ذكراي الأولى مع الشعائر الشيعية كانت عندما دعتنا جارتنا إلى بيتها. كان ذلك عام 2000 أو 2001. في ذلك الوقت، كان نظام صدام حسين يمنع الشيعة من إقامة شعائرهم بحرية، لذلك جاءتنا الدعوة مع ابنة جارتنا الصغيرة: "خالة، ماما تقول تعالي مسوين قعدة باجر".
لبست أمي طقماً أحمر كان الأرقى عندها للذهاب إلى "القعدة". أرادت ترك انطباع جيد أمام صديقات جارتها، لذلك تأنقت ووضعت المكياج. عندما وصلنا لم تعلّق السيدة صاحبة المنزل، وأدخلت أمي إلى صالونها. رأينا نساء يرتدين الأسود ويبكين ويلطمن وجوههن ويردّدن: "يا عباس هجرك هضمنا، يا عباس حرقوا خيمنا". أدركت أمي حينها أن هذه ليست "قعدة نسوان"، وإنما إحياء ذكرى استشهاد العبّاس، في السابع من محرّم.
خرجت أمي بسرعة إلى المطبخ ونادت الجارة "أم محمد" التي كانت قد لحقت بها وهي تضحك. شرحت أمي كيف أنها لم تفهم ما يحدث، واعتذرت عن ألوان ثيابها، وتركتني في المكان لتعود بدون مكياج وبجلابية سوداء "كما يجب أن يكون، احتراماً للطقس".
تشاركنا الطقس وحفظنا لطميات نردّدها حتى الآن. بعدها في العاشر من محرّم، ذهبت وأخي، مثل كل أطفال الحي، لأخذ التمّن والقيمة (الرز ومرق القيمة النجفي) ثواب الحسين من عند الجارة. تكرّر الطقس وأكلنا الثواب. بعد الحرب، هاجرت جارتنا ثم هاجرنا نحن.
أحكي هذه القصة لأصدقائي كقصة كوميدية وليست عاطفية عن الإخاء: "فاتت أمي عاللطمية لابسة أحمر وحاطة مكياج وطلعت ركض". اليوم أشعر أنها لم تعد قصة كوميدية، لا أعرف ماذا سأصنّفها، لأنني أخجل من كل تلك الحكايات عن الإخاء الطائفي والتعايش الذي يبدو اليوم كأسطورة.
تشاركنا الطقس وحفظنا لطميات نردّدها حتى الآن. بعدها في العاشر من محرّم، ذهبت وأخي، مثل كل أطفال الحي، لأخذ التمّن والقيمة (الرز ومرق القيمة النجفي) ثواب الحسين من عند الجارة. بعد الحرب، هاجرت جارتنا ثم هاجرنا نحن
منذ عدّة أيام نشرت صديقة لي صورتها وهي ترتدي ثياباً ملوّنة، الألوان المعتادة التي تحب ارتدائها، الأحمر والأصفر والأخضر، بطريقة بوهيمية، وعلى غير العادة، نشرتها "ستوري كلوس فريندز" في إنستغرام. ومن عدة منشورات أخرى عرفت أن الكثيرين في أيام محرّم يخافون الخروج بثياب مبهرجة، أو نشر أغنية، أو التعبير عن السعادة. وصل الأمر لتخوين قناة "دجلة" الفضائية، واتهامها بالعمالة لـ "الله أعلم لمنو" أو "الشماتة بالحسين".
بدأت ذكرياتي الخاصة بالتشوّش. لم أصدق يوماً عدم وجود الطائفية في العراق قبل الحرب، لا في العراق ولا في أي مكان، لكن ما أصدقه هو أن صدام حسين قمع الشيعة والأكراد، وقمعه لم يكن هو السبب في العلاقات السلمية، أظن أنه العكس تماماً، هو من صنع هذه القنبلة.
قد لا تقبل جارتنا بأن أتزوج ابنها لاختلاف الطوائف، لكنها ضحكت من أمي ولم تغضب، وسعدت وهي تصبّ لنا "القيمة" ونحن نرتدي ثيابنا الملونة. كانت سعيدة بأن تطعمنا ثواباً للحسين.
أين ذهب كل هذا؟
منذ السابع من محرّم وأنا متوترة. تخبرني صديقتي في العراق أن أقاربها يعتبرونها كافرة لأنها لا ترتدي الأسود. تضع أقراطاً شرقية بديعة مع قميص أبيض وجينز، على العكس من صديقة "الكلوس فرندز"، تتحدّى مريم الجميع وتنشر صورها على العام، حيث يراها الجميع على حساب مفتوح في إنستغرام. قالت لي إنها معتادة على الشتائم، وأن الأمر لا يقتصر على محرّم. تصلها أحياناً رسائل تهديد لأنها دخلت مدينة الصدر بفستان، وأحياناً أخرى لأنها تنشر الكثير من المنشورات عن الميليشيات، لذا فإن شتائم متعلّقة بعدم ارتدائها للأسود لا تزعجها.
أتساءل: هل عليهن المرور بكل هذا؟ هل يتوجب على فتاة عدم ارتداء ملابس ملونة خوفاً من تكفيرها، أو اتهامها بالشماتة في حال كانت من طائفة أخرى؟ تجوز مثل هذه الأسئلة على الشباب أيضاً.
وأتساءل أكثر وأنا أكتب: هل عليّ أن أوضّح للقراء أن هذا المقال لا يتهم طائفة معينة بل يستنكر "التشبيح"، وأردف هذا مع جملة مثل "أحد أصدقائي المقرّبين من مدينة الصدر وأحب سماع حكاياته الحميمية عن المنطقة"؟
لقد فعلتها، قمت بالتبرير، لأني سأتهم بشيء ما حتماً، وسيتم اتهام هذه المنصة بمحاولة إثارة النعرات الطائفية في العراق، وسأضحك وأقول: إثارتها؟ إنها مثارة منذ زمن، حتى إني أتمنى لو أعطيها أدوية نفسية بآثار جانبية تمنع الإثارة.
على وسائل التواصل الاجتماعي يبدو وكأننا نعيش داخل غسالة ملابس؛ افصل الملوّن عن الأبيض، وافصل الأسود كذلك عن غيره، كي لا تفسد الثياب
في الحقيقة لا، لن أضحك. سأخاف، وسأتخيل أهلي وأصدقائي يقفون في طابورين: طابور الكفرة والشامتين، وطابور المؤمنين. طابور المؤمنين نفسه يتعرّض للمحاكمة اليوم، وأعتقد أن هذه نقطة إيجابية، نقطة إيجابية لم تكتمل.
هاجم شبان في اليومين الأخيرين طبيباً في أحد مشافي العراق، وكان المهاجمون يرتدون الأسود بالكامل. التعليقات تحدّثت عن النفاق، وكيف يستغل هؤلاء اسم الحسين والثياب السوداء كغطاء لأفعالهم الإجرامية. ينطبق هذا على رجال العصابات والمليشيات واللصوص. الناس يعرفون، ومع هذه المعرفة يتهمون الآخرين، فهل هذه نقطة إيجابية حقاً؟
يبدو لي العراق، تحت طقس ديني إلزامي، أربعين يوماً تحدّد فيها الألوان ماهيتنا، تختلف فقط درجة كل لون (منافق أو متدين حقيقي)، (شامت وخائن أو كافر.. أو أهبل)
في العام الماضي، صادف موعد تجديد جواز سفري في محرّم. العشرات يملأون مقاعد الانتظار، يرتدون ثياباً مختلفة، سوداء بالكامل، ثياب ملونة عادية، عباءات رأس تقليدية، ثياب قصيرة. بعد فترة من الانتظار بدأوا يحادثون بعضهم البعض. لم تكن الألوان تنفصل، كان أمراً عادياً.
على وسائل التواصل الاجتماعي يبدو وكأننا نعيش داخل غسالة ملابس؛ افصل الملون عن الأبيض، وافصل الأسود كذلك عن غيره، كي لا تفسد الثياب.
يخيفني أن أعود وتهاجم أمي لارتدائها الأحمر عن طريق الخطأ، أخاف ألا يضحك أحد من براءتها، يخيفني ألا تعود القصة مضحكة بعد الآن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه