يعدّ العديد من المؤرخين، زرادشت أول فيلسوف في التاريخ، خاصةً أنه شاعر وفيلسوف وُلد في إيران قبل ميلاد المسيح بنحو ألف عام، كما أن أفكاره، بالإضافة إلى أنها أدت إلى ظهور ديانة الزرادشتية في إيران، هي في الواقع إطار التفكير الذي شكّل إيران لآلاف السنين.
استمر الحال على هذا النحو حتى دخول الإسلام إلى إيران، وبداية الصراع الفكري بين الأفكار الفلسفية الزرادشتية والمانوية والإسلامية واليهودية واليونانية، وقد تكونت الفلسفة الإسلامية، أي علم الكلام، نتيجةً للتقلبات الفلسفية والعقائدية في صدر الإسلام، وبعد الخلافات الفلسفية التاريخية بين السنّة والشيعة. وبجانب الفلسفة الإسلامية السابقة في إيران، تشكلت الفلسفة الإيرانية الإسلامية التي بلغت ذروتها في العصور الوسطى.
تُعرف "مدرسة الإشراق"، و"مدرسة الحكمة المتعالية"، بأنهما المدرستان الأساسيتان للفلسفة الإيرانية، ومن أهم فلاسفة هاتين المدرستين يمكن ذكر ابن سينا، وشهاب الدين السهروردي، وفخر رازي الطبرستاني، وملا صدرا الشيرازي.
من المعروف أنه أصبح أستاذاً في جميع علوم عصره، وهو في السادسة عشرة من عمره. وفي سن السابعة عشرة، ذاع صيت ابن سينا إلى درجة أن الأمير الساماني نوح بن منصور، استدعاه إلى بلاطه لمعالجته، وتمكّن الآخر من معالجة مرضه الصعب
من بين هؤلاء الفلاسفة، اشتهر ابن سينا أكثر من غيره في العالم الغربي وخارج إيران بشكل عام، وذلك بسبب إنجازاته العظيمة في الطب والعلوم الطبية، خاصةً أن كتابه "القانون" دُرِّس في العلوم الطبية في المراكز العلمية الأوروبية، لأكثر من سبعمئة عام، وكان لنظامه الفلسفي الأثر العميق والأبقى على الفكر الفلسفي الإسلامي من بعده، وعلى الفلسفة الأوروبية في العصور الوسطى.
كما أن ابن سينا اشتهر في تاريخ إيران بسبب ذكائه وعلمه الكبير، فعندما كان في العاشرة من عمره حفظ القرآن وتعلم النحو والصرف، وبعد ذلك درس المنطق والرياضيات. ولأنه وصل بسرعة إلى مكانة الأستاذ في هذه المواد، دَرَس بعد ذلك العلوم الطبيعية والميتافيزيقيا والطب، ومن المعروف أنه أصبح أستاذاً في جميع علوم عصره، وهو في السادسة عشرة من عمره. وفي سن السابعة عشرة، ذاع صيت ابن سينا إلى درجة أن الأمير الساماني نوح بن منصور، استدعاه إلى بلاطه لمعالجته، وتمكّن الآخر من معالجة مرضه الصعب.
من حفظ القرآن إلى معالجة الأمير الساماني
كان والده، عبد الله بن سينا، من مدينة بلخ في أفغانستان اليوم، وانتقل منها إلى مدينة بخارى في عهد الملك الساماني نوح الثاني، وهو نوح بن منصور المعروف بأمير الرازي، أحد ملوك السامانيين الذين أدوا دوراً مهماً في إثراء الأدب والثقافة. أصبح والد ابن سينا عبد الله، موظفاً في منطقة ريفية اسمها خرميثن، وتزوج من فتاة كان اسمها سِتاره (نجمة في الفارسية)، من قرية أفشُنة المجاورة. بعد فترة أنجبا طفلهما الأول، وأطلقا عليه اسم حسين، الذي أصبح يُعرف في ما بعد بابن سينا. وُلد ابن سينا عام 980م، في قرية أفشُنة في أوزبكستان الحالية، والتي كانت تُعدّ جزءاً من أراضي إيران آنذاك. انجذب والد ابن سينا وشقيقه إلى الدعوة الإسماعيلية، ولكن ابن سينا لم يتبعهما.
