لا شك في أن عالمنا يواجه اليوم الكثير من التحديات البيئية، كالاحتباس الحراري وارتفاع نسب التلوث والانبعاثات الكربونية، وأزمات نقص المياه والغذاء في ظل تلف المحاصيل ومشكلات التربة. لذا يعتقد كثير من خبراء الزراعة والبيئة أنه من الضروري الاعتماد على الزراعة المائية، بدلاً من أساليب الزراعة التقليدية، بسبب قدرتها على مواجهة التحديات الراهنة والحفاظ على الثروة المائية وتحقيق الأمن الغذائي، وهو ما سيُشكّل فارقاً في المستقبل.
وتُعرّف الزراعة المائية (أو الهيدروبونك)، بأنها تقنية تسمح بالزارعة من دون تربة، وإنما باستخدام محاليل مغذية فقط، تزوّد النبات مباشرةً بالمغذيات وترطبه، مع وجود حلول بديلة تكميلية للاستعاضة عن ضوء الشمس، وتتم اليوم بشكل أساسي ضمن بيوت بلاستيكية.
مؤخراً، عرفت الزراعة المائية طريقها إلى كثير من أسطح المنازل والأراضي في مصر.
ومؤخراً، عرفت الزراعة المائية طريقها إلى كثير من أسطح المنازل والأراضي في مصر، وحازت على اهتمام عدد من خريجي كليات الزراعة والشباب المهتمين بزراعة الأسطح والباحثين عن حلول اقتصادية مبتكرة لمواجهة البطالة وتوفير الاحتياجات الغذائية لعائلاتهم.
"حان الوقت للتغيير"
من بين هؤلاء الشباب، بشير أحمد، خريج كلية الزراعة، الذي يرى أن الزراعة المائية هي مستقبل الزراعة المصرية النظيفة، وأنه نجح في تحقيق حلمه بعمل مزرعة "فراولة" نظيفة، بنظام الهيدروبونك على طريق القاهرة-الإسكندرية الصحراوي، مستعيناً بخبرات أستاذه الجامعي الدكتور ياسر عبد الحكيم، استشاري الزراعات المحمية والمائية والزراعة من دون تربة.
ولم يكن نجاح بشير وليد الصدفة، وهو الذي قضى سنوات في زراعة أسطح المنازل بالنظم الحديثة، إذ زرع الخضروات الورقية على السطح بنظام المراقد الخشبية، بجانب زراعة الباذنجان الأبيض بنظام التربة الرأسية أو العامودية، واستخدام نظام الهيدروبونك في زراعة النعناع والفراولة والطماطم والبرتقال واليوسفي.
ويُشجّع مصطفى السيد، وهو مهندس زراعي مصري، غيره من الشباب على خوض تجربة الزراعة المائية فوق أسطح المنازل، مشيداً بفوائدها المتمثلة في توفير بيئة معقمة جيداً، وعدم احتياجها إلى أي كيماويات أو مبيدات، كما أنها تحتاج إلى قرابة 20% من مساحة الأرض التي تُخصَّص عادةً للزراعة التقليدية، وإلى مجهود أقل، ومن السهل الحصول على تحكم كامل في توازن العناصر الغذائية، كما أن معدل نمو المحاصيل فيها أسرع. ويضيف لرصيف22: "لم يعد الزمان صالحاً للإبقاء على كل أفكار الزراعة التقليدية، سواء للحفاظ على مواردنا المائية، أو للحفاظ على البيئة والصحة".
من مشاريع الزراعة المائية في مصر - خاص رصيف22
خلق فرص عمل جديدة
من جهته، يؤكد المهندس أحمد جابر صيام، الباحث الزراعي ومؤسس مبادرة "سطح أخضر"، لرصيف22، أن الزراعة المائية أصبحت الآن بمثابة مشاريع للعديد من المصريين يمكنها تحقيق عائد مادي واكتفاء ذاتي لهم، ويمكن لربّات البيوت إنتاج وتسويق منتجات الزراعة المائية بأسعار أعلى من منتجات الزراعة التقليدية، نظراً إلى كونها آمنةً وصحيةً وخاليةً من أي مبيدات أو كيماويات، كما أن هناك شركات أنشئت خصيصاً لجمع هذه المحاصيل العضوية وتسويقها.
وحول كيفية تنفيذ الزراعة المائية على الأسطح، يشرح المهندس الزراعي، الذي درّب أكثر من 500 شخص على زراعة الأسطح والزراعة المتطورة من دون تربة، قائلاً: "نستخدم أنظمةً حديثةً للزراعة من دون تربة، ونحاول عدم هدر نقطة مياه واحدة على الأسطح، من خلال شبكات الري والصرف التي نركّبها، والتي تدور فيها المياه دورةً مغلقةً، والكميات الزائدة عن حاجة النباتات يعاد استخدامها مرةً أخرى، كما نستخدم بدائل للتربة لا تكون ثقيلةً ولا تسبب أحمالاً زائدةً على الأسطح، فلا نضطر إلى عزلها".
بعض الدول ومنها مصر تعاني من قلة المياه ونقص الأراضي الزراعية الخصبة، ويمكن للزراعة المائية المساهمة في حل هذه المشكلة عبر إنتاج كميات كبيرة من الغذاء ضمن مساحات محددة وباستخدام القليل من الماء
ويشدد الباحث الزراعي على أن الزراعة المائية ستزيد العنصر الأخضر، وهو بمثابة الرئة التي تنقّي الجو من الغازات الضارة، بالإضافة إلى إنتاج الأكسجين ومساهمته في خفض درجات الحرارة، زيادةً على تقليل الضوضاء ودرجة الحرارة داخل المدن والتغلب على ما يُعرف بمصطلح "الجزيرة الدافئة"، حيث تكون درجات الحرارة آخر اليوم داخل المدن أعلى منها خارجها، بسبب الإسفلت ومواد البناء التي تمتص الحرارة على مدار اليوم، وتتخلص منها في النهاية ولكن على فترات طويلة.
وحول مبادرة "سطح أخضر"، وهي مبادرة شبابية تهدف إلى زراعة أسطح المنازل بأنظمة الزراعة المائية، يقول صيام: "جاءتنا فكرة أن يكون السطح عوضاً عن الفراغ المفتوح ونقص المسطحات الخضراء التي لم يعد بالإمكان توفيرها، إما لأسباب اقتصادية أو لأسباب أخرى، وكان هدف المبادرة الأول بيئياً، بجانب تحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية التي تحتاج إليها أي أسرة، وإنتاج غذاء آمن وصحي وخالٍ من المبيدات".
ويلفت إلى أن المبادرة بدأت من قلب القاهرة، وانتشرت بشكل واسع جداً في المحافظات المجاورة وبعض الدول العربية، من خلال خلق نماذج مصغرة منها في كل مكان، وتنظيم ورش تدريبية مجانية افتراضية لتعليم أساسيات الزراعة من الصفر، وحتى الوصول إلى أحدث نظم الزراعة من دون تربة وإلى الزراعة المائية، ومن يتعلم يصبح قادراً على نقل الفكرة لمن حوله ويساهم في تدريبهم ومساعدتهم أيضاً.
من مشاريع الزراعة المائية في مصر - خاص رصيف22
مواجهة الفقر المائي ونقص الأراضي الخصبة
يوضح خبير أنظمة زراعة الأسطح والهيدروبونيك المهندس الزراعي الشاب محمود خليل، أن بعض الدول ومنها مصر تعاني من قلة المياه ونقص الأراضي الزراعية الخصبة، ويمكن للزراعة المائية المساهمة في حل هذه المشكلة عبر إنتاج كميات كبيرة من الغذاء ضمن مساحات محددة وباستخدام القليل من الماء.
ويضيف خليل لرصيف22، أن هذه التقنية تصبح مفيدةً للغاية في حالات وجود أرض بور غير صالحة للزراعة، أو فيها نسبة أملاح مرتفعة، كما تفيد في حالات ضيق المساحة، مشيراً إلى أن العائد المادي من الإنتاج يكون مجزياً ويعوّض التكاليف العالية لتركيب أنظمة الزراعة المائية، كما أنها توفر الأسمدة والمبيدات والأيدي العاملة، موضحاً أن تلك التقنية تعتمد على زراعة الشتلات في محلول مائي مغذٍ يحتوي على العناصر الغذائية التي يحتاجها النبات، وهي تحمي النباتات من الآفات الزراعية.
من الضروري أن يتناسب النظام مع الكميات المائية المطلوبة، والاعتماد على أسلوب الري بالتنقيط.
وينصح خليل غيره من الشباب بعمل مشروع الزراعة المائية لأسطح المنازل، لكونه مشروعاً اقتصادياً مثمراً، مشيراً إلى أنه وزملاءه زرعوا 150 خسّةً في مساحة متر مربع فقط، على عكس الزراعة التقليدية التي لا يُزرع فيها أكثر من 12 نبتةً داخل تلك المساحة، واستغرقت دورة الإنتاج مدةً أقل من نظيرتها في الزراعة التقليدية، مشيراً إلى وجود تصميمات مختلفة، منها التصميم الهرمي أو الأحواض المائية والتي يمكن استخدامها في إنتاج نحو 60 ألف حبة فراولة، وتصميم "داتش باكيت" الذي يُستخدم في زراعة الفلفل والخيار والطماطم، ونظام الزراعة الرأسية، ونظام "سيمي هيدروبونيك" الذي يجمع بين جزء من التربة البديلة والماء.
نقاط جديرة بالاهتمام
يرى الدكتور أشرف عمران، أستاذ علوم التربة والمياه وخبير الزراعات المائية ورئيس المجلس العربي للأمن المائي والغذائي، أن تجارب الزراعة المائية لأسطح المنازل يقتصر إنتاجها على توفير احتياجات الأسرة المنتجة من المحاصيل الأساسية، وما يفيض يمكن توزيعه على الأقارب والمعارف.
من مشاريع الزراعة المائية على أسطح المدارس في مصر - خاص رصيف22
ويضيف لرصيف22: "يمكن تحويل هذه التجارب إلى مشروع اقتصادي ناجح عبر الاستفادة من أسطح المجمعات السكنية، وتوحيد نوع النبات الذي تجري زراعته لتتم الاستفادة من المحصول عبر بيعه في الأسواق المحلية أو تصديره إلى الأسواق العالمية، وإخضاع التجربة لإشراف جهة متخصصة أو شركة معنية بالزراعة المائية، لتوفير الدعم الفني والإشراف العلمي، مما يدرّ عائداً مادياً كبيراً على الأسر، ويوفر مصدراً للأمن الغذائي، بجانب تخصيص مساحة لزراعة ما تحتاجه الأسر، وتغيير الثقافة بحيث يصبح الفرد شريكاً في حل الأزمة الاقتصادية"، ويشير إلى أهمية التجارب في دولتي الكويت وسنغافورة في هذا الشأن.
وينوّه خبير الزراعات المائية بأن المحاصيل الناتجة عن هذه الطريقة للزراعة هي أكثر أماناً وأقل تلوثاً، لكن العملية يجب أن تخضع للدعم الفني، لافتاً إلى أنها تحدّ من إهدار 85% من المياه والسماد، وتمتص ثاني أكسيد الكربون من الهواء، مشدداً على أن الزراعة المائية هي مستقبل توافر الغذاء والأعلاف والخضروات والفواكه.
نستخدم أنظمةً حديثةً للزراعة من دون تربة، ونحاول عدم هدر نقطة مياه واحدة على الأسطح، من خلال شبكات الري والصرف التي نركّبها، والتي تدور فيها المياه دورةً مغلقةً، والكميات الزائدة عن حاجة النباتات يعاد استخدامها مرةً أخرى
من جهته، يشيد فؤاد مجاهد، وكيل وزارة البيئة المصرية والمستشار الإعلامي للوزارة، في حديثه إلى رصيف22، بتجارب الزراعة المائية لأسطح المنازل ودورها في الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري الناجمة عن عوادم المصانع واحتراق الوقود الأحفوري، وامتصاص بعض الغازات الضارة وإفراز الأكسجين، بجانب توفير جزء من الاحتياجات الغذائية للأسر.
في الوقت ذاته، يحذر مجاهد من خطورة وجود مشكلة في أنظمة الري وتسريب المياه إلى الأسطح، مما يضرّ بالثروة العقارية ويهدد سلامة السكان، مؤكداً ضرورة أن يتناسب النظام مع الكميات المائية المطلوبة، والاعتماد على أسلوب الري بالتنقيط كي لا تزيد كمية المياه عن احتياجات النباتات، ويتم إهدارها والإضرار بالأسطح.
ويشير مجاهد إلى أن أفضل المحاصيل التي يمكن زراعتها بتلك الطريقة هي الطماطم والخيار والباذنجان والجرجير والبقدونس والشبت، مؤكداً أن زراعة الأسطح تساهم بفاعلية في مواجهة مشكلة تآكل الرقعة الزراعية وتجنب إهدار المياه الذي تسببه طرق الزراعة التقليدية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...