تستسيغ ذائقة التلقّي العربية ربما، تعاطي الإبداع الشعري أو السردي مع الشيطان بوصفه مجرد رمز مجازي، وبقدرٍ ما ليس إلا، مثلما فعل مثلاً الشاعر المصري أمل دنقل (1940-1983)، في قصيدته "كلمات سبارتاكوس الأخيرة"، التي أفسح فيها مجالاً لظهور الشيطان المغامر.
والشيطان في قصيدة دنقل الجريئة ليس كائن العصيان وعدم الامتثال للأوامر الإلهية بطبيعة الحال، ولكنه أيقونة الرفض والمعارضة، وعدم الانحناء، والخروج على السلطة المتجبرة الظالمة، السياسية على وجه الخصوص. هو الشيطان "سبارتاكوس" الثائر المتمرد، وليس الشيطان "إبليس" المارق المُفسد:
"المجدُ للشيطان معبودِ الرياح
مَن قال: لا، في وَجْه مَن قالوا: نعمْ
مَن علَّم الإنسانَ تمزيقَ العدمْ
وقال: لا، فلم يمتْ
وظلَّ روحاً أبديةَ الألمْ".
وسوسات جزئية
أما تعامل الإبداع الأدبي مع الشيطان الفعلي الحقيقي، بخلفياته وتفاصيله وقصصه وإغواءاته المذكورة في النصوص الدينية، فبمثابة اقتحام عش الدبابير بالتأكيد. وقد فعلها من قبل، جزئيّاً، الروائي المصري يوسف زيدان، في روايته "عزازيل" (دار الشروق، القاهرة)، الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية "بوكر" عام 2009.
و"عزازيل" الذي صوّره زيدان، أو الروح الشريرة، أو الأنا الداخلية المنغمسة في الرغبات، هو الشيطان إبليس صراحةً، الذي تجسّد في عهد الإمبراطورية الرومانية المسيحية في القرن الخامس الميلادي، وكان شاهداً على الصراع المذهبي بين آباء الكنيسة من جهة، والمؤمنين الجدد والوثنية المتراجعة من جهة أخرى.
تُوغل الرواية في تقصّي سيرة إبليس المحكية بلسانه هو، ومن وجهة نظره هو، منذ بداية خلقه حتى اللحظة الحالية، وفي المستقبل المتوقع أيضاً. وهي رواية تتقاطع في مساراتها العامة مع الموروث والمعروف في الديانات السماوية
راح عزازيل يمارس إغواءاته للبشر، ويوسوس مراراً وتكراراً للراهب المسيحي المصري "هيبا"، في تلك الفترة المضطربة من التاريخ المسيحي الكنسي، المليئة بالفتن والانقسامات والخلافات اللاهوتية حول طبيعة المسيح ووضع السيدة العذراء: "نعم يا هيبا، عزازيل الذي يأتيكَ منكَ وفيكَ. قلتُ لك مراراً إنني لا أجيء ولا أذهب. أنت الذي تجيء بي، حين تشاء. فأنا آتٍ إليكَ منكَ، وبكَ، وفيكَ". وقد أحدثت هذه الرواية عاصفةً من الانتقادات بين المسيحيين المصريين، وعدّها الأنبا بيشوي، سكرتير المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، إساءةً إلى الديانة المسيحية.
بطولة روائية للشيطان
أما الذي أقدم عليه الكاتب الجزائري علي بَكِّي، المقيم في الولايات المتحدة، في روايته الصادرة حديثاً بعنوان "السيرة الذاتية لإبليس" (دار ميريت، القاهرة)، فهو الأمر الأكثر خطورةً وإثارةً للجدل، إذ ينخرط المؤلف كلّياً في تشخيص إبليس في عمل أدبي كامل، ويمنحه دور البطولة في متوالية سردية روائية ضخمة (صدر الجزء الأول في مئة وستين صفحةً).
تُوغل الرواية في تقصّي سيرة إبليس المحكية بلسانه هو، ومن وجهة نظره هو، منذ بداية خلقه حتى اللحظة الحالية، وفي المستقبل المتوقع أيضاً. وهي رواية تتقاطع في مساراتها العامة مع الموروث والمعروف في الديانات السماوية، خصوصاً المسيحية والإسلام، ولكنها تختلف بالضرورة في تفاصيلها وتفسيراتها عن المسلّمات الدينية والمتفق عليه في هذا الشأن.
