بعد عودته إلى مصر منذ أكثر من عشر سنوات من الغربة والعمل في بلدان مختلفة، بدأ الدكتور هشام حجاج رحلة البحث عن مدينة يطلق فيها مشروعات زراعية يعزز من خلالها تجاربه بمجالات الاقتصاد المستدام والزراعة بدون تربة وغيرها من التقنيات الجديدة.
وفي زيارة مفاجئة لواحة سيوة، التي تتبع محافظة مطروح إدارياً، وجغرافياً هي جزء من الصحراء الغربية المصرية، أعجبته طبيعة الواحة، لا سيما كهوف الملح الطبيعية، التي رآها فرصة لأن تصبح مخازن صحية لتخزين المحاصيل الورقية دون تعرضها للتلف بسبب عوامل الرطوبة، كما لاحظ احتياج الأهالي إلى مشروعات زراعية تحقق لهم الاكتفاء الذاتي، ومن هنا بدأت رحلة مزارعه التي تتوسع وتتطور عاماً بعد آخر.
يُعتبر حجاج (66 عاماً)، المتخرج من كلية السياحة والفنادق بجامعة الإسكندرية عام 1977، أحد أبرز الناشطين المصريين في مجال الزراعة، حتى أن البعض يطلق عليه لقب "رائد الزراعة المائية في مصر"، لتنفيذه أقدم مزرعة أكوابونيك تعتمد تقنية الدمج بين الزراعة وتربية الأسماك لتقليل استخدام الأسمدة والمياه، وقد عمل لسنوات طويلة في مجال الاقتصاد الأخضر في العديد من الدول الأوروبية، وحصل على الدكتوراه في الاقتصاد وإدارة الأزمات من جامعة أكسفورد.
نظرت إلى سيوة بعين المستقبل ورأيت أنها بيئة خصبة للإنتاج الزراعي.
"عندما عدت إلى مصر كنت قد وصلت لحالة من الشبع النفسي من المغامرات، وبدأت أخطط للاستثمار المحلي وتنفيذ مشروعات تخدم الأهالي داخل القرى المصرية المهمشة، لذلك اخترت سيوة التي استقبلني أهلها بكل ود"، يقول الحجاج لرصيف22.
بدأ الحجاج وأفراد أسرته، التفكير في تنفيذ مشروعات تخدم الواحة، شرط أن تكون طويلة الأجل تتبع استراتيجية التنمية المستدامة ونشر فكرة الاكتفاء الذاتي، وتطوير تقنيات تخزين المحاصيل الزراعية بما يمكّن من استخدامها في غير مواعيد زراعتها: "نظرت إلى سيوة بعين المستقبل ورأيت أنها بيئة خصبة للإنتاج الزراعي والمشروعات السياحية. نقلت إليها أسرتي ومشاريعي الاستثمارية ووضعت فيها كل آمالي وأموالي". لكن الواحة التي تبعد عن القاهرة أكثر من 800 كيلومتر، فرضت على الرجل قوانينها البيئية الخاصة، ووضعت التغيراتُ المناخية فيها الكثيرَ من التحديات أمامه.
الزيتون أول التجارب
كانت زراعة أشجار الزيتون وتصنيع مشتقاته، أولى تجارب الأسرة، فتولت زوجته السيدة شادية باشا (63 عاماً)، والتي تخرجت من كلية التجارة في جامعة القاهرة، وعملت سابقاً مديرة لمكتب الشؤون القانونية لمحافظة الجيزة، وضعَ دراسة الجدوى للمشروع، وعلى مساحة 6 أفدنة، أي ما يعادل نحو 25 ألف كليومتر مربع، غُرست عشرات أشجار الزيتون الصغيرة بمعدل 60 شجرة في كل فدان.
تبعد مزرعة الزيتون عن المساكن العامرة بأهل سيوة مسافة 60 كيلومتر، ولمدة 3 أعوام من التجارب والصبر، أقرت العائلة بضرورة تكثيف الاستثمار، بعد أن درسوا نظرية التكثيف الزراعي التي تستجيب للنمو السكاني، وتعتمد على أساليب زراعية تزيد من كمية الإنتاج الزراعي في نفس المساحة من الأرض التي كانت تعطي إنتاجاً أقل قبل تطبيق النظرية.
أُدرك خطر التغير المناخي وألمسه في تأثيره على شجرة الزيتون وثمرتها وإنتاجها، وثمر النخيل والخضروات والفاكهة وخلية النحل في مزارعنا، لكنني أعمل كل ما بوسعي لحماية الأشجار من هذا الزحف الخطير
وقد سمح لهم تطبيق هذه النظرية، بزراعة 600 شجرة في الفدان بدلاً من 60 شجرة، كان رأس مال نجاح المشروع هو رعاية الشجرة من حيث التغذية والتسميد ومقاومة الآفات. يضيف حجاج: "هذه كانت التجربة الأولى للاستثمار في سيوة، كنت أشعر أنني مثل الشجرة، أتنفس جانبها وهي تنبت بجواري وتأخذ وقتها الكافي لكي تنتج ثمرتها، تحملت والأشجار الجفاف والحرارة وما كنا لنستعجل أبداً".
تخوف الحجاج، من انتشار بكتيريا الزيليلا في مزرعته بعد انتشارها في أمريكا الشمالية والجنوبية وبعض دول أوروبا مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، وتسببها في التدهور السريع لأشجار الزيتون، لأنه كان يزرع أشجاراً سلالتها مستوردة من الخارج، وهي الأكثر انتشاراً في السوق المصري المحلي، ما دعاه للتواصل مع الصندوق الدولي للتنمية الزراعية، لتزويده بالمعلومات حول الطرق الأنسب لرعاية الأشجار وحمايتها من الإصابة: "شعرت بالخوف لأنني كنت أرى الأصناف الأجنبية من بذور الزيتون بدأت تحتل مصر، وهي أصناف محاصيلها وأشجارها تضررت ومرضت في موطنها الأصلي".
تحديات الزراعة في سيوة
الأزمة المناخية التي أثرت على مزارع الزيتون في أوروبا وأدت إلى تقلص الإنتاج من الزيت، أوحت لآل حجاج بأن زيت الزيتون سيقابل عجزاً وأزمة قد تحدث خلال السنوات القادمة، ما دفعهم لتكثيف زراعته والتوسع في شراء الأراضي، لكن الواحة لم تستطع تجنب التغير المناخي، خاصة وأن مناخاً صحراوياً شديد الحرارة صيفاً وشديد البرودة شتاءً يسيطر عليها، وباتت تعاني في السنوات الأخيرة من تقلب درجات الحرارة والبرودة بشكل مفاجئ.
يقول الخبير في هذا الصدد: "منذ ثلاثة أعوام تغيرت درجات الحرارة بوضوح. الشتاء لم يعد يأتي كما اعتدنا عليه، وبهذا تأثرت أشجار الزيتون وانخفض الإنتاج، لأنها تحتاج قرابة 45 يوماً من البرودة على الأقل كي تزهر".
في الوقت نفسه، ظهرت في سيوة مشكلات تتنوع بين تملح التربة وزحف الكثبان الرملية، إلى جانب ارتفاع مستوى الصرف الزراعي، وزيادة مساحة السبخات، وهذا الاختلال في النظام البيئي أدى إلى تدهور إنتاج المحاصيل في الواحة كلها.
دعت هذه الأزمة آل حجاج للتفكير في العودة إلى زراعة الأصناف المحلية المصرية القديمة، كالزيتون الشملالي، الذي يبلغ إنتاج الطن منه نحو 250 كيلوغراماً من الزيت، إضافة إلى زيتون البيكوال والكاروتينا والكاروناكي وغيرها: "من خلال التجربة اكتشفت أن شجرة الزيتون المصرية تنتج زيتاً وثمرة أفضل من الأشجار المستوردة".
ويتابع: "أدرك خطر التغير المناخي وألمسه في تأثيره على شجرة الزيتون وثمرتها وإنتاجها، وثمر النخيل والخضروات والفاكهة وخلية النحل في مزارعنا، لكنني أعمل كل ما بوسعي لحماية الأشجار من هذا الزحف الخطير".
ومنعاً لتلف المنتجات المصنعة أو المجففة مثل المحاصيل الورقية وتعرضها للضرر بفعل العوامل المناخية، لجأ الخبير إلى استخدام أساليب أهل سيوة في التخزين، فهو يحفظ منتجاته داخل كهوف طبيعية مكونة من الملح والطين، وبدورها تساعد في حفظ درجة الحرارة ثابتة وتمتص الرطوبة من الجو، وبالتالي لا يحدث تعفن للمنتجات أو تسوس.
تدريبات للنساء
قدم الصندوق الدولي للتنمية الزراعية "إيفاد" عام 2014، منحة لتعليم النساء المعيلات وذوات الإعاقة، الزراعةَ المنزلية، بالتعاون مع مزرعة الحجاج، نظراً إلى نشاطهم التطوعي والخدمي السابق في إعداد ورش لتدريب الشباب على الزراعة الحديثة. وركزت الدورات التدريبية على تعليم الأهالي ضرورةَ تحقيق الاكتفاء الذاتي، بالاعتماد على زراعة المحاصيل الدائمة القابلة للتخزين، التي تستعمل بعد القطف مباشرة أو بعد تجفيفها، مثل الملوخية والنعناع والريحان والكركديه، وتعليم الأهالي الفرقَ بين النباتات ومواعيد زراعتها ومواعيد حصادها. استغرقت فترة التدريب ثلاثة أشهر، ثم انطلق المشروع من سيوة ليشمل 11 محافظة أخرى.
كانت مسؤولية تدريب النساء القرويات في سيوة على تنفيذ الصوب الزراعية المنزلية والزراعة المنزلية من مهام السيدة شادية، وقد تلقت مع العمال دورات تدريبات مكثفة على استخدام أجهزة قياس الملوحة في التربة وأجهزة الري، وتقول لرصيف22: "أستعين بأجهزة تفتح ذاتياً لريّ الأرض، وحساسات تقيس نسبة الرطوبة، فإن كانت عالية تتوقف تلقائياً، إلى جانب أجهزة تقيس نسبة القلوية".
من المزرعة إلى المستهلك
لا تقف مشروعات حجاج عند زراعة الزيتون وعصره واستخراج الزيوت منه، إنه يجد سعادة كبيرة حينما يجلس بجوار زوجته لمشاركتها في صناعة مخلل الزيتون، وحتى الهريسة التي تصنعها من الفلفل الأحمر الحار، وبالرغم من وجود نحو 14 عامل في مزارعهم المختلفة إلا أنهم عائلة تشاركية، يزرعون ويحصدون ويعبئون ويغلفون معاً.
منعاً لتلف المنتجات المصنعة أو المجففة وتعرضها للضرر بفعل العوامل المناخية، لجأ الخبير إلى استخدام أساليب أهل سيوة في التخزين، فهو يحفظ منتجاته داخل كهوف طبيعية مكونة من الملح والطين، وبدورها تساعد في حفظ درجة الحرارة ثابتة وتمتص الرطوبة من الجو
ومع كون الواحة شهيرةً بإنتاج التمور والخضروات والفاكهة، أطلق حجاج أيضاً مشروعاً لتجفيف الفاكهة والنباتات العطرية والطبية، من خلال تشغيل عدد من العمال والعاملات في بيوتهم واستهداف الأسر الأكثر احتياجاً والسيدات المعيلات بهدف توفير مصدر دخل لهن، ويتم تأهيل هذه الأسر وتدريبها على عمليات التجفيف والتعبئة باستخدام وحدات تجفيف مصغرة، وتشمل الأنواع المستهدفة التمور والتين والمشمش والكمثري وغيرها.
ويشرح الخبير: "نشتري المنتجات المجففة من الأسر لنوزعها داخل الأسواق والمحال التجارية والعطارات، وسبب تخطيطنا لهذا المشروع هو عدم وجود حركة تجارية جيدة تستوعب إنتاج الواحة من الفاكهة ما يعرضها للتلف ويجلب الخسائر للمزارعين".
كما تخطط العائلة للبدء في تنفيذ مشروع مجمع سياحي في سيوة، هدفه نشر فكرة "التخييم" على سواحل الواحة، لإنعاشها اقتصادياً كوجهة سياحية وتوفير فرص عمل للأهالي.
ويمتنع حجاج عن توريد منتجات مزارعه للتجار، منعاً للاستغلال وبهدف خلق علاقة خاصة بينه وبين المستهلك عنوانها "من المزرعة إلى المستهلك مباشرة"، فهو يبيع المنتجات من زيت الزيتون والزيتون المخلل والتمور المجففة والعسل وغيرها عبر موقع مزرعته الرسمي وصفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.