شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
لماذا يقرأ المصريون الأدبَ الفارسي؟

لماذا يقرأ المصريون الأدبَ الفارسي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الجمعة 21 يونيو 202411:00 ص

ظللتُ لسنوات أقرأ ما تيسر من أشعار جلال الدين الرومي وعماد الدين النسيمي المترجمة، دون غيرهما من الأدب الفارسي، إلى أن طالعت عدداً كبيراً من الأغلفة المدوّنة عليها عبارة: "ترجمها عن الفارسية"، تحتل الصدارة فوق أرفف دار نشر "منشورات الربيع" المصرية.

لفت نظري الإقبال عليها من القرّاء، وأسئلتهم عن موضوعاتها. أقبلت بدوري واخترت مجموعةً من الأعمال تلك؛ قرأت أولاً "امرأة من طهران"، للكاتبة فَريبا وَفي، الصادرة عام 2020 عن الدار نفسها، وبترجمة من الدكتور أحمد موسى، أستاذ اللغة الفارسية والأدب المقارن. أدهشتني الهموم المشتركة التي وجدتها في رواية تتحدث عن تلك المرأة التي تراقب العالم من ثقب صغير في منزلها، وعن اللاأمل واللاحلم والعادية الرتيبة، ومن ثم تابعت قراءة بقية الإصدارات.

غلاف كتاب "المأساة الإيرانية" (سووَشون) للكاتبة الإيرانية سيمين دانشور بترجمته إلى العربية

لاحظت تقاربات كثيرةً بين الأدبَين الفارسي والعربي، وبالتبعية قواسم مشتركةً بينهما وأحاسيس وتخيلات شرقيةً. يقول المترجم عبد الوهاب عزام في كتابه "الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام"، إن الأدب الفارسي الحديث نشأ في رعاية الأدب العربي، وأخذ عنه موضوعات الشعر والنثر وأساليبهما من الوزن والقافية والسجع، ثم امتاز الأدب الفارسي بخصائصه الأدبية في الإسهاب والقصص وغيرهما. وأما الترجمة من العربية إلى الفارسية فكانت أوسع وأنفع، وكان الكثير من المؤلفين والأدباء يكتبون باللغتين، ومعنى هذا اتفاق الصور والمخيلة والأفكار إلى حدّ كبير.

الامتزاج بين الثقافتين واللغتين الفارسية والعربية جعل الأدب مادةَ ربطٍ وجذب للمصريين على وجه التحديد، خاصةً في ظل المواقف السياسية التي تطفو فوق الساحة من آن إلى آخر، وهو السبب الذي جعل تداول الروايات والكتب الفارسية المترجمة أمراً مألوفاً في السنوات القليلة الماضية

هذا الامتزاج بين الثقافتين واللغتين الفارسية والعربية، جعل الأدب مادة ربط وجذب للمصريين على وجه التحديد، خاصةً في ظل المواقف السياسية التي تطفو فوق الساحة من آن إلى آخر، وهو السبب الذي جعل تداول الروايات والكتب الفارسية المترجمة أمراً مألوفاً في السنوات القليلة الماضية، بعدما أخذت بعض دور النشر زمامَ المبادرة في إثراء حركة الترجمة الفارسية العربية، وتحديداً الأدب الحديث الذي يناقش القضايا المثارة.

"منشورات الربيع" ومشروع الترجمات الفارسية

يقول أحمد سعيد عبد المنعم، وهو محرر أدبي وناشر والمحرر العام لدار "منشورات الربيع"، عن دوافعه للتفكير في مشروع ترجمة الأدب الفارسي وتنفيذه، إن "منشورات الربيع" بدأت في عام 2014، قبل عشر سنوات تقريباً، مشروعها لترجمة الأدب الفارسي باعتباره واحداً من الآداب العالمية ذات الطابَع التحرُّري النِّضاليّ على مستوى القضايا المطروحة، ومختلفاً عن آداب المُستعمرين الأوروبيين. فبحسب سعيد، ثمة خيط رفيع بين الثقافة الإيرانية والعربية واللاتينية، كشعوب ذات حضارة بعيدة، وحاضر صعب، ومستقبل غير معلوم. ثقافة تمزج الكفاح لأجل العيش مع عشق الفن والوقوع في غرام التاريخ والقلق من القادم.

"كمُحرّر أدبي وجدتُ ضالتي حينها في هذا الأدب المشحون بكل هذه الطاقات الراغبة في الانفجار للتعبير عن آلام وضحكات وطموحات أدباء إيران المعجونين بهموم شعبهم"، يقول أحمد سعيد.

غلاف كتاب "جنّ إيراني" للكاتب الإيراني بهرام صادقي، المترجم من الفارسية إلى العربية

يشرح المحرر العام لمنشورات الربيع: "في بداية المشروع، استعنتُ بترشيحات المترجمين وبعض الناشرين الأجانب الذين التقيتُهم في مناسبات مهنية عدة خارج مصر، وفوجئت بمعرفتهم الدقيقة بخريطة الأدباء الإيرانيين ضمن الصورة الكاملة للمشهد الثقافي الإيراني. ثم بدأتُ بترشيح الأعمال واختيارها بناءً على أهمية العمل في نقل قضيةٍ ما أو فترةٍ ما من الواقع المعيش أو التاريخ القريب للشعب الإيراني".

وفي إطار سؤالنا العام عن السبب الذي يجعل القرّاء المصريين يقبلون على الأدب الفارسي، يؤكد أحمد سعيد عبد المنعم، أن الجمهور العربي "عامة" شديد الوعي والحساسية منذ البداية، وشديد الذكاء، يتتبع مشروعنا ويُكمله عاماً بعد عام. كثرٌ يسألوننا في معارض الكتب عن أدباء أتعجَّبُ كيف عرفوا عنهم، وهذا مما شجَّع عدداً من الناشرين بعدنا للبحث عن مترجمين عن الفارسية وتقديم بعض العناوين لكثرة سؤال القرّاء المهتمين عن الأدب الفارسي.

رواية "امرأة من طهران" لِفريبا وفي، و"أمي العزيزة، ما الأمر!" لعلي أشرف درويشيان، و"طريق الذبح" لمحمود دولت آبادي، و"المأساة الإيرانية... سووشون" لسيمين دانِشْوَر، وغيرها الكثير من الأعمال الأكثر قراءةً ورواجاً، غالبيتها تنقل مراحل مهمةً من حياة الشعب الإيراني خلال الحرب العالمية مثلاً وحرب الخليج، كما تنقل واقع المرأة الإيرانية، وحالة البحث عن الذات والروح والهوية في عالم يعجّ بصراعات دينية وسياسية ومجتمعية، كما يضيف عبد المنعم.

ويختم أحمد سعيد عبد المنعم حديثه إلى رصيف22 بأن منشورات الربيع لم تواجه مشكلات في الترجمة، سوى في نُدرة المترجمين القادرين على العيش في إيران لمعايشة الواقع المعاصر، بسبب العلاقات العربية الإيرانية المضطربة. لكن الدار تصرّ على استكمال مشروعها من خلال مجموعة من الأعمال المهمة التي تعمل الآن على ترجمتها وتحريرها لتصدر على مدار السنوات المتتالية القادمة ضمن خطة النشر.

ماذا يقرأ المصريون؟

من دور النشر انتقلنا إلى القرّاء أنفسهم الذين حين طرحنا على بعضهم سؤالاً عن أهم الكتب الفارسية المترجمة إلى العربية، جاء كتاب "كليلة ودمنة" أولاً، وتحديداً لأنه أحدث حركةً فنيةً وفكريةً، كما أن ابن المقفع ترجمه وقتها عن البهلوية التي نُقل إليها من الهندية، ولما فُقد الأصلان الفارسي والهندي، صارت العربية أصلاً متداولاً، ثم رواية "البومة العمياء" لصادق هدايت، والتي جاءت طبعتها الأولى عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 1976، وبحسب الكاتب والصحافي سعد القرش في إحدى مقالاته، تمثّل هذه الرواية عنواناً للأدب الإيراني. وفي المرتبة الثالثة تنوعت الأعمال بين الكلاسيكية والحديثة.

يقول وليد مغيب: "قرأت أعمالاً كثيرةً من الأدب الفارسي، منها ‘البومة العمياء’ لصادق هدايت، و’نساء بلا رجال’ لشَهْرْنوش بارسيبُور، و’الرومي: نار العشق’ و’جواز سفر على الطريقة الايرانية’ لنهال تجدد، ومثّل الأدب الفارسي لي عوامل جذب عدة منها أنه يأتي من خلفية تاريخية خصبة جداً بكتابات المتصوفة والفلاسفة الذين نشأوا في أرض فارس القديمة، كابن سينا والسهروردي والشيرازي وغيرهم. سبب آخر هو عالمية الأدب، فنحن مثلما نقرأ بالعربية، ونقرأ الأعمال الشهيرة المترجمة، كذلك نبحث عن الأدب النيجري والمغربي والإيراني والأفغاني".

غلاف كتاب "طهران" للكاتب الإيراني أمير حسين چِهِلْتَن، بترجمته إلى العربية

وتذكر مريم سامي أنها قرأت "المأساة الإيرانية… سووَشون"، ووقعت في غرامها تقريباً، و"كنتُ قد اقتنيتها في معرض القاهرة الدولي للكتاب العام الماضي، وبرغم أنها أخذت وقتاً طويلاً في القراءة، لكني تعرفت من خلالها على ملامح حضارة لم أعرفها من قبل، وأظن أنها لن تكون المرة الأخيرة".

فيما يقول عصام الدين حسين إن "طبيعة القضايا السياسية والاجتماعية المطروحة في إيران بالتحديد كانت عاملاً مؤثراً لي للاطلاع على الأدب الفارسي، كما أن سرقة الثورة من قبل الإسلاميين درس لا بد من استيعابه ومعرفة تفاصيله، والأدب خير مرآة لهذا".

يستكمل عصام الدين حديثه بقولِه إن كتاب "أنْ تقرا لوليتا في طهران" هو "أحد أهم الأعمال التي قرأتها، فهو أحد الأصوات التي لا يحب سماعها الممانعون؛ سردية شخصية بارعة في كتاب ضخم للروائية الإيرانية آذَر نفيسي، وهي كانت من أشد معارضي شاه إيران رضا بهلوي، حتى أنها عادت إلى إيران من أمريكا بمجرد هروب الشاه على أساس أن الثورة نجحت. لكنها لم تلبث أن اصطدمت بالحكم الإسلامي، وإلغاء قوانين الأسرة لحماية المرأة، وفرض الحجاب، والفصل بين الرجال والنساء في المحافل العامة، ثم الخوف من القتل المجاني للمعارضين بالآلاف، والعيش تحت ستار حرب مجنونة أرادوها لتوطيد حكمهم، واتهام أي معارض بالتبعية للعدوّ، وتحكي تلك السردية تفاصيل مرعبةً عن كمّ العنف الذي مارسه النظام الإسلامي ضد النساء عموماً، وضد كل الرