لم يعد الأمر خيالاً علمياً. ها نحن نعيش في مدن غزاها الذكاء الاصطناعي، حيث تتحرّك السيارات ذاتية القيادة بانسجام، والأجهزة المنزلية تتواصل مع بعضها البعض. لقد فتح هذا الغزو آفاقاً جعلت عصر السرعة بطيئاً مقارنة بما وفّرته وستوفره أدوات الذكاء الاصطناعي لنا، فبفضلها بتنا الآن ننجز كل شيء بإيقاع أسرع ودقة أكبر وفعالية غير مسبوقة. لم تعد المدن الذكية ضرباً من الخيال بل واقع تتسارع فيه الأبحاث العلمية بشكل جنوني، ممهّدة الطريق لاكتشافات واختراعات قد تنقلنا إلى عصر آخر، عصر لطالما حلم به كتاب الخيال العلمي وصنّاع الأفلام. يبدو لكم أن المستقبل سيكون مشرقاً ووردياً تسير فيه الحياة بنحو مثالي، أليس كذلك؟
ترى هل سيقدّم هذا التطور السريع حلولاً لمشكلاتنا أم سيضعنا أمام تحديات وتهديدات أكبر؟ هل فكرتم يوماً في الثمن البيئي الذي ندفعه مقابل هذا التطور التكنولوجي؟
منذ يومين، بينما أتابع حديثاً منشوراً على منصة "TEDx" لفتني تصريح عالمة الكومبيوتر ومديرة أبحاث الذكاء الاصطناعي الأخلاقي ساشا لوتشوني، حيث كشفت أن مجرّد تدريب "Bloom" (أول نموذج لغة كبير مفتوح يركز على الأخلاق والشفافية والموافقة اجتمع ألف باحث/ة من جميع أنحاء العالم لإنشائه في مبادرة "Big Science")، استهلك قدراً من الطاقة يعادل استهلاك 30 منزلاً في العام الواحد، في حين انبع منه 25 طناً من ثاني أوكسيد الكربون، الأمر الذي قد يجعلنا نعتبره صديقاً للبيئة مقارنة بـ "ChatGPT-3"، أحد النماذج اللغوية الكبيرة التي ينبعث منها كربون أكثر بعشرين مرة. تخيل أنك تقود سيارتك خمس مرات حول الكوكب فقط لتمكّن شخصاً ما من سرد نكتة واحدة! هذه هي سخرية العصر: نكتة مقابل تدمير الكوكب.
هل سيقدّم هذا التطور السريع في الذكاء الاصطناعي حلولاً لمشكلاتنا أم سيضعنا أمام تحديات وتهديدات أكبر؟ هل فكرتم يوماً في الثمن البيئي الذي ندفعه مقابل هذا التطور التكنولوجي؟
أجرى باحثون في جامعة ماساتشوستس دراسة لتحديد مقدار الطاقة المستخدمة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الكبيرة الشهيرة. ووفقاً للنتائج التي نشرها موقع "EARTH.ORG"، يمكن أن ينتج التدريب حوالي 626 ألف رطل من ثاني أكسيد الكربون، أو ما يعادل حوالي 300 رحلة ذهاباً وإياباً بين نيويورك وسان فرانسيسكو (تقدر المسافة بينهما بـ 3000 ميل) أو ما يقرب من خمسة أضعاف الانبعاثات مدى الحياة للسيارة المتوسطة.
في هذا الصدد، وحسب صحيفة "الغارديان" الأمريكية، قدرت دراسة أجريت عام 2019 البصمة الكربونية لتدريب نموذج لغة كبير مبكر (LLM) مثل "GPT-2" بنحو 300 طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وهو ما يعادل 125 رحلة ذهاباً وإياباً بين نيويورك وبكين.
وفي المقال نفسه، كشف الصحفي والباحث المتخصص جون نوتن، عن نتائج دراسة قارن فيها الباحثون تكلفة الاستدلال المستمرة لفئات مختلفة من أنظمة التعلم الآلي (مجموعها 88)، والتي تغطي مهام محدّدة (أي نماذج دقيقة تنفذ مهمة واحدة) ونماذج عامة (أي مثل "ChatGPT" و"Claude" و"Llama" وما إلى ذلك، المدربة على مهام متعددة)، مفادها أن المهام التوليدية (إنشاء النصوص، وتلخيصها، وإنشاء الصور، وإضافة التعليقات التوضيحية) أكثر استهلاكاً للطاقة والكربون مقارنة بالمهام التمييزية. كما أن المهام التي تنطوي على صور تنبعث منها كميات أكبر من الكربون مقارنة بتلك التي تنطوي على نص فقط. والمثير للدهشة أن تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي يظل أكثر استهلاكاً بكثير من استخدامها في الاستدلال.
في حين حاول الباحثون تقدير عدد الاستدلالات اللازمة قبل أن تتساوى تكلفة الكربون مع التأثير البيئي لتدريبها. وفي حالة أحد النماذج الأكبر حجماً، سوف يستغرق الأمر 204.5 مليون تفاعل استدلالي، وعندها سوف تتضاعف البصمة الكربونية للذكاء الاصطناعي.
قد يبدو هذا كثيراً ولكن على نطاق الإنترنت فهو ليس كذلك. ففي نهاية المطاف، اكتسب تطبيق "ChatGPT" مليون مستخدم في الأسبوع الأول بعد إطلاقه، ولديه حالياً حوالي 180 مليون مستخدم نشط. الأمر الذي علق عليه نوتن قائلاً: "ربما يكون أفضل أمل للكوكب هو أن يسقط الذكاء الاصطناعي التوليدي من المنحدر الزلق إلى (حوض خيبة الأمل) الذي حدّدته شركة "جارتنر"، ما يتيح للبقية منا مواصلة الحياة".
"الأكبر هو الأفضل"، لكن الأهم هل سنعيش بدون ماء؟
مثلما استطاع مفهوم "الترند" تعويم التفاهة في العالم الافتراضي لمواقع التواصل الاجتماعي، فإن فكرة "الأكبر هو الأفضل" السائدة عن الذكاء الاصطناعي، جعلتنا نرى، في السنوات الأخيرة، نماذج الذكاء الاصطناعي تتضخّم في الحجم، حيث نمت النماذج اللغوية الكبيرة 2000 مرة، ما يعني أن تكلفتها البيئية ارتفعت أيضاً، وبينما نضعها في الهواتف المحمولة ومحركات البحث والثلاجات الذكية ومكبرات الصوت، فإن التكاليف البيئية تتراكم بسرعة كبيرة. وفي هذا الخصوص، أوضحت لوتشوني، أن تبديل نموذج أصغر وأكثر كفاءة بنموذج لغوي أكبر يؤدي إلى انبعاث 14 مرة أكثر من الكربون لنفس المهمة مثل قول تلك النكتة.
يسعنا قول إن "الأكبر ليس دائماً أفضل"، فاستناداً لموقع "هارفرد بزنس ريفيو" يمكن أن يكون النموذج الصغير المدرّب على بيانات عالية الجودة ومُنسقة، أكثر كفاءة في استخدام الطاقة، ويحقق نفس النتائج أو أفضل حسب احتياجاتك. كما وجدت أبحاث "IBM" أن بعض النماذج المدرّبة على بيانات محدّدة وذات صلة يمكن أن تعمل على قدم المساواة مع النماذج الأكبر من ثلاث إلى خمس مرات، ولكنها تعمل بشكل أسرع وباستهلاك أقل للطاقة، والخبر السار للشركات هو أن هذا يعني على الأرجح تكاليف أقل ونتائج أفضل أيضاً.
مراكز البيانات والعملات المشفّرة والذكاء الاصطناعي شكلت ما يقرب من 2% من الطلب العالمي على الطاقة في عام 2022، والذي قد يتضاعف بحلول عام 2026 ليعادل استهلاك الكهرباء في اليابان
لذا، بدلاً من التركيز على بعض المخاطر الوجودية المستقبلية يتعين علينا التفكير في البنية الأساسية، والتي تتمثل في الخوادم. وإذا فكرت في الخوادم، فإن ما يجب أن نبدأ في القلق بشأنه حقاً هو الكميات الهائلة من المياه المطلوبة لتبريدها. فحسب مدير قسم المناخ والتكنولوجيا في "BSR"، أمير عظيم، يتطلب الخادم متوسط الحجم 300000 جالون من المياه يومياً، وهذا من شأنه أن يعتني بـ 100000 منزل، وبالتالي فإن الضغط الهائل على المياه، وهو مورد نادر بالفعل، يجعل هذا الموضوع في المقدمة، ويدفعنا لالتقاط التأثيرات التي يحدثها الذكاء الاصطناعي واحدة تلو الأخرى، فلو نظرنا إلى البدائل سنجد أن الخوادم المبرّدة بالهواء تستهلك كهرباء لكل رف من الخوادم أكثر من أي شيء آخر، إذ يمكن للرف عالي الأداء أن يستخدم ما يصل إلى 40 كيلو وات، وعن هذا ذكرت صحيفة "فايننشال تايم" ما قالته وكالة الطاقة الدولية، بأن مراكز البيانات والعملات المشفّرة والذكاء الاصطناعي شكلت ما يقرب من 2% من الطلب العالمي على الطاقة في عام 2022، والذي قد يتضاعف بحلول عام 2026 ليعادل استهلاك الكهرباء في اليابان، بينما وجد تقرير حديث من "جولدمان ساكس" تحدثت عنه "هارفرد بزنس ريفيو" أنه بحلول عام 2030، سيكون هناك زيادة بنسبة 160% في الطلب على الطاقة المدفوعة بتطبيقات الذكاء الاصطناعي، ما يعني أن استبدال الماء بالهواء ليس حلاً على الإطلاق.
لو سألنا التربة والتنوع البيولوجي عن حالهما بعد هيمنة الذكاء الاصطناعي، برأيكم بماذا سيجيبان؟
إن تغيير التنوع البيولوجي أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى، خاصة بعد أن شهدنا انخفاضاً هائلاً في أعداد التنوع البيولوجي في جميع أنحاء العالم بسبب تجزئة الموائل، نتيجة زيادة استهلاك المياه الذي يعطل النظم البيئية بسبب خوادم البيانات. علاوة على ذلك، فإن انتشار الذكاء الاصطناعي زاد حاجتنا لمراكز البيانات والتي كانت تقع في الأصل بالقرب من مراكز التكنولوجيا، أما الآن، فإن السبب الرئيسي لاختيار موقع مركز البيانات هو توفر الطاقة والأرض ببساطة، ما يعني أننا سنضطر إلى تحويل الغابات والأراضي الزراعية والعبث بالنظم البيئية الصحراوية، وقد يكون لهذا تأثير هائل من الانبعاثات الناتجة عن تغيير استخدام الأراضي، أي تغيير التنوع البيولوجي. الأمر الذي وصفه مدير قسم المناخ عظيم، بأنه أكبر محرّك لفقدان هذا التنوع.
من ناحية أخرى، تشكل تطبيقات الذكاء الاصطناعي، مثل السيارات ذاتية القيادة وطائرات التوصيل بدون طيار، تهديداً للحيوانات والبيئات الطبيعية. وقد تؤدي الأتمتة التي يغذيها الذكاء الاصطناعي إلى زيادة الاستهلاك، فضلاً عن زيادة النفايات في قطاعات معينة مثل صناعة التجارة الإلكترونية، والتي تشكل تحدياً بيئياً خطيراً في ظل احتوائها على مواد كيميائية خطرة، بما في ذلك الرصاص والزئبق والكادميوم، والتي يمكن أن تلوّث التربة وإمدادات المياه، وتعرّض صحة الإنسان والبيئة للخطر.
وعن ذلك نقل موقع "EARTH.ORG" ما توقعه المنتدى الاقتصادي العالمي، أنه وبحلول عام 2050، سيتجاوز إجمالي كمية النفايات الإلكترونية المتولدة 120 مليون طن متري، وبالتالي سنكون بحاجة إلى قوانين أكثر صرامة لممارسات التخلص الأخلاقية، لضمان المعالجة الآمنة وإعادة تدوير النفايات الإلكترونية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي والحدّ بشكل كبير من آثارها البيئية السلبية.
أيعقل أن أقف في المستقبل في طابور لأشتري أسطوانة أوكسجين ببطاقتي الذكية التي تحدّد لي الكمية التي أحتاجها من الأشياء دون أن تسألني، أم أن البشرية ستفاجئنا كعادتها وتخرج باكتشاف يمحو كل هذه الفوضى؟
أما عن الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي في الزراعة قد يؤدي إلى الإفراط في استخدام المبيدات الحشرية والأسمدة، وبالتالي تلويث التربة والمياه والإضرار بالتنوع البيولوجي. ذلك لأن تطبيق الذكاء الاصطناعي في الممارسات الزراعية لزيادة الغلّات على حساب الحفاظ على صحة النظام البيئي، قد يؤدي إلى زراعة المحاصيل الأحادية وفقدان التنوع البيولوجي.
هل نسير نحو مستقبل بلا كوكب؟!
لا شك أن هناك محاولات بشرية نجحت بالزحف تقرّباً من البيئة لتصادقها، كما فعلت شركة جوجل بعد أن قلّلت استخدام الطاقة للتبريد بنسبة 40% في أحد مراكز البيانات التابعة لها، من خلال تطبيق التعلم الآلي من شركة "DeepMind" والتنبؤ بالمتغيرات مثل الطلب والطقس. إلى جانب أنها تستخدم برامج للبحث عن أجزاء من العالم بها فائض من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لإنشاء مراكز بيانات فيها.
لكن بالحديث عن الطاقة الشمسية، تذكرت نفسي اليوم عندما كنت أذوب من الحر وأفكر في كل هذا بينما أغسل ثيابي، هل سيصل الحال بنا ليوم لا أجد فيه مياهاً للشرب أو لأغسل خضار سلطتي المفضلة إن وجدت هي الأخرى؟
أيعقل أن أقف في المستقبل في طابور لأشتري أسطوانة أوكسجين ببطاقتي الذكية التي تحدّد لي الكمية التي أحتاجها من الأشياء دون أن تسألني، أم أن البشرية ستفاجئنا كعادتها وتخرج باكتشاف يمحو كل هذه الفوضى؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...