يُعرف صَدر الدين محمد بن إبراهيم قوام الشيرازي، الفيلسوف والفقيه والمفكر الإيراني، في إيران، بألقاب منها "مُلّا صدرا" و"صدر المتألّهين" أو "صدرا" كاسم مختصر، ويشتهر بنهجه في الفلسفة المعروف بـ"الحكمة المتعالية".
يُعدّ صدر المتألهين أحد الفلاسفة الذين فتحوا نافذةً جديدةً في تدفق الفكر الفلسفي في العالم الإسلامي، لكن قصته غريبة، إذ كان منغمساً في الكتب ومتنقلاً بين المدن، كما أمضى سنواته الأخيرة في العزلة والمنفى حتى مات وحيداً. فكيف اتُّهم هذا الفيلسوف والفقيه الإسلامي بالارتداد؟
الطفولة... بوذا في القصر
وُلد مُلّا صدرا عام 1571، في مدينة شيراز جنوب إيران، وأُطلق عليه اسم محمد، وبحسب رواية فإن والده هو الخواجة إبراهيم قوام، وكان عالماً ووزيراً لوالي ولاية فارس (شيراز)، وكان صدر الدين محمد ابنه الوحيد. لكن للمستشرق الفرنسي هنري كوربان، رأياً آخر، إذ يعتقد أن والد مُلّا صدرا كان تاجراً للّؤلؤ البحريني والسكر البنغالي والأوشحة الكشميرية.
يرتبط اسم مُلّا صدرا، بما يُسمّى "الحكمة المتعالية" في الفلسفة الإسلامية، مع أنه قبل مُلّا صدرا كان العديد من الفلاسفة المسلمين قد استخدموا هذا المصطلح، بما في ذلك الفيلسوف والعالم ابن سينا
من الواضح أن مُلّا صدرا عاش حياةً أرستقراطيةً عندما كان طفلاً، إذ نشأ في قصر كقصر بوذا، سواء كان والده وزيراً حاكماً لولاية فارس أو تاجراً ثرياً. ففي الحالتين يكون قد عاش حياةً مريحةً، كما أن تعليمه جرى في قصر أسرته وتحت إشراف مدرسين بارزين، كما جرت العادة وقتذاك مع أبناء النبلاء.
كان صدرا فتى ذكياً وجاداً وحيوياً ومجتهداً وفضولياً، إذ في فترة قصيرة تعلم جميع الدروس المتعلقة بالأدب والفن الفارسي والعربي، كما تعلّم ركوب الخيل والصيد والقتال، إلى جانب ذلك كان متبحراً في الرياضيات وعلم الفلك والطب. إلى ذلك درس الفقه والشريعة الإسلامية والمنطق والفلسفة، ولما يبلغ بعد، ولكنه كان مهتماً بالفلسفة أكثر من أي شيء آخر.
أمضى صدرا طفولته في شيراز، ثم انتقل إلى قزوين، شمال غرب إيران، حيث عاش سنوات مراهقته بشكل رئيسي في تلك المدينة التي كانت في ذلك الوقت قد أصبحت عاصمة الصفويين في إيران.
الأساتذة الثلاثة... الشيخ البَهائي وميرْ داماد وميرْ فِندِرِسْكي
التقى مُلّا صدرا في قزوين باثنين من كبار العلماء الإيرانيين، واستفاد من دروسهما، وهما الشيخ بهاء الدين العاملي المعروف بالشيخ البَهائي، والفيلسوف محمد باقر بن محمد الأسترآبادي المعروف بمير داماد.
بعد انتقال العاصمة الصفوية من قزوين إلى مدينة أصفهان في عام 1598، ذهب الشيخان البهائي ومير داماد مع طلابهما إلى أصفهان ونشروا تعاليمهم هناك، واكتفى مُلّا صدرا، الذي كان يتراوح عمره آنذاك بين 26 و27 عاماً، بالتعليم، وكان يفكر في إيجاد أُسس جديدة في الفلسفة، ومن هنا أسّس مدرسته الفلسفية الشهيرة.
يُعدّ صدر المتألهين أحد الفلاسفة الذين فتحوا نافذةً جديدةً في تدفق الفكر الفلسفي في العالم الإسلامي، لكن قصته غريبة.
مولانا أبو القاسم بن أبي طالب ميرْ حسيني الفِندِرسكي، المعروف بمير فندرسكي، حكيم، وعالم، وفيلسوف من العصر الصفوي، عدّ نفسه من نسل الإمام السابع لدى الشيعة الاثني عشرية موسى الكاظم، وقد أخذ عنه مُلّا صدرا علمَ "المِلل والنِّحل"، وهو عنوان كتاب ألفه محمد بن عبد الكريم الشّهْرِستاني، العالم والرحالة الإيراني في القرن السادس الهجري، وفيه وصفَ أفكار العالم ومعتقداته وأديانه وثقافاته في ذلك الوقت، وكان يُعدّ هذا الكتاب من المصادر الثقافية المهمة في عصره.
تزامنت حياة مُلّا صدرا مع ظهور المملكة الصفوية في إيران، وربما كان والده وزيراً لحاكم فارس، محمد خُدا بَندِه، الذي أصبح في ما بعد ملكاً، وعُرف بشاه محمد خُدا بَنده، رابع ملوك الصفويين، الذي حكم من 1577 إلى 1587. بعد وفاة والده، الشاه إسماعيل الصفوي، تم اختيار محمد من قبل الجيش، ولكنه بسبب إصابته بالعمى، لم يتمكن من أن يصبح ملكاً مقتدراً مثل والده.
الحكمة المتعالية
يرتبط اسم مُلّا صدرا، بما يُسمّى "الحكمة المتعالية" في الفلسفة الإسلامية، مع أنه قبل مُلّا صدرا كان العديد من الفلاسفة المسلمين قد استخدموا هذا المصطلح، بما في ذلك الفيلسوف والعالم ابن سينا، الذي استخدمه لأول مرة في كتابه الشهير "الإشارات والتنبيهات" وذكره على أنه سرّ لا ينكشف إلا للضليعين في الحكمة المتعالية.
ومن المثير للاهتمام أن مُلّا صدرا لم يسمِّ فلسفته "الحكمة المتعالية"، بل إن هذه الكلمة تُستخدم فقط كعنوان لأحد أهم أعمال مُلّا صدرا، الذي يحمل عنوان "الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة". إلا أنه بعد مُلّا صدرا، ومع مرور الوقت، أصبح مصطلح "الحكمة المتعالية" شائعاً للإشارة إلى نظام مُلّا صدرا الفلسفي. وأهم جوانب نظريته في الفلسفة، هي نظرية وحدة الوجود التي بنى عليها فلسفته بأكملها، وقد جلبت هذه النظرية المتاعب له، إذ كانت نظرية وحدة الوجود سبباً في لعنه وتكفيره من قبل العلماء والفقهاء في تلك البرهة.
لمُلّا صدرا تفسيرات مختلفة للوحدة في مواقف مختلفة؛ فمثلاً يقول في رسالته "سريان الوجود"، إن "الاحتمالات كثيرة ومتعددة الوجود، كما أن لها تعدديةً موضوعيةً وحقيقيةً؛ فالوجود إذاً واحد؛ لكن الموجود كثير ومتعدد". ويقول أيضاً في كتاب "الأسفار"، إن "الوجود في الواقع متعدد؛ لكن الحقيقة هي نفسها".
الارتداد والموت
يقول المؤرخ والباحث اللاهوتي الفرنسي هنري كوربان عن حياة صدرا: "بعد حصوله على درجة الاجتهاد، قام مُلّا صدرا بالتدريس في مدرسة خاجه في أصفهان، ولكن بما أن آراءه في بعض المسائل الفقهية كانت مختلفةً عن معظم نخبة علماء أصفهان، فقد اتهموه بالزندقة وطالبوا بطرده من المدرسة ونفيه نهائياً من أصفهان. وهكذا تم نفي مُلّا صدرا من أصفهان، ومن هناك ذهب إلى قم".
بعد اتهامه بالارتداد، انعزل مُلّا صدرا في مدينة قم وسط إيران، وعاش في المنفى لمدة خمسة عشر عاماً. حجّ في حياته سبع مرات سيراً على الأقدام، وتوفي في بداية الرحلة السابعة، أو عند عودته من تلك الرحلة، في مدينة البصرة
ويصف مُلّا صدرا نفسَه في مقدمة كتاب "الأسفار" كالتالي: "لقد زحفت إلى ركنٍ، بحال محبط مع عدم الكشف عن هويتي، وتخليت عن أحلامي بقلب مكسور، ربطت خصري بالوفاء لالتزاماتي وانتقمت لتقصيري الماضي أمام الله العظيم، لم ألقّن درساً ولم أكتب كتاباً، لأن التعليق والاستحواذ على العلوم والمهن واستخلاص الدروس وحل المشكلات والشكوك وغيرها، يحتاجان إلى تزكية النفس والفكر، وتهذيب الخيال من الفوضى والاضطراب واستقرار الحال وراحة البال من بلاده والمَلل، ومع كل هذه المعاناة والملَل الذي مرّ به، كيف يكون مثل هذا الفراغ ممكناً... اضطررت للتخلي عن المخالطة وصحبة الناس، ويئست من صداقتهم حتى عداوة القوم. العمر وأولاد العمر أصبح سهلاً عليّ وأصبحت غير مبالٍ بإنكارهم واعترافاتهم وكرامتهم وإهاناتهم. ثم تحوّلت بطبيعتي نحو المسبب الحقيقي، ووقفت بكل كياني في بلاطه المقدس أتضرع وأعول، وأمضيت وقتاً طويلاً على هذه الحال".
بعد اتهامه بالارتداد، انعزل مُلّا صدرا في مدينة قم وسط إيران، وعاش في المنفى لمدة خمسة عشر عاماً. حجّ في حياته سبع مرات سيراً على الأقدام، وتوفي في بداية الرحلة السابعة، أو عند عودته من تلك الرحلة، في مدينة البصرة، ويقال إن مُلّا صدرا توفي عام 1050 هجري، ولكن وفقاً لمذكرات حفيده، فإن السنة الصحيحة لوفاته هي سنة 1045 الهجرية الموافقة لعام 1640 ميلادي، وعدم إكمال بعض كتاباته مثل تفسير القرآن ووصف أصول الكافي تأييد لذلك، وبحسب حفيد صدرا، فقد دُفن على الجانب الأيسر من صحن مرقد علي بن أبي طالب في النجف، ويقال أيضاً إنه دفن في البصرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...