"أيتها النساء، نحن مذهلات". ديمي ستوكس، الظهير الأيسر لمنتخب إنجلترا للنساء.
شعر أشقر معقود بعناية كذيل حصان عربي، رموش طويلة، وحواجب مُتقنة، بشرة نضرة "يكاد زيتُها يضيء"، بهاء مستقر على جبين مشرق، خصلات حاجبي نيموزين، وجبهة أفروديت نفسها، ذراعي الإلهة ديانا تحملان شارة مخططة بالأحمر والأصفر، تلوحان بهما يُمنة ويسرى، وترفعان كأساً فضياً في غنج أنثوي معتاد. نعم؛ شفاه محمرّة تطبع قبلة على الكأس الثمين، وتستدير في ميل ذهبي إلى جوانب الملعب، تطلب المزيد من التشجيع، فلا يأتيها الرد؛ تنظر للمدرجات وتصرخ قائلةً: "أيها القابعون على مؤخراتكم تحت شمس آب الحارقة، لقد فاز برشلونة بدوري أبطال أوروبا، وأنتم في غفلة تعمهون".
لقد كان هذا الحدث من أغرب الحوادث الرياضية هذه السنة، جمهور برشلونة الذي يعاني الأمرين وتُفعل فيه الموبقات منذ عشر سنوات، يفوز بدوري أبطال أوروبا للنساء للمرة الثانية توالياً، فلا يرفّ للجمهور جفن، وكأن شيئاً لم يكن، وكأن هذا الفريق النسائي يلعب لعبة أخرى غير كرة القدم. (ملحوظة: الفقرة السابقة كانت في مديح اللاعبة أليكسيا بوتياس، أحرف نساء الكوكب، وبالمناسبة هي أحرف كثيراً من معظم رجال الكوكب، وبما أنك على الأغلب لا تعرفها رغم ما تتمتع به من مهارات، لذلك وجب التنويه).
المباريات النسائية بها، في المتوسط، عدد أكبر من الركلات الحرة والمراوغات الفردية والتسارعات والتشتيتات ومعدلات الجري، إضافة إلى أخطاء أقل من مباريات الرجال، إلا أن ثلثي الرجال لهم مواقف عدائية من كرة القدم النسائية
"أما النساء... فلأنهن نساء"
على الرغم من وجود دراسة عام 2021، تؤكد أن المباريات النسائية بها، في المتوسط، عدد أكبر من الركلات الحرة والمراوغات الفردية والتسارعات والتشتيتات ومعدلات الجري، إضافة إلى أخطاء أقل من مباريات الرجال، ما يعني أن مهارة اللاعبات لا يمكن إنكارها، إلا أن دراسة ميدانية أخرى أجرتها جامعة دورهام الإنجليزية، على 2000 مشجع من الذكور، توصلت إلى أن ثلثي العينة كان لديهم مواقف عدائية من الرياضات النسائية بشكل عام بلا سبب منطقي، وهنا قد يظهر السؤال: لماذا يكره الذكور مشاهدة مباريات النساء رغم أنها -نظرياً- تحمل الكثير من المتعة؟
في الحقيقة هم لا يكرهون مشاهدة مباريات النساء فقط، بل يكرهون ممارسة النساء للرياضة، على اعتبار أنه "جور نسوي" على آخر معاقل الذكورية، ملعب كرة القدم، ويبرّرون ذلك بأن الكرة في أقدامهن عمل غير صالح، وربما يكرهون وجود النساء أصلاً، ولكثرة عددهم والسيطرة الذكورية على مفاصل المجتمع، فقد تواءمت تلك الصيغة مع التغطية الإعلامية للمباريات، وتحركت في اتجاهٍ شعبوي يعزّز من الصور النمطية عن النساء، ووفقاً للبروفيسير شيريل كوكي، الأستاذ المساعد في قسم الدراسات النسوية في جامعة "بيرديو"، فقد شهدت التغطية الإعلامية للرياضات النسائية على شبكة "ESPN" ارتفاعاً ضئيلاً للغاية على مدار 40 عاماً، من 5% عام 1989 إلى 5.4% عام 2022.
ذلك المنع أدى بالتبعية إلى تجذّر التمييز والقهر في العقل الجمعي، حيث أظهر استطلاع أجرته منظمة "النساء في كرة القدم"، عام 2020، أن ثلثي النساء العاملات في كرة القدم الإنجليزية تعرّضن للتمييز في مكان العمل، رغم أن ما أبلغ عنه كان 12% فقط من الحالات، كما قال 82% من المشاركات إنهن حُصرن في قوالب وأنماط حدَّت من نجاحاتهن المهنية.
كما قامت حركة "Her Game Too"، بإجراء استطلاع سلّط الضوء على ضخامة الإساءة للرياضيات عبر الإنترنت، حيث توصل إلى أن 91.9% من النساء تعرّضن لإساءة جنسية عبر الإنترنت، 63% منهن تعرّضن لها بشكل شخصي، و58.4% تعرّضن للإساءة في الواقع الفعلي، أي في ملعب كرة القدم أو في الحانات المخصصة لمتابعة المباريات، كما أشارت إحدى المشاركات في الاستبيان أن محتوى الإهانة لا يتغيّر بتغير الموقف أو الزمن، ويظل محصوراً في تنويعات من قبيل: "ماذا تعرفين عن كرة القدم؟"، "اذهبي لطهي شيء ما؟"، وما إلى ذلك من التنميط القاهر للنساء.
في الحقيقة، الذكور لا يكرهون مشاهدة مباريات النساء فقط، بل يكرهون ممارسة النساء للرياضة، على اعتبار أنه جور نسوي على آخر معاقل الذكورية، ملعب كرة القدم
التمييز يبدأ من المدارس
"لقد تحملت "الكثير من الإساءات العنصرية والجنسية عبر الإنترنت، نعاني أنا وفريقي من الكراهية بشكل دائم، وربما سنظل كذلك للأبد". ديمي ستوكس، الظهير الأيسر لمنتخب إنجلترا للنساء.
قبل كأس العالم للنساء 2023، طلب المنتخب الإنجليزي من شركة "نايكي" تغيير اللون الأبيض لسراويل المنتخب، واستبداله باللون الأزرق، لماذا؟ لأن اللون الأبيض ليس عملياً أثناء الدورة الشهرية. طلب منطقي وطبيعي، ولكنه يفتح الباب أمام تصور مختلف، إذا كانت أكبر شركة للملابس الرياضية في العالم تزدري نساء المنتخب "الأول" بهذا الشكل، وتهمّش مطالبهن لهذا الحد، إذن فماذا يحدث في بطولات المدارس الثانوية؟
للأسف الشديد، لا نعلم بالضبط حجم الإهانات والتواطؤ في المدارس أو الجامعات، فالعنصرية تبدأ من المزاح الذي لا يمكن ضبطه إحصائياً، وصولاً إلى إلحاق الأذى الجسدي، ولكن ما نعرفه حقاً أن هناك مشكلة تحدّ من قدرة المرأة على اتخاذ القرارات المهنية عنوةً، خاصة بعدما أفاد استطلاع أجرته فيفا عام 2019، إلى أن عدد اللاعبات المسجلات في الاتحاد الإنجليزي ينخفض من 76,625 لاعبة تحت 18 عاماً، إلى 43,934 لاعبة فوق 18 عاماً، ودون معرفة الأسباب كاملةً.
أليكسيا بوتياس، لاعبة برشلونة، بعد حصولها على الكرة الذهبية مرّتين توالياً، لا يزال راتبها 600 ألف يورو سنوياً، في نفس الوقت يقبض اللاعب المصري رمضان صبحي، الذي يلعب في نادٍ لا يعرفه أحد، على راتب سنوي يقدر بـ 800 ألف يورو سنوياً من نادي "بيراميدز"
كما تظهر الأبحاث أن نسبة اللاعبات في المدارس ينخفض بشكل كبير من 72% في المدارس الابتدائية إلى 44% فقط في المدرسة الثانوية، أي في مرحلة البلوغ، وبالطبع أحد أسباب ذلك التغير هو حقيقة أن أكثر من نصف الفتيات يتغيبن عن دروس التربية البدنية في إنجلترا بسبب الدورة الشهرية، وبسبب عدم وجود آليات تحافظ على خصوصية المرأة، وتعمل على تقويض النظرة الساخرة منها.
"نشأت في مدارس إنجلترا، وبينما كان عدد الفتيات يقل كل أسبوع في مادة التربية البدنية، ظلت ممارسة الرياضة وكرة القدم عملاً روتينياً بالنسبة للرجال". ليا ويليامسون، قائدة فريق أرسنال للسيدات.
أكثر مالاً وأعزّ نفراً... وأقل جودة
هل تتذكرون أليكسيا بوتياس؟ حسناً، تلك المرأة وبكل ما تحمله من خصائص بديعة، ومهارات متقنة، وحتى بعد حصدها لدوري أبطال أوروبا، وحصولها على الكرة الذهبية مرتين توالياً، لا يزال راتبها، بعد تجديد التعاقد، 600 ألف يورو سنوياً، في نفس الوقت الذي يحصل اللاعب المصري رمضان صبحي، الذي يلعب في نادٍ لا يعرفه أحد، وفي دوري من أضعف دوريات العالم، وليست له أي إنجازات تذكر، على راتب سنوي يقدر بـ 800 ألف يورو سنوياً من نادي "بيراميدز"،(40 مليون جنيه مصري)، أي أن هذا اللاعب نصف الموهوب، يحصد أموالاً أكثر من أفضل وأشهر لاعبة في العالم، وبفارق كبير، فما بالك بأفضل "لاعب" في العالم.
لا؛ دعك من أفضل لاعب في العالم وأخبرنا، ما بالك بلاعب مزعج بصرياً مثل إيرلينج هالاند، لاعب لا تقارن مهاراته "بالكرة"، إن وجدت، بمهارات بوتياس، ومدى تناغمها العضلي العصبي، ومدى جمال وسلاسة الكرة بين أقدامها، ورغم ذلك يحصل على راتب يُقدر بـ 445 ألف يورو أسبوعياً، أكثر من ثلثي راتب بوتياس في سنة كاملة، وكل ذلك أيضاً قبل حساب المكافآت والجوائز المالية وحقوق الصورة وصفقات الرعاية.
هذه الفجوة في الأجور لا تقتصر على اللاعبين فقط، بل وصلت إلى أجور المديرين وطاقم التدريب، فبينما كانت سارينا ويجمان، المدير الفني السابق للمنتخب الإنجليزي، تحصل على على 400 ألف جنيه إسترليني سنوياً، كان جاريث ساوثجيت، المدير الفني لمنتخب إنجلترا للرجال، يتقاضى حوالي 5 ملايين جنيه إسترليني سنوياً، ماذا حقق ساوثجيت؟ لا شيء، اللهم إلا عودة الفريق إلى طريق المنافسات والهوية الثابتة، أما سارينا فقد حصدت بطولة اليورو للسيدات عام 2022.
قبل كأس العالم للنساء 2023، طلب المنتخب الإنجليزي من شركة "نايكي" تغيير اللون الأبيض لسراويل المنتخب، واستبداله باللون الأزرق. لماذا؟ لأن اللون الأبيض ليس عملياً أثناء الدورة الشهرية
وكل ذلك يتنافى مع قانون المساواة في الأجور الإنجليزي لعام 1970، والذي ينصّ على أن الأجر لابد أن يكون متساوياً في حال تساوي العمل، صحيح أن بعض المنظمات الرياضية تحاول إقناع نفسها بأن الرياضيات الإناث لا يؤدين عملاً متساوياً في القيمة مع الرياضيين الرجال، وبالتالي لا يستحققن أجراً مساوياً، مشيرين إلى الاختلافات في الإيرادات ونسبة المشاهدة، إلا أننا يمكن أن نُعزى هذا التناقض أيضاً إلى التغطية الإعلامية المحدودة للرياضات النسائية.
وبذلك نقع في دائرة مفرغة: هناك حاجة إلى دعم كرة القدم النسائية بمزيد من الأموال، لماذا؟ لنصل إلى مرحلة ما من المساواة الطبيعية بين البشر، لكن المشكلة أن تلك الزيادة لن تأتي إلا بعد زيادة التغطية الإعلامية، تلك التي لن تزيد إلا بعد زيادة الدعم المالي.
وذلك هو عين التدليس المتبع من قبل الشركات المسؤولة، تدليس يحمل أيضاً نفس النظرة العنصرية تجاه النساء، لأن القيمة لا يمكن أن تكون في الإيرادات فقط، فتلك نظرة "رأسمالية" خاصة ولا تمت للإنسانية بصلة، بل القيمة من المفترض أن تكمن في الجودة بشكل أساسي، ومدى اتصالها بالهدف الرئيسي من اللعبة ألا وهو تقديم المتعة، وبالتالي فما هي القيمة التي يضيفها هالاند أو رمضان صبحي لنا كمشجعين؟ حسناً، لا شيء، لا قيمة معنوية، ولا قيمة مادية تضاهي تلك المبالغ المخبولة، أما أليكسيا فتفعل كل شيء في الملعب بشكل أفضل، وأجود، وأقيم، وأكثر متعة للمتابعين، إضافة إلى حصدها البطولات والجوائز الفردية.
بالطبع هناك مشكلة أخرى تتعلق بمدى استحقاق أي لاعب، أو حتى أي شخص في العالم، لهذا الكم المجنون من الأموال، ولكن هذا أيضاً يظهر لبُّ العنصرية، فحتى في الجانب المجنون والقبيح وغير المنطقي من لعبة متهوّرة، يميز المجتمع بين الرجال والنساء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ يومينمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم