولي. وتؤكد الديباجة على قيمة النيل للدول الثلاث، وتنميتها، وتؤكد على المبدأ الأساسي للمساواة في تقاسم واستخدام النهر بين دول الحوض.

تناقش المادة الأولى التعاون والمصالح المشتركة وحسن النية ومبادئ قانون المياه الدولي والفهم العميق للاحتياجات المائية لكل طرف، وتنص المادة الثانية على الاعتراف المصري والسوداني بالحق الإثيوبي في توليد الطاقة المستدامة عن طريق سد النهضة، مما يسهم في التنمية الاقتصادية لإثيوبيا والتكامل الإقليمي بشكل عام. تناقش المادتان الثالثة والرابعة على التوالي المبدأين الرئيسيين لقانون المياه الدولي، إذ تلتزم الدول الثلاث بعدم التسبب في أي ضرر جسيم أو ضرر لبعضها البعض، والمساواة والاستخدام المعقول لمياه النيل.

تناقش المادة الخامسة التوصيات المستقبلية لفريق الخبراء الدولي، إذ ألزمت الاتفاقية أطرافها الثلاثة بإجراء الدراستين الشاملتين اللتين أوصت بهما لجنة النيل الثلاثية من قبل، بالإضافة إلى وضع المبادئ التوجيهية والقواعد الخاصة بملء سد النهضة وتشغيله السنوي بعد ذلك. علاوة على ذلك، أوضحت أنه يجب على إثيوبيا الإعلان عن أي ظروف غير متوقعة لدول المصب، إذا كانت هناك حاجة لتغيير في تشغيل السد، الذي يجب أن يتماشى مع تشغيل بقية السدود المملوكة لدول المصب. وبموجب المادة السادسة، يعطى الاتفاق الأفضلية لدول المصب لشراء الطاقة الكهرومائية المولدة من السد.

تناقش المادة السابعة مبدأ تبادل المعلومات والبيانات، إذ تلتزم الدول الثلاث بتوفير البيانات والمعلومات اللازمة لإجراء الدراسات المشتركة بحسن نية وفي الوقت المناسب. وتختص المادة الثامنة بالتزام إثيوبيا بسلامة السد. بينما تؤكد المادة التاسعة على مبدأ السيادة والسلامة الإقليمية للدول الموقعة وعلى أهمية التعاون على أساس المساواة والمنفعة المتبادلة وحسن النية، من أجل تحقيق الاستخدام الأمثل والحماية اللازمة للنهر.

المادة العاشرة والأخيرة تختص بنظر التسوية السلمية للمنازعات، فتنص على أن تقوم الدول الثلاث بتسوية النزاعات الناشئة عن تفسير أو تنفيذ الاتفاقية ودياً من خلال التشاور أو التفاوض وفقاً لمبدأ حسن النية. إذا لم يتمكن الطرفان من حل النزاع من خلال التشاور أو التفاوض، فيمكنهما طلب التوفيق أو الوساطة أو إحالة الأمر للنظر فيه من قبل رؤساء الدول/ رئيس الحكومة.

تنبع أهمية اتفاقية إعلان المبادئ لسد النهضة من أنها الوحيدة في العصر الحديث بين الدول الثلاث، مصر والسودان وإثيوبيا، والتي تختص تحديداً بمناقشة مسائل متعلقة بالسد، وقد تم التوقيع عليها بعد الكثير من المداولات

لم ينهِ الاتفاق النزاع القائم، وبدأ الخلاف فور التوقيع، مع الجدل حول تفاصيل واختصاصات الدراسات. استمرت المفاوضات حتى عام 2019، مع تصاعد التوترات، واستخدمت المادة العاشرة بعد فشل الدول الثلاث في التوصل إلى اتفاق بشأن ملء وتشغيل السد. بناءً على طلب مصر، توسطت الولايات المتحدة الأمريكية، واتفق على أربع جولات من المحادثات التي انسحبت منها أثيوبيا بعد اعتراضها على المسودة النهائية للاتفاق المطروح للتوقيع في الجولة الرابعة.

في هذه الأثناء، بدأ الإثيوبيون عملية الملء الأولى لخزان سد النهضة في حزيران/ يونيو 2020، وأجريت عملية ملء ثانية في نهاية أيار/ مايو 2021، وثالثة في آب/ أغسطس 2022، وآخرها كانت في آب/ أغسطس الماضي 2023 مع استكمال الملء الرابع لسد النهضة.

ماذا يُخبرنا التاريخ؟

في أثناء هذا النزاع، لعبت التفسيرات المتناقضة للمعاهدات دوراً بالغ الأهمية في عدم تجاوز الخلافات حول نهر النيل بين دولتي المصب والمنبع. لا شك أن هذه التفسيرات المتباينة، والتي تخلق حالة من عدم اليقين، تمثل تحدياً أمام التوصل إلى حل نهائي للنزاع وتؤدي إلى تفاقم الأوضاع، وقد كانت التفسيرات التاريخية للصراع المصري الإثيوبي السبب الرئيسي في تهويل المواقف وعرقلة جهود إنهاء النزاع وإيجاد بيئة مستقرة وسلمية كما يرغب المجتمع الدولي.

بالنظر إلى المعاهدات التي وقع عليها خلال الحقبة الاستعمارية، سنرى أنها خدمت بشكل مباشر مصالح هذه القوى الاستعمارية. من ناحية، قدمت إثيوبيا ادعاءات مشروعة لإثبات أن هذه المعاهدات غير ملزمة، وتشمل ما يلي:

● فضلت هذه المعاهدات دول المصب لخدمة مصالح القوى الاستعمارية، وهناك دائماً تحيز مفترض عندما تسعى هذه القوى إلى تحقيق مصالحها الخاصة. لكن أيضاً لا يمكن إغفال أنه ربما حدث ذلك بالمصادفة إذ أن تلك القوى كانت تمثل معظم ولايات النيل آنذاك.

● تجاوزت هذه المعاهدات وجود السيادة الإقليمية أو الولاية القضائية المحلية لبعض الدول، وكانت هذه إحدى نتائج الاستعمار واستعباد الشعوب.

السؤال حول كيفية تقاسم مياه النيل مع جميع الدول المعنية لا يزال بحاجة إلى إجابة.

● لم تكن دول المنبع مدرجة في معظم هذه المعاهدات، وهي لم تكن شاملة بل ظلت جزئية، مثل الاتفاقيات الثنائية أو الثلاثية.

● لم يتم التصديق على إحدى هذه المعاهدات بسبب اختلاف التفسيرات بين النسخ اللغوية المختلفة، وكان هذا أحد الأسباب الرئيسية للخلاف.

ومن ناحية أخرى، قدمت مصر حججاً قوية لدحض الادعاءات الإثيوبية، وتشمل:

● تمثل هذه المعاهدات دليلاً قاطعاً على شرعية الحقوق التاريخية المصرية في مياه النيل، ولا يمكن التغاضي عن هذه الحقوق القديمة، والادعاءات المضادة التي تتجاهل هذا الواقع لا جدوى منها.

● على مر التاريخ، لم تطالب معظم دول حوض النيل بحصتها من المياه، حتى بعد حصولها على الاستقلال. ويمكن تفسير ذلك على أنه اعتراف منهم بالحقوق المصرية، أو لعدم حاجتهم إلى المياه.

● بعض دول النيل كانت دولاً حرة مستقلة عندما وقعت على هذه المعاهدات (ومنها أثيوبيا)، لذا يجب أن تفي بالتزاماتها، ومحاسبتها إذا أخلّت بها. ويشمل ذلك الالتزامات القانونية للدول الموقعة على المعاهدات.

أما بعد الحقبة الاستعمارية، فلم تكن هناك سوى معاهدة ثنائية واحدة، وهي معاهدة 1959 التي وحدت مصر والسودان وفصلتهما عن بقية دول الحوض. وقد قسمت الاتفاقية مياه النيل بين البلدين مع عدم تخصيص جزء بسيط منها، ولم تأخذ في الاعتبار حقوق بقية دول الحوض، وهو ما يعتبر مجحفاً. وقد أطلقت بعض المبادرات لاحقاً، دون أن يكون لها أي تأثير حقيقي على الجوانب القانونية لدول حوض النيل.

لا شك أن التفسيرات المتباينة للاتفاقيات تمثل تحدياً أمام التوصل إلى حل نهائي للنزاع وتؤدي إلى تفاقم الأوضاع، وقد كانت التفسيرات التاريخية للصراع المصري الإثيوبي السبب الرئيسي في تهويل المواقف وعرقلة جهود إنهاء النزاع وإيجاد بيئة مستقرة وسلمية

وبالحديث عن اتفاق إعلان المبادئ لسد النهضة، وهو الاتفاق الوحيد الذي يتعلق مباشرة بهذا النزاع، فقد كانت له آثار سلبية وغير مفيدة على مصر. تقدم الاتفاقية لإثيوبيا القبول المصري السوداني بسد النهضة على طبق من ذهب، من دون أي تعهدات إثيوبية موثقة أو ملزمة بشأن عمليات الملء وتشغيل السد في المقابل. وبهذه الطريقة، فهي تضفي الشرعية على الحق الإثيوبي، ولكنها تفعل ذلك من دون ذكر أو ضمان أي التزامات واضحة من جانب إثيوبيا. يعد الاتفاق بمنزلة مبادئ عامة توجيهية واسعة النطاق لبناء سد النهضة الذي لم يمنح الكثير لمصر، وعلى وجه الخصوص، لم يوضح كيف ستلتزم إثيوبيا بمبدأ قانون المياه الدولي في عدم التسبب بأي ضرر لدول المصب من خلال إدارة وتشغيل هذا السد.

حتى كتابة هذه السطور، لا تزال المفاوضات والمحادثات بشأن سد النهضة تجري بشكل متقطع، مع وجود توتر كبير في الأجواء. ومن الواضح أن أي مقترح يتعلق باستخدام مياه النيل يمكن أن تطرحه إحدى دول الحوض، سيهدد بشكل أو بآخر المصالح الوطنية للدول الأخرى. وقد يسلط ذلك الضوء على السبب الكامن وراء بقاء معاهدات النيل إلى الآن جزئية وغير شاملة.

وعليه، فإن السؤال حول كيفية تقاسم مياه النيل مع جميع الدول المعنية لا يزال بحاجة إلى إجابة، وهو ما يجعل التفاوض مع أثيوبيا أمراً بالغ التعقيد لرفضها أي اتفاق يحدد حجم كميات المياه المقتطعة من النهر أثناء فترة ملء خزان السد، لأن ذلك سيعتبر موافقة ضمنية على كميات المياه التي تتلقاها مصر سنوياً وفقاً لاتفاقية 1959، وهو ما ترفضه أثيوبيا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image