يذكر ابن سينا، وفق ما نقل عنه تلميذه وملازمه أبو عبيد الجوزجاني (المتوفى 1070م) الذي ألّف سيرة حياته، أن والده عبد الله كان من أهل بلخ، قدم إلى بخارى (في أوزبكستان الحالية) في زمن نوح بن منصور الساماني، وكانت بخارى من المدن الكبرى في ذلك العصر. كان والده يعمل موظفاً حكومياً، وكان مكلفاً بالعمل في قرية خرمثين، وكانت قرية أفشنة قريبةً من تلك القرية.
يواصل ابن سينا الحديث عن نفسه في هذه السيرة بأن أباه تزوج من أمه في تلك القرية، وإن اسم أمه ستاره. أسماه والداه حسيناً، وبعد مرور بعض الوقت، انتقل والده إلى بخارى، حيث تركه ليتعلم القرآن والأدب. كان الشاب قد أنهى العاشرة من عمره عندما أتقن القرآن والأدب، إلى درجة أن أساتذته فوجئوا بمعرفته، وفي ذلك الوقت، جاء رجل اسمه أبو عبد الله إلى بخارى، وكان عليماً بعلوم عصره. أحضره والده إلى المنزل حتى يتمكن ابن سينا من تعلّم المزيد منه. وحين جاء إلى منزلهم، كان ابن سينا يدرس الفقه على يد أستاذ كان اسمه إسماعيل زاهد، وكان أفضل طلابه، وقد تخصص عبره في المناظرة، وهي طريقة العلماء في ذلك الوقت.
يقول ابن سينا في الكتاب نفسه، إن أبا عبد الله علّمه المنطق والهندسة، وعندما رأى أنه قادر على اكتساب المعرفة، أمر والده بألا يجبره على أي شيء آخر غير اكتساب المعرفة، وأكد لابن سينا نفسه أيضاً ألا يختار أي عمل آخر غير أن يكون طالباً.
زمن ابن سينا... الهروب من السلطان محمود الغزنوي
أظهر ابن سينا عبقريةً كبيرةً عندما كان طفلاً، وفي شبابه أصبح أحد العلماء والأطباء المميزين في بلاط الأمير نوح السماني في بخارى. لكن حياته العلمية والفلسفية لم تخلُ من المصاعب، إذ رافقتها اضطرابات سياسية حادة. فمع تراجع السامانيين واقتراب خطر جيش السلطان محمود الغزنوي، انتقل ابن سينا من بخارى إلى خوارزم، ومن هناك لجأ إلى جرجان الواقعة حالياً في شمال إيران.
في ذلك الوقت، كانت الحكومة السامانية تضعف في إيران، وسيطر أبو القاسم محمود بن سَبكْتَكين المعروف بالسلطان محمود الغزنوي، تدريجياً على الحكام المحليين لإيران ووسّع نطاق سلطته. كان السلطان محمود أقوى سلاطين السلالة الغزنوية الإيرانية، بينما كان تركي الأصل، كما كان أول حاكم في أراضي الخلافة الإسلامية العباسية يطلق على نفسه لقب "سلطان" لإظهار استقلاله عن الخلافة، مع أن الخليفة لم يقبل له غير لقب الأمير.
في تلك الأثناء، وسّع السلطان محمود فتوحاته إلى غرب إيران وشمالها. وفي عام 1029، سار إلى الري، وخلع حاكمها مجد الدولة رستم الديلمي، وواصل هجماته إلى الشمال الغربي من إيران، وأصبح في نهاية المطاف أقوى حاكم. في ذاك الوقت المضطرب، أمضى ابن سينا بعض الوقت في الري (بالقرب من طهران حالياً)، وبعد ذلك أصبح وزيراً لشمس الدولة الديلمي في همدان. بعد وفاة الأمير سُجن ابن سينا، لكنه تمكن من الهرب من هناك، فذهب إلى والي أصفهان، وظل في خدمة بلاط حاكم أصفهان، حتى توفي في رحلة نحو همدان عن عمر يناهز السابعة والخمسين، ودُفن في مدينة همدان غرب إيران.
أبو العلوم الطبية وشيخ الفلسفة
النظام الفلسفي لابن سينا في ما يتعلق بالنظرة الإسلامية إلى العالم، هو مزيج من أهم العناصر الأساسية للفلسفة الأرسطية وبعض العناصر المحددة من النظرة الأفلاطونية المحدثة إلى العالم. كان ابن سينا من أتباع فلسفة أرسطو إلى حد كبير، وكان في هذا الصدد مشابهاً لأستاذه الفارابي. لكن ابن سينا كان كلما اقترب من نهاية حياته، يبتعد عن أرسطو ويقترب من أفلاطون وأفلوطين والتصوف، وقصصه المجازية وكتابه الضخم "منطق المشرقين" الذي ألّفه في آخر حياته، هو دليل على هذا الادعاء، ولسوء الحظ، لا تتوافر اليوم سوى مقدمة هذا الكتاب. لكن حتى في هذه المقدمة، ينتقد ابن سينا أعمال عصره المنتمية إلى الفلسفة الأرسطية، مثل "الشفاء" و"النجاة".
كانت لابن سينا ابتكارات كثيرة في الفلسفة ترك فيها أثراً عميقاً، خاصةً في مجالات علم النفس وعلم الكونيات؛ على سبيل المثال، قام لأول مرة بتقسيم الوجود إلى ثلاثة أقسام: واجب وممكن ومحرم، وعلى هذا التقسيم اقترح فئةً جديدةً للفلسفة. تأثر الفكر السياسي لابن سينا إلى حد كبير بأفلاطون، وكان يرى أن "التخطيط الجيد" واجب على جميع البشر، أما في التخطيط والسياسة الجيدة فإن أحق الناس بهما هم السلاطين الذين جعلهم الله مسؤولين عن شؤون عباده وتنظيم المدن والأراضي.
العملان الرئيسيان لابن سينا، أي كتابَي "الشفاء" و"القانون"، جعلاه عالماً لا يمكن الاستغناء عنه في الطب والعلوم الطبيعية والفلسفة في أوروبا، لا سيما منذ القرن الثاني عشر إلى القرن السادس عشر
من النقاط البارزة في حياة ابن سينا تفوقه في مجالات مختلفة عدة، من علم الكلام والفقه إلى الفلسفة والرياضيات والطب، وقد أدى نقل العلوم اليونانية من قبل المسلمين، ومن ثم ترجمة الأعمال العربية إلى اللاتينية، إلى أول نهضة علمية في جنوب أوروبا، وبدأت هذه النهضة في القرن العاشر في صقلية في إيطاليا، وسرعان ما وصلت إلى فرنسا.
في الحقيقة، العملان الرئيسيان المترجمان لابن سينا، أي كتابَي "الشفاء" و"القانون"، جعلاه عالماً لا يمكن الاستغناء عنه في الطب والعلوم الطبيعية والفلسفة في أوروبا، لا سيما منذ القرن الثاني عشر إلى القرن السادس عشر، حيث كانت الأسس العلمية والطبية في إيران وأوروبا هي تعاليم ابن سينا.
وقد تمت ترجمة كتاب "القانون" لابن سينا، بكامله إلى اللاتينية، على يد جيراردو الكريموني، بين عامي 1150 و1187، وتُرجم هذا الكتاب سبعاً وثمانين ترجمةً، وبالطبع لم يتضمن بعضها سوى جزء من هذا الكتاب، وكانت معظم الترجمات هذه إلى اللاتينية. كما أن هناك العديد من الترجمات إلى العبرية، وهي موجودة في إسبانيا وإيطاليا وجنوب فرنسا.
لم تكن ترجمات كتب ابن سينا الطبية جيدةً، مثل ترجمات كتبه الفلسفية، فكانت بعض الكلمات والعبارات الطبية غير مفهومة في الترجمات الغربية لأعماله. وظل كتاب "القانون" لابن سينا، يُدرَّس في أوروبا باعتباره أهم مصدر للعلوم الطبية حتى القرن السابع عشر. وحول هذا الكتاب كتب الشاعر البريطاني الشهير جيفري تشوسر، في مقدمة كتاب "حكايات كانتربري"، التالي: "لا يجوز لأي طبيب أن يهمل كتاب القانون".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين