كان القرن العاشر الميلادي، قرن نهضة العلم والمعرفة في إيران. فيه ظهر أربعة من العلماء والحكماء البارزين خلال فترة زمنية قصيرة، وكان لكل منهم أثر تاريخي في العلوم والفلسفة والعرفان، وهم: ابن سينا وأبو الريحان البيروني والفردوسي وزكريا الرازي.
تتناول هذه المادة، حياة زكريا الرازي وأفكاره، وهو الرجل الذي يُعدّ نواة عصر التنوير في التاريخ الإيراني، إذ أسس الفلسفة الوضعية مستنداً إلى الفلسفة التجريبية والعقلانية، وذلك قبل ستة قرون من الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون، الذي يُعدّ مؤسس فلسفة "الملاحظة والتجريب" في أوروبا.
بيكون والرازي... مؤسسا الفلسفة الوضعية
فرانسيس بيكون (1561-1626)، فيلسوف وسياسي وعالم وكاتب بريطاني. يعدّه كثيرون أحد مؤسسي الثورة العلمية في أوروبا، كما ينسبون نهاية هيمنة الكنيسة والأيديولوجيات الدينية إلى أفكاره، ويُطلَق عليه "أبو التجريبية" أو الوضعية، إذ يعتقد بيكون أن "العلم يسيطر على الإنسان والعالم ولا يمكن السيطرة على الطبيعة إلا إذا تعلمنا قوانينها".
يُعدّ زكريا الرازي وأفكاره، الرجل الذي نواة عصر التنوير في التاريخ الإيراني، إذ أسس الفلسفة الوضعية مستنداً إلى الفلسفة التجريبية والعقلانية، وذلك قبل ستة قرون من الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون
من وجهة نظر بيكون، فإن الطريق إلى معرفة العالم تكون من خلال التجربة، وليس من خلال الأيديولوجيات والأساطير الدينية، وتصوّرنا للحقيقة يكون بالقدر الذي تسمح به ملاحظاتنا وما هو خارج نطاق ملاحظاتنا، ليس فقط أنه لا نستطيع معرفته بل حتى أننا لا نستحق أن نعرفه. ووفق اعتقاده، العقل البشري هو المسؤول عن إيجاد العلاقات في المادة من خلال الملاحظة والتجربة، ولا فرق بين العلم والعمل والملاحظة.
والطريقة التي يقترحها لرؤية العالم المحيط بنا وفهمه بشكل أفضل، هي كالتالي: "احفظ عقلك بعيداً عن الخداع، وذلك باكتساب معرفة تصنيف المادة على أساس قيمتها وصلاحيتها". ولتحقيق هذا الفهم، يجب علينا أن نطلق العنان للأصنام التي تسيطر على عقولنا.
لكن بالنسبة لأولئك الذين كانوا على دراية بأفكار زكريا الرازي، فلم تكن نظرية بيكون جديدةً عليهم، إذ رأى الرازي (865-925)، أن العقل كافٍ للوصول إلى الحقيقة، والإنسان الذي يمتلك قوة العقل، لا يحتاج إلى الوحي ويمكنه أن يجد المعرفة عن الله بنفسه. إنكار ضرورة النبوّة من قبل الرازي، أدى إلى انتقاده بشدة من قبل الفلاسفة المسلمين. بتأكيده على التجربة لم ينتقد الرازي الفلسفة الإسلامية وحسب، بل حتى الفلاسفة اليونانيين الكبار؛ مثلاً أرسطو وأفلاطون كانا عرضةً لانتقاده.
برغم أن الرازي كان منكراً للأديان، إلا أنه أكد كثيراً على الأخلاق والابتعاد عن الأمور المادية، إذ رأى أن الرغبات الدنيوية تعيق التفكر والتعقل، ويمكنها أن تقلل من قوة الحجة وإمكانية التحقيق. وفي اعتقاده أن الفيلسوف الحقيقي يجب أن يتغلب على مثل هذه الرغبات. ومن مميزات الرازي أنه لم يبنِ فلسفته على الثقافتين اليونانية والإسلامية السائدتين آنذاك، بل أسس فلسفته متأثراً بالفلسفات الإيرانية والبابلية والهندية.
والسؤال الفلسفي الذي كان يطرحه باستمرار، هو: "إذا كان الله هو خالق العالم، فلماذا لم يخلق العالم قبل أن يخلق العالم؟". هذا السؤال جاء من مبدأ أن الرازي أنكر النبوة وانتقد تعاليم الأديان بوضوح في مؤلفاته وأبرزها "في النبوّات (نقض الأدیان)"، و"في حِیَل المُتنبّین (مَخاریق الأنبیاء)" الواردان في قائمة مؤلفاته، أو في ما رواه عنه معاصروه. وهذان الكتابان كأكثر أعمال الرازي، غير متوفرين الآن، إذ يبدو أنهما قد أُتلفا كغيرهما، في العصر الإسلامي، بسبب مواضيعهما الإلحادية.
برغم أن الرازي كان منكراً للأديان، إلا أنه أكد كثيراً على الأخلاق والابتعاد عن الأمور المادية، إذ رأى أن الرغبات الدنيوية تعيق التفكر والتعقل، ويمكنها أن تقلل من قوة الحجة وإمكانية التحقيق.
لم يُسجن الرازي أو يُعدم بسبب آرائه المعادية للدين، لكن كتاباته التي كانت ضد الدين خضعت للرقابة ودُمّرت. ويعتقد بعض الباحثين أن أفكار الرازي هذه، أثارت غضب علماء الإسلام عليه، فوصفوه بالملحد ورفضوا مؤلفاته وبدأوا بتدميرها، وحول هذا، كتب الفيلسوف الإيراني أبو حاتم الرازي في كتابه "أعلام النبوّة"، أن "هذا الملحد، بعقله المعيوب وضعف نفسه يكتب في إنكار النبوة".
وهناك أشخاص آخرون انتقدوا الرازي بشدة، منهم العالم والرحالة الإيراني الإسماعيلي ناصر خسرو، الذي وصف الرازي بالجاهل، وقال إن كلامه خرافات وأوهام. كما يقول عنه العالم والفقيه السنّي ابن قيم الجوزية: "الرازي اختار شرّ الأمور من كل دين، وألّف كتاباً في بطلان النبوّة والقيامة، ولقد خلق ديناً يتألف من جميع معتقدات زنادقة العالم".
ومن وجهة نظر الرازي، فإن مقتضيات حكمة الله ورحمته، هي أن يدرك الناس منافعهم ومضارهم، فالتفوق يسبب الحرب والعداوة وفي نهاية المطاف تدمير البشر، وهو ما لا يتوافق مع حكمة الله ورحمته.
الخيميائي والطبيب
وبحسب البيروني، فإن زكريا الرازي وُلد في شعبان 251 هجرية (أي 865 ميلادي)، في مدينة ري (طهران اليوم)، وقضى طفولته ومراهقته وشبابه فيها، ومن المعروف أن الرازي كان يعزف على العود في شبابه وكان يكتب الشعر أحياناً، وتحول في ما بعد إلى صياغة الذهب ثم إلى الكيمياء.
والمصادر الرئيسية للخيمياء عند الرازي هي أعمال جابر بن حيان، وذلك على الرغم من بعض الاختلافات الجوهرية بينهما، وقد أطلق الرازي على جابر لقب رائد هذا العلم وأستاذه، مع أنه لم يكن تلميذه المباشر. ويرى أبو ريحان البيروني أن زكريا الرازي كان يمارس الكيمياء في البداية، وبعد أن تضررت عيناه بسبب العمل بالمواد النفاذة، اتجه إلى مجال الطب لعلاج عينيه، وجاء في كتب المؤرخين الإسلاميين أن الرازي تعلّم الطب في مستشفى بغداد، حيث سافر إلى هناك لدراسة الطب، وبعد فترة برز في هذا المجال، وتطور حتى تولى رئاسة مستشفى المعتضد في بغداد.
على عكس العديد من الأطباء الذين كانوا أكثر استعداداً لعلاج الملوك والأمراء والنبلاء للحصول على المزيد من المال، كان الرازي يتعامل مع عامة الناس أكثر من هؤلاء، وفي رأيه أن على الطبيب أن يتمتع بصفات خاصة
بعد وفاة الخليفة العباسي المعتضد، عاد الرازي إلى ري، وأصبح رئيساً لمستشفاها، وانشغل فيه بعلاج المرضى حتى أصيب بالعمى في نهاية حياته. تتعدد الروايات حول سبب إصابته بالعمى، ويرى البيروني أن سبب عمى الرازي هو العمل المستمر بالمواد الكيميائية مثل بخار الزئبق، لا سيما أنه يُعدّ أول من استخدم معرفته ومهارته الكيميائية في الطب، وبذلك فتح الطريق إلى علم الصيدلة المتقدم بأبحاثه التطبيقية. توفي الرازي عام 313 هجري (أي 925 ميلادي) في مسقط رأسه، ولا يزال الموقع الأصلي لقبره مجهولاً حتى يومنا هذا.
أخلاقيات الطب
على عكس العديد من الأطباء الذين كانوا أكثر استعداداً لعلاج الملوك والأمراء والنبلاء للحصول على المزيد من المال، كان الرازي يتعامل مع عامة الناس أكثر من هؤلاء، وفي رأيه أن على الطبيب أن يتمتع بصفات خاصة، إذ يؤكد على العديد من السمات الشخصية التي يجب أن يتمتع بها الطبيب حتى يكون جديراً بممارسة الطب، فـ"الحشمة والدقة والمظهر الأنيق والسلوك والسرّية والمتابعة والامتناع عن تضييع الوقت في أعمال غير مجدية وعدم الاهتمام بالأشياء المادية وعدم استخدام الطب كعمل تجاري ووسيلة لجمع الثروة والتمتع بثقة بالنفس واحترام المريض"، من صفات الطبيب الجيد من وجهة نظره.
وكان الرازي يُلزم نفسه بمراعاة الأخلاق والدقة والشعور بالجدية تجاه المرضى في كل علاج، إذ كان يشدد على أنه لا ينبغي وصف مسكنات الألم قبل تحديد سبب الألم، بينما يجب تحديد السبب واتخاذ الإجراءات اللازمة لإزالته، وحول هذا الأمر يشير الرازي إلى أنه في بعض الحالات، عالج الأطباء آلام العين بالأفيون أو بأدوية أخرى أدت إلى العمى، ومن هذا المنطلق حثّ على عدم الإفراط في استخدام بعض الأدوية التي تبدو مفيدةً، لكنها قد تؤدي إلى آثار جانبية خطيرة ومميتة.
يقول المؤرخ وكاتب السير ابن النديم البغدادي، في كتابه "الفهرست"، إن "الرازي كان طيباً ومهتماً بالجميع، خاصةً الفقراء والمرضى، وكان يستفسر عن أحوالهم ويزورهم، ويعتني بهم باستمرار". وفي الكتاب نفسه، عدّد ابن النديم مؤلفات الرازي فبلغت 167 مجلداً. واليوم، في مدن مختلفة من إيران مستشفيات كبيرة تحمل اسم "الرازي" تكريماً لهذا العالم والطبيب الملّحد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع