شرحنا في المقال السابق أهم قوانين وقواعد المياه الدولية التي تعتبر منظوراً هاماً جداً في رؤية النزاع المصري الأثيوبي. بينما يركز هذا المقال على تطبيق قانون المياه الدولي على النزاعات المماثلة.
تشير القضايا الدولية، وخاصة تلك التي تفصل فيها محكمة العدل الدولية وهي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، إلى كيفية حل النزاعات المتعلقة بالمياه. وقد يكون لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة نفس الأثر القانوني لقانون المياه الدولي، وتكون الغلبة لقرارات المجلس في حالة وجود صراع بين الأطراف التي اعتمدت ميثاق الأمم المتحدة، وله أن يُجبر أعضاءه على الانصياع لقراراته.
اخترنا ثلاث حالات مماثلة للنزاع حول سد النهضة لمعرفة رؤية المجتمع الدولي ومبادئ القانون الدولي لها، وهي: مشروع سد غابتشيكوفو - ناغيماروس (المجر/سلوفاكيا)؛ ومطاحن اللباب (لب الثمار) على نهر أوروغواي (الأرجنتين/أوروغواي)؛ ومعاهدة مياه السند ومشروع باجليهار للطاقة الكهرومائية (الهند/باكستان).
تشير القضايا الدولية إلى كيفية حلّ النزاعات المتعلقة بالمياه عن طريق محكمة العدل الدولية أو مجلس الأمن.
مشروع سد غابتشيكوفو - ناغيماروس (المجر/سلوفاكيا)
نشب خلاف بين المجر وتشيكوسلوفاكيا (سلوفاكيا الآن) بخصوص إنشاء مشروع مشترك على نهر الدانوب. كان مشروع سد غابتشيكوفو - ناغيماروس يهدف إلى إنشاء سلسلتين من الأهوسة (القناطر ذات الحواجز الآلية): واحدة في غابتشيكوفو، في دولة المنبع تشيكوسلوفاكيا، والأخرى في ناغيماروس، في دولة المصب المجر، وذلك وفقاً للمعاهدة التي أبرمت عام 1977، ووقع عليها كلا البلدين، وهي معاهدة بودابست بشأن إنشاء وتشغيل نظام قناطر غابتشيكوفو – ناغيماروس. وتشكل القنطرتان معاً "نظام عمل تشغيلياً واحداً وغير قابل للتجزئة".
حوّلت تشيكوسلوفاكيا مياه نهر الدانوب، عن طريق إقامة سدود على مجرى النهر على أراضيها، مما أثر سلباً على تدفق المياه ومسار الملاحة في المجر. في تموز/ يوليو 1993، تقدم كلا البلدين إلى محكمة العدل الدولية بطلب الفصل في هذه القضية، وسعيا إلى إنهاء معاهدة بودابست المتعلقة بهذا المشروع. وطُلب من محكمة العدل الدولية البت فيما إذا كان لتشيكوسلوفاكيا الحق في المضي قدماً والبدء في تشغيل هذا النظام اعتباراً من تشرين الأول/أكتوبر 1992، كما طُلب من المحكمة أن تقرر الحقوق والالتزامات والعواقب في حالة تسبب تشيكوسلوفاكيا في ضرر جسيم للمجر. واستندت المحكمة في حكمها إلى قواعد اتفاقية الأمم المتحدة للمجاري المائية الدولية، على الرغم من أن قواعد هذه الاتفاقية لم تكن سارية التنفيذ بعد.
وجدت محكمة العدل الدولية أن تصرفات تشيكوسلوفاكيا تنتهك معاهدة بودابست والحقوق المجرية، وأوضحت أن موافقة المجر على بناء سدود على نهر الدانوب وتحويل مياهه جاء في سياق مشروع وعملية مشتركة سيتقاسم منافعها البلدان. بينما وجدت أن تعليق المجر للمعاهدة أو انسحابها منها يشكل انتهاكاً لالتزاماتها القانونية، إلا أن ذلك لا يعني أن المجر خسرت حقها الأساسي في الاستخدام العادل والمعقول لموارد المجرى المائي الدولي.
وبعد مرور عام على صدور حكم المحكمة في أيلول/ سبتمبر 1997، طلبت سلوفاكيا إصدار حكم إضافي، بسبب إحجام المجر عن تنفيذ الحكم الأول الذي أصدرته المحكمة، التي أكدت على تطبيق فكرة "وحدة المصالح" وعدم التسبب بضرر جسيم، مع اقتران ذلك بمبدأ الاستخدام العادل والمعقول للنهر المشترك حال إقامة أية مشروعات لإحدى دول الحوض.
يشبه وضع سد النهضة الإثيوبي إلى حد كبير قضية غابتشيكوفو - ناغيماروس، على الرغم من أن سد النهضة ليس مشروعاً مملوكاً أو مُداراً بشكل مشترك، إلا أن مصر، مثل المجر، لديها اتفاقية موقعة مع إثيوبيا تحدد المبادئ العامة للتعامل مع السد (المواد 1 و3 و4 من اتفاق إعلان المبادئ حول سد النهضة)، واتفق الطرفان في هذه الاتفاقية على الالتزام بعدم التسبب في ضرر جسيم لبعضهما البعض، وعلى الاستخدام المنصف والمعقول لتدفق نهر النيل.
في حين أدى تدخل محكمة العدل الدولية إلى مفاوضات لحل النزاع بين الأرجنتين وأوروغواي بسبب مطاحن اللباب على نهر الأوروغواي، فإن تدخل مجلس الأمن فشل في إنهاء النزاع بين مصر وإثيوبيا. ويبدو أن الفارق كان يكمن في استعداد أوروغواي للتفاوض بحسن نية عكس إثيوبيا
وكان من المفترض أن تقيد هذه الاتفاقية حرية أثيوبيا في التصرف بشكل منفرد، تماما كما هي الحالة مع معاهدة بودابست بالنسبة إلى تشيكوسلوفاكيا. ومع ذلك تصرفت إثيوبيا بشكل أحادي ومنفرد في عدة مواقف. أولاً، حين حوّلت مجرى النيل الأزرق للبدء في بناء السد، وثانياً، حين أجرت أربع مراحل لملء سد النهضة، بين عامي 2020 و2023، وقد اتخذت كل هذه الإجراءات الأحادية دون أي موافقة من دولتي المصب، ووضعت إثيوبيا في وضع مماثل لتشيكوسلوفاكيا عندما حولت مياه الدانوب إلى قناتها الخاصة.
وفي قضية غابتشيكوفو - ناغيماروس، رأت المحكمة أن تشيكوسلوفاكيا فشلت في احترام القوانين الدولية من خلال "تولي السيطرة من جانب واحد على مورد مشترك، وبالتالي حرمان المجر من حقها في حصة عادلة ومعقولة من الموارد الطبيعية لنهر الدانوب"، كما وجدت المحكمة أن هذا الإجراء يمثل انتهاكاً لمبدأ "الالتزام بعدم التسبب في ضرر جسيم"، مما يحرم الطرف الآخر من حقه في "الاستخدام المنصف والمعقول" للمجرى المائي.
يتشابه الالتماس الذي قدمته مصر إلى مجلس الأمن بعد انسحاب إثيوبيا الصارخ من المحادثات التي توسطت فيها الولايات المتحدة والبنك الدولي والإجراءات الأحادية الجانب لملء السد، مع انهيار العلاقات التشيكية المجرية واللجوء إلى محكمة العدل الدولية. وجاء في بيان مصر الكامل أن هذا الالتماس يستند إلى المادتين 34 و35 من ميثاق الأمم المتحدة. وتعطي المادة 34 مجلس الأمن الحق في "التحقيق في أي نزاع أو أي موقف من شأنه أن يؤدي إلى احتكاك دولي أو يثير نزاعاً، ليحدد ما إذا كان استمرار النزاع أو الموقف من شأنه أن يعرض حفظ السلم والأمن الدوليين للخطر". وتمنح المادة 35 أعضاء الأمم المتحدة الحق في تنبيه المجلس إلى أي حالة قد تهدد الأمن والسلم الدوليين.
مطاحن اللباب على نهر أوروغواي (الأرجنتين/أوروغواي)
قدمت الأرجنتين طلباً في 20 نيسان/ أبريل 2010 إلى محكمة العدل الدولية للفصل في ادعائها ضد أوروغواي بشأن انتهاكات تخص بعضاً من تصرفاتها الأحادية الجانب، عند بناء مطحنتي لباب على نهر الأوروغواي، دون التقيد بالإجراءات الخاصة بالإخطار المسبق وإجراءات التشاور المحددة بموجب معاهدة النظام الأساسي لنهر الأوروغواي. وقع كلا البلدين هذه المعاهدة في شباط/ فبراير 1975، وتخص إنشاء آلية مشتركة للإدارة والاستخدام الرشيد لنهر الأوروغواي.
زعمت الأرجنتين أيضاً أن المطاحن ستُسبب أضراراً بيئية للنهر ونوعية مياهه، وطُلب من المحكمة أن تطالب أوروغواي بتعليق الأعمال الخاصة بهذه المطاحن إلى حين صدور قرار المحكمة النهائي، والامتناع عن اتخاذ أي إجراءات أحادية أخرى من شأنها أن تؤدي إلى تفاقم النزاع.
وقضت محكمة العدل الدولية بأن الأدلة الأرجنتينية لم تكن كافية لإصدار أمر بالتعليق الفوري للأعمال من جانب أوروغواي، لكنها أيضا أكدت أن أوروغواي انتهكت النظام الأساسي عندما فشلت في الإبلاغ والإخطار المباشر عن خططها إلى الأرجنتين أو اللجنة الإدارية لنهر أوروغواي. ولم تجد المحكمة أي دليل على وجود آثار ضارة على البيئة فيما يخص نوعية المياه أو الفصائل الحية في النهر.
عقب حكم محكمة العدل الدولية، عقد رئيسا الأرجنتين والأوروغواي سلسلة من الاجتماعات والتي انتهت بالتوقيع على اتفاقية في تموز/ يوليو 2010، تضمنت الاتفاق على الرقابة الثنائية المشتركة لنهر الأوروغواي، وعلى المطاحن وجميع المؤسسات الصناعية والزراعية والمراكز الحضرية التي تصرف النفايات السائلة في النهر والمناطق المتضررة منها. وتضمنت هذه الاتفاقية أيضاً أحكاماً بشأن الأدوات الثنائية لإدارة جودة المياه.
يتشابه الالتماس الذي قدمته مصر إلى مجلس الأمن بعد انسحاب إثيوبيا الصارخ من المحادثات التي توسطت فيها الولايات المتحدة والبنك الدولي والإجراءات الأحادية الجانب لملء السد، مع انهيار العلاقات التشيكية المجرية واللجوء إلى محكمة العدل الدولية بعد قضية سد غابتشيكوفو - ناغيماروس
وبالرجوع إلى النزاع المصري الأثيوبي، يبدو أن الإجراء الأحادي الذي اتخذته إثيوبيا بالبدء في ملء خزان السد في انتهاك لاتفاقية إعلان المبادئ، يوازي الإجراء الذي اتخذته أوروغواي بشأن بناء المطاحن. ولكن في حين أدى تدخل محكمة العدل الدولية إلى مفاوضات لحل النزاع بين الأرجنتين وأوروغواي، فإن تدخل مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي فشل في إنهاء النزاع بين مصر وإثيوبيا. ويبدو أن الفارق كان يكمن في استعداد أوروغواي للتفاوض بحسن نية لحل هذه القضية، ولم تبد إثيوبيا نفس الرغبة حتى الآن.
سنناقش في المقال المقبل آخر حالة نزاع مماثلة للنزاع المصري الأثيوبي وهي معاهدة مياه السند ومشروع باجليهار للطاقة الكهرومائية بين الهند وباكستان. وكذلك سنناقش نظرة عامة على الرؤية القانونية للنزاع المصري- الأثيوبي، في ظل ما ناقشناه عن قوانين المياه والحالات المماثلة التي تمت إدارتها من خلال تطبيق مبادئ قانون المياه الدولي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...