ذات يوم توجهت نحو جدي، ذلك الرجل الحنون، مريض الزهايمر، جلست بجواره وسألته السؤال الذي أكاد أجزم أنه مرّ على أذهاننا جميعاً: "جدو هو مين إللي خلق ربنا؟".
ابتسم وأجابني، وهو يربّت بيده النحيلة على شعري، قائلاً: "ربنا هو إللي خلقنا، ومحدش بيخلق الخالق".
لم أفهم تلك الاجابة وقتها فقد كنت في السابعة من عمري. مرّت الأعوام وتوفي جدي الطيب، وبقي السؤال عالقاً بداخلي، حتى قرّرت ذات يوم طرحه على معلم الدين حين كنت في الصف الثاني من المرحلة الثانوية، وبمجرّد أن طرحت عليه السؤال، نهرني واتهمني بالإلحاد، بل عاقبني بحرماني من نزول الفسحة المدرسية طوال اليوم.
المرحلة الثانوية تزامنت مع انتشار كبير لشرائط الكاسيت للدعاة الإسلاميين الجدد، الأنيقين الذين يرتدون الجينز والتيشرتات ويتحدثون بأسلوب يجذب المراهقين والشباب، أبرزهم عمرو خالد الذي كانت له صولات وجولات في الحديث عن الحجاب، لدرجة تجعلك تشعرين أن من إحدى مهامه الشخصية جعل التماثيل تتحجّب. وقتها وقعت فريسة لهذا السعار الديني، فذهبت للجلوس بجوار أبي في غرفته وبدأت أحدّثه عن رغبتي في ارتداء الحجاب.
ابتسم والدي وأخبرني بأنني ما زلت صغيرة، وأن قراراتي متسرعة وليست نهائية، ومن الأفضل ألا أرتديه الآن حتى لا أخلعه في المستقبل. اقتنعت بكلام والدي ومرّت الأعوام حتى أوائل العشرينيات من عمري، وفي تلك الفترة كانت "هجمة" الحجاب قد ازدادت حتى في الأفلام والكليبات الغنائية. كان هناك ظهور واضح للبطلات المحجبات، وبدأت صديقاتي بالانضمام إلى هذه "العائلة" واحدة تلو الأخرى، فوددت أن أقلدهن لأكون معهن، وذهبت مرّة أخرى وتحدثت مع والدي، فقال إنه قراري الشخصي، وبالفعل ارتديت الحجاب وظللت أعواماً عديدة محجّبة، حتى قرّرت أن أخلعه، فذهبت إلى والدي وأخبرته بقراري الأكثر جدّة، وسألته إن كان الأمر سيثير استياءه، فقال إن الحجاب ليس عنواناً للعفّة وإن الحشمة في العقول قبل أن تكون في الزي، وأنه لن يفرض علي شيئاً طالما أنه يثق بي وباختياراتي.
المرحلة الثانوية تزامنت مع انتشار كبير لشرائط الكاسيت للدعاة الإسلاميين الجدد، الأنيقين، أبرزهم عمرو خالد الذي كانت له صولات وجولات في الحديث عن الحجاب، لدرجة تجعلك تشعرين أن من إحدى مهامه الشخصية جعل التماثيل تتحجّب
أورد هذه الحكايات البسيطة لأقول إني لم أكن في يوم مجبرة، ولم يرفع أحد علي عصا لأتحجّب أو لأنكشف، تحجبت عندما رغبت وخلعت الحجاب عندما رغبت أيضاً. كنت، وما زلت محظوظة، بالحصول على والد لا يستخدم لغة الزجر ولا الأمر. تذكرت كل ذلك منذ أيام، حين دخلت في سجال طويل مع صديقة لي سألتني: "إنتي ليه بتلبسي بوركيني ومبتلبسيش بكيني رغم إنك مش محجبة؟"
من يسمع ذلك السؤال سيظنّ أن إجابته سهلة وأن الحكايات تأتي هكذا، في سلّة بيض واحدة: غير محجبة يعني أنها تفعل كل ما يعاقب عليه المجتمع، ولكن الإجابة ليست كذلك مطلقاً لأنها بحاجة إلى شرح واسترسال كبير، فكانت إجابتي باختصار أنني لا أود ذلك ببساطة لأني لا أشعر بالراحة فيه، وأرى أنه ليس من حق أحد أن يرى جسدي إلا من أرغب بأن يراه، وأنها حرية شخصية، وأنا أجد حريتي وراحتي كذلك، فمن تود ارتداء البكيني لتفعل ذلك، ومن تود ارتداء البوركيني أيضاً، فكل إنسان حرّ تماماً في اختياراته، ولا يؤدي أمر إلى آخر.
فبدأت تتحدث بأسلوب يحمل استنكاراً، وسألتني بسخرية تميل إلى الحدة: "هو إنتي مش من هنا ولا إيه؟"، ثم أكملت: "كلنا نفسنا نلبس البكيني، لكن مش عارفين إما بسبب رفض أهالينا، أزواجنا، أو بسبب خوفنا من أحكام المجتمع، ولو جت الفرصة مفيش ست ف مصر مش هتلبس براحتها".
أقول بكل ثقة، إنني غير محجبة وأرتدي "البوركيني" بكل قناعة شخصية، لأن هذا ما أرغب به وما يجعلني أشعر بالثقة والحرية، هذا خياري أنا فحسب
وفي الحقيقة، أنا لست ضدّ ما قالت، فهي على حق، ولو أتيح الأمر، بدون تبعاته المعروفة، لتخلّت معظم النساء في مصر عما يكبّلهن. فالمجتمعات الشرقية وعاداتها وقيودها هي من يفرض الزي على النساء، وشكله وأوقات خروجهن وعودتهن، ومعظم النساء يعانين من ذلك الرقيب المجتمعي المتجسّد في الأهل أو الزوج أو الأخ الأكبر، أو حتى الخوف من كلام الناس وثرثرتهم، ولكنني ضد التعميم، فكثير من النساء أيضاً، وأنا واحدة منهن، لم أشعر طوال أعوام عمري بذلك الكبت الذي يدفعني لأن أرتدي البكيني أو غيره حين تأذن الفرصة، والسبب في ذلك هو أن والدي، ورغم أنه رجل شرقي، إلا أنه كان حكيماً جداً في التعامل مع ابنته في جميع مراحلها العمرية، يحميها ويعلّمها أن تحمي نفسها، يشح وجهة نظره دون فرض أو أمر، ثم يدعها لتتخذ قراراً تكون مسؤولة عنه.
هذا بالضبط نفس ما شعرت به حين سألتني صديقتي عن عدم ارتدائي البكيني، وهي قناعتي الخاصة بأن جسدي ملك لي، دون قمع أو فرض رأي من والدي أو غيره أو حتى خوفاً من المجتمع، خاصة أنني لا أكترث لكلام الناس وهو ما زرعه بي والدي أيضاً، حيث علمني أن أحقق قناعتي دون أن ألتفت إلى أحد.
قد أكون أفضل حظاً من غيري من النساء اللواتي نشأن نشأة تحمل جميع أنواع الكبت والقمع، فأعلم أن هناك نساء ينتظرن الفرصة لممارسة الحرية التي حرمن منها، ولدي صديقات تزوجن خصيصاً كي يهربن من هيمنة أهاليهن وقواعد المنع والزجر، ففكرة مصادقتي لوالدي في حد ذاتها جعلت لدي مخزوناً كافياً من الرضا عن حريتي، وجعلتني لا أفكّر في تنفيذ أي شي خارج عن قناعتي لمجرّد أن أشعر بالحرية.
لذا أقول بكل ثقة، إنني غير محجبة وأرتدي "البوركيني" بكل قناعة شخصية، لأن هذا ما أرغب به وما يجعلني أشعر بالثقة والحرية، هذا خياري أنا فحسب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.