ولعلّ الرواية هنا، كعمل إبداعي صرف، تتذرع بالتخييل الفني، الذي يُكسبها ضمنيّاً ذلك الحق المفترض وتلك الحرية المطلقة وتلك الحصانة في تخليق الأحداث وتكييفها وفق منظور الراوي، كما يعطيها مساحةً واسعةً للمزج بين الحقائق والأساطير، وذلك على اعتبار أن هناك فروقاً بيّنةً بين السردية الروائية، وبين الوقائع التاريخية المسجّلة أو حتى القصص الدينية الثابتة.
وعلى الرغم من هذه الجسارة المفرطة في ارتياد مناطق ملغومة على هذا النحو، فإن المؤلف علي بَكِّي لا يستطيع إخفاء مخاوفه من خوض هذه المغامرة الروائية. وعلى ما يبدو، فإن شكوكه وتوجساته من سوء الفهم أو من ردود الأفعال السلبية هي التي دفعته إلى إثبات مقدمة للرواية، مطوّلة نسبيّاً، يوضح فيها بعض الإشكالات الملتبسة.
والنص الذي اختطه علي بَكِّي، وفق مقدمته "لا يهدف إلى التجديف، بل للاستكشاف، والتساؤل، وفهم تعقيدات وتشابكات شخصية، تكتنفها التقاليد الدينية والأساطير". ومع ذلك، فهو يدرك أن المسار الذي يسلكه "محفوف بالمخاطر، مع إمكانية إثارة الجدل والغضب".
مفاهيم مناهضة
يقترح علي بَكِّي، في روايته العجائبية، مفاهيم جديدةً مناهضةً للسائد حل تجربة إبليس مع البشرية. ويقصد بذلك، الدعوة للنظر إلى ما وراء الأفكار المسبقة، والتشكيك في الحكمة الموروثة، واستكشاف وجهات نظر جديدة حول الخير والشر وما بينهما: "إنها رحلة إلى هاوية شخصية يخشاها البشر منذ مئات القرون، ولم تُفهم على نحو كامل. لقد رأيتُ أن السبيل الأكثر أصالةً لفهم جوهر إبليس والإحاطة به، كما يتردد صداه في ثقافتي وتراثي الروحي، هو سرد القصة بنفسي".
وتلك القصة التي يقدّمها علي بَكِّي لإبليس، تأتي على لسان الشيطان نفسه كسارد لسيرته الذاتية في الرواية، وهي قصة تتوافق في مجملها مع سياق المؤلف الثقافي ونَسَبِه الروحي، ولا تتطابق بالضرورة مع شرائع الغرب، التي "تنظر إلى الشيطان على أنه تجسيد للشر، وخصم الله والإنسان"، مثلما يوضح بَكِّي في مقدمته.
كما أن هذه السيرة الذاتية المؤَلَّفة لإبليس، روائيّاً، قد لا تنسجم مع "تقاليد الشرق الأوسط، واللاهوت الإسلامي على وجه التحديد، حيث تبدو شخصية إبليس ذات طبقات معقدة أكثر عمقاً. فهو كائن سماوي، يتحدى الأمر الإلهي، مدفوعاً بإحساس منحرف من التفاني والفخر".
مغارات ومتاهات
تنسج رواية "السيرة الذاتية لإبليس"، متاهات ومغارات بشأن هوية إبليس وشخصيته وطبيعته ونواياه وأهدافه من سلوكياته وتصرفاته مع الرب ومع البشر. وتحلّ هذه الاحتمالات والتهاويم الخرافية، التي يرويها عن نفسه، محلّ المعرفة اليقينية المروية عنه في كل ما يخصه من قصص دينية ومعلومات تاريخية.
تتناول الرواية لقطات من حياة الكاتب الأربعيني "عصام"، الباحث في مجال الميثولوجيا، والمقيم في الولايات المتحدة. يتلقى عصام دعوةً من صديقه القديم "درويش"، للمشاركة في مؤتمر لعلماء الخرافة والأساطير في دمشق، وإلقاء محاضرة هناك. وفي المدينة الشرقية العتيقة وأسواقها الشعبية، يتجرع عصام نسائم الأجواء السحرية، ويتلمس المفردات والعناصر الخارقة للطبيعة، والأسئلة الوجودية المستعصية، ويعقد سلسلةً من اللقاءات مع الشخصيات الغامضة والمجهولة، وتنفتح شهيته للغوص في أسرار العالم الخفيّ.
وبينما هو بين اليقظة والمنام، والحقيقة والخيال، والواقع والأسطورة، يتجلى الشيطان "إبليس" لعصام أكثر من مرة بأكثر من اسم، وفي أكثر من صورة؛ أنثوية (ماتيلدا الجميلة)، وذكورية، وحيوانية متنوعة. ويظل يطارده ويظهر له، حتى بعد عودته إلى أميركا. ثم يعرض عليه الشيطان، إبليس أو لوسيان أو لوسيفر، صفقةً كبرى، تتلخص في أن يصغي عصام لإبليس وهو يسرد له بصبر ودقة وأمانة سيرته الذاتية الكاملة، من وجهة نظره، ليعيد عصام صياغتها ونشرها، فتتضح حقيقة إبليس للعالمين، وتزول الشائعات الملصقة به منذ آلاف السنين!
وبالفعل، يستجيب عصام لعرض إبليس، الذي وعده بمكافأة مُجزية نظير تفرغه للاستماع إلى سيرته والاشتغال عليها فنياً. وتتوالى جلسات العمل، حيث يحكي إبليس، وينصت عصام، ويستوعب، ويتناقشان أحياناً في ما يقوله إبليس، ويمثل مفاجأةً صادمةً لعصام على طول الخط. ومن خلال قصاقيص الكلام، تتشكل الرواية الكاملة الجديدة، التي تحكي سيرةً مختلفةً لإبليس.
الطرح والجماليات
ماذا يريد المؤلف علي بَكِّي من روايته؟ ليس معقولاً بالتأكيد أنه يريد تأطير صياغة عقلانية مغايرة ومقنعة ومنطقية، لقصة أخرى لإبليس، وذلك للإفادة مثلاً، في وعاء فلسفي، بأن إبليس مظلوم في عدم إطاعة الإله ورفض السجود لآدم وغواية البشر، وأنه شعر بالازدراء واحتقار الإله له الذي فضّل عليه كتلة الطين، ولذلك لم يستجب لأمره، وأن البشر هم المسؤولون الحقيقيون عن جرائمهم وشرورهم التي يقترفونها على الأرض، إلى آخر هذه الفرضيات السطحية المرسلة، التي يفضفض بها إبليس بسذاجة في اعترافاته لعصام.
ما يريده المؤلف فعليّاً ليس إلا طرحاً إبداعيّاً جماليّاً، شأنه شأن أولئك الشعراء والروائيين والمسرحيين والتشكيليين الذين تعاملوا من قبل مع الشيطان كرمز خيالي. والفرق بينه وبينهم هو فرق إجرائي ودعائي، بمعنى أن الشيطان/ إبليس/ الرمز في هذه الرواية أوضح ظهوراً، وأخصب حضوراً، وأكثر إثارةً وتشويقاً، كما أنه أكثر تفجيراً للأزمات التي تصبّ في صالح العمل، وفق تصوّر صُنّاعه.
يقترح علي بَكِّي، في روايته العجائبية، مفاهيم جديدةً مناهضةً للسائد حل تجربة إبليس مع البشرية. ويقصد بذلك، الدعوة للنظر إلى ما وراء الأفكار المسبقة، والتشكيك في الحكمة الموروثة، واستكشاف وجهات نظر جديدة حول الخير والشر
أما الذي يرمز إليه إبليس في روايته الغرائبية، فله أكثر من وجه وتأويل. ولعل أبرزه الحرص على الاعتداد بالرأي وتكوين الشخصية الحرة المستقلة في مواجهة القطيع، ذلك أنه يرى نفسه دائماً "عكس المنبطحين والراضخين من بقية الملائكة الموظفين".
وهذا الإبليس أو الشيطان، النافع لا الضارّ كما يرى نفسه، حريص على إرشاد البشر، ومشاركتهم المعرفة التي من شأنها أن تفتح أسرار الكون، وتقربهم من الخالق. إلا أن الخالق لم يرحّب بنواياه، وعدّه متمرداً، وطموحاً فخوراً.
لقد حكى إبليس روايته المطولة، التي تصبّ في فكرة "لا"، أي أن الشيطان هو أيقونة التحدي والرفض والمعارضة والتمرد والثورة ومخالفة السائد والجاهز والموروث، وهذا ليس بعيداً أيضاً عن "سبارتاكوس"، فكرة أمل دنقل عن شيطانه الإيجابي.
ولكنّ الجديد في رواية علي بَكِّي، وخلطتها المشحونة، ربما، محاولة التخديم على الفكرة، بمناوشات وخربشات وعبارات واعترافات شيطانية مستفزة، تتعمد جرجرة الرواية إلى صدامات ومعارك وخلافات كثيرة، لا حصر لها، على اعتبار أن كثيراً مما ورد فيها مستنكر أو غير لائق. وهذا ما يمكن تفسيره، ربما، بأنه من باب الترويج للفكرة وللرواية، وتحريك ماء النقاش الراكد، ولو بالإثارة، بكل معاني الإثارة الفنية والدعائية والتجارية والمبتذلة والتحريضية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع