يُعدّ بوذَرجُمِهر بُختَكان، من أشهر المفكرين السياسيين الإيرانيين، خاصةً أن مجد آخر إمبراطورية إيرانية قبل الإسلام يُنسب إلى حكمته وحنكته السياسية. وُلد بوذرجمهر في خراسان شمال شرق إيران، سنة 531 (90 عاماً قبل الهجرة النبوية)، وشهد هذا الوزير العديد من التقلبات خلال حياته؛ عندما كان طالباً صغيراً في السن، نجح في تفسير حلم الملك الساساني كسرى الأول، وبهذا شقّ طريقه إلى بلاط الملك، ومنذ ذلك الحين أصبح العقل المدبر للساسانيين، وأحد المثقفين الأكثر ديمومةً وتأثيراً في تاريخ إيران.
لكن من أين جاءت شهرته هذه؟
الخنزير الذي شرب من كأس الملك
عندما حلم ملك إيران خسرو أنوشِروان أو كسرى الأول، ثلاث مرات متتالية بخنزير ذي أسنان حادة يأتي ويشرب من كأس النبيذ الخاص به، انشغل باله بهذا الحلم، لا سيما حين لم يتمكن أي كاهن أو عرّاف من تفسير هذا الحلم. فمن هذا المنطلق أرسل أنوشروان رُسلاً إلى جميع أنحاء إيران للعثور على شخص يمكنه تفسير حلمه. وفي الأثناء تم إرسال رسول إلى مدينة مَرو شمال شرق إيران، وبعد طول استفسار وتحقيق، عثر الرسول على مدرّس في المدرسة التي كان يَدرس فيها "بوذرجمهر"، فسأله عن الحلم ولم يتمكن الآخر من التفسير.
عندما كان طالباً صغيراً في السنّ، نجح في تفسير حلم الملك الساساني كسرى الأول، وبهذا شقّ طريقه إلى بلاط الملك، ومنذ ذلك الحين أصبح العقل المدبر للساسانيين، وأحد المثقفين الأكثر ديمومةً وتأثيراً في تاريخ إيران
بعد أن رأى بوذرجمهر أن معلمه لم يتمكن من تفسير الحلم، طلب من رسول الملك أن يأخذه معه إلى العاصمة ليفسر الحلم للملك بنفسه، فقبل الرسول بهذا الأمر وأخذه معه إلى العاصمة الساسانية تيسفون. بعد وصوله، فسّر الطالب الصغير حلم الملك، وأخبر أنوشروان بأن تفسير حلمه هو أنه في حريمه يوجد شاب تنكّر بزيّ امرأة ليستطيع البقاء في حريم السلطان. بعد ذلك أمر أنوشروان، بأن يخلعوا ملابس جميع النساء في الحريم، ليجدوا الشاب المعني، فتحقق حلم الملك ووجد أن التفسير كان صحيحاً، فالشاب وُجد بين الحريم الملكي.
كان لشخصية بوذَرجُمِهر انعكاس واسع في الأدب الفارسي. وقد نُسبت إليه كثير من التعاليم الأخلاقية في أعمال الكتّاب الإيرانيين القدامى، أمثال مرزبان بن رستم، والخواجة نظام الملك، وسعدي الشيرازي.
ومنذ ذلك الحين، اكتسب بوذرجمهر مكانةً مرموقةً في بلاط الساسانيين، وأرسله أنوشروان للتدريس في الاجتماعات العلمية، وبهذه الطريقة نال مكانةً مشرفةً لدى أنوشروان. وبعد أن أظهر موهبته في مختلف العلوم والتقنيات، تم تعيينه أخيراً وزيراً للملك.
وفقاً لهذه القصة الشهيرة، كان بوذرجمهر أصغر سنّاً بكثير من أنوشروان، حيث سافر مسافةً طويلةً من مرو في شرق خراسان إلى تيسفون، عاصمة الساسانيين (القريبة من موقع مدينة بغداد الحالية) للقاء الملك، وسواءً عددنا هذه القصة أسطورةً أم لا، ومهما كان سبب دخول بوذرجمهر إلى بلاط أنوشروان، فلا يمكن للمرء أن يشكّ في مكانته العظيمة لدى الملك.
وحول هذا الموضوع يشير ابن البلخي، مؤرخ القرن السادس الهجري، في كتابه "فارسْنامة"، إلى المكانة الرفيعة التي كان يتمتع بها بوذرجمهر في بلاط أنوشروان، بحيث أن الملك قد وضع كرسياً ذهبياً لوزيره الحكيم أمام عرشِه، وكان منصب بوذرجمهر أعلى من المستشارين وسائر المسؤولين الحكوميين.
كان لشخصية بوذرجمهر انعكاس واسع في الأدب الفارسي. وقد نُسبت إليه كثير من التعاليم الأخلاقية في أعمال الكتّاب الإيرانيين أمثال مرزبان بن رستم، والخواجة نظام الملك، وسعدي الشيرازي، والجامي، في شكل روايات عديدة ومختلفة. وفي بعض المصادر العربية يُعدّ أبو مسلم الخراساني أحد أبناء بوذرجمهر، هو (أبو مسلم) الذي كان قائداً عسكرياً إيرانياً وزعيم "ثورة السواد" (العباسية) في خراسان.
من مهارات بوذرجمهر الأخرى هي التنؤ والعلم بالأسرار الخفية. يعزو ابن خلدون في مقدمته (المجلد الثاني) إلى بوذرجمهر، التنبؤَ بسقوط الساسانيين وميلادَ النبي محمد. مثل هذه الروايات تُرجع علم بوذرجمهر إلى أمرَين: تفسير الأحلام والإدراك الحسّي. كما أن بوذرجمهر أصبح في ما بعد نموذجاً للوزير صاحب العقل المدبر في الأدب الفارسي، فيشير مثلاً الخواجة نظام المُلك في كتابه "سياست نامه" إلى هذا البعد في شخصية بوذرجمهر.
أعمال بوذرجمهر
أهم عمل منسوب إلى بوذرجمهر هو كتاب "نصائح بوذَرجمهر بُختَكان" (بالفارسية: پَندنامه بُزُرگمِهر بختَگان)، ويحتوي هذا العمل الموجه إلى أنوشروان، والمكتوب باللغة "البهلوية"، على 1،425 كلمةً، ويتضمن نصائح حول أصول السلوك والتربية، كحسن الخُلق في الحديث، والمثابرة للتفوق والتطور، والتفاني في العمل، والحق والصلاح، واجتناب الكسل، وطلب العلم، حيث يتم التعبير عن كلّ منها في جملة أو جملتين أو في بعض الأحيان في عبارة واحدة.
العمل الثاني المهم لبوذرجمهر هو أطروحة "ماديكان شطرنج" (بالفارسية: مادیگان شَترنگ)، وهو في الواقع تقرير عن لعبة الشطرنج. ومن الأعمال المعروفة الأخرى لبوذرجمهر، دراسته "باب الطبيب بُرزو" المكتوبة في مقدمة كتاب "كليلة ودمنة"، إذ لم يقبل بُرزو أن يتقاضى أجراً لقاء إحضاره الكتاب من الهند إلى إيران، وبدلاً من ذلك طلب أن يُذكر وصف حياته منذ ولادته حتى ذلك الوقت في بداية النص المترجم لهذا الكتاب؛ ولذلك عهد خسرو أنوشروان بمهمة كتابته إلى بوذرجمهر. وبالإضافة إلى هذه الأعمال، هناك نصوص أخرى وردت عناوينها في كتب التاريخ ونسبت إلى بوذرجمهر، ولكن لم يعد بالإمكان العثور عليها.
الشطرنج الهندية والطاولة الإيرانية
من المعروف أنه في عهد أنوشروان، أرسل ملك الهند رقعة شطرنج مصنوعةً من الزمرد والياقوت إلى البلاط الإيراني مع هدايا قيّمة أخرى، لكن كان هدف إرسال الشطرنج، قياس حكمة الإيرانيين ومعرفتهم، لهذا كتب ملك الهند في رسالة إلى ملك إيران: "بما أنك إمبراطورنا، فيجب أن يكون حكماؤك أيضاً أفضل من حكمائنا. فإما أن تخبرنا بطريقة لعبِ ما أرسلناه إليك (الشطرنج)، أو أن ترسل لنا فديةً إذا لم تتمكن من فكّ شفرة اللعبة".
يعزو ابن خلدون إلى بوذرجمهر، التنبؤَ بسقوط الساسانيين وميلادَ النبي محمد. كما أن بوذرجمهر أصبح في ما بعد نموذجاً للوزير صاحب العقل المدبر في الأدب الفارسي
بعد قراءة الرسالة، طلب شاه إيران مهلة 40 يوماً، ولم يجد أي أحد من الحكماء في بلاطه حلّاً خلال تلك الأيام. لكن في اليوم الأخير، جاء بوذرجمهر الأصغر بين وزراء أنوشروان بحلّ للّعبة، وقال: "لقد جعلوا من هذه الشطرنج ساحةً للمعركة، فيقاتل الطرفان بقطعهما، ومن لديه حكمة وبصيرة أفضل، يفوز". كما كشف عن الأسرار الكاملة للعبة الشطرنج وطريقة ترتيب القطع، فحيّاه الإمبراطور ثلاث مرات وكافأه باثني عشر ألف قطعة نقدية ذهبية.
بعد ذلك لعب ممثل الهند مع بوذرجمهر، وهزمه الوزير الشاب ثلاث مرات. وفي اليوم التالي، دعا بوذرجمهر مندوب الهند إليه، وعرض عليه لعبةً أخرى، وقال: "إذا أستطعت فك لغز هذه اللعبة، فسندفع لكم فديةً، وإذا لم تستطع، فستدفعون أنتم لنا الفدية"، وطلب ملك الهند أربعين يوماً أيضاً، لكن لم يتمكن أحد من حكماء تلك الأرض من فك رموز هذه اللعبة التي كانت تُسمّى "وين أردشير". وهكذا، وبحسب بعض الأساطير، وافق ملك الهند على أن يدفع الفدية للمملكة الإيرانية.
تُعرف هذه اللعبة في عصرنا الحالي بـ"لعبة الطاولة"، وهي التي تختلف المصادر التاريخية في نشأتها؛ فمنها ما تقول إنها نشأت في أور العراقية في حضارة ما بين النهرين، بينما تذكر أخرى أنها نشأت في مصر لأول مرة، وأخرى تنسبها إلى الرومان، وتشير بعض من هذه المصادر إلى العثور على ألواح لها في جنوب شرق إيران.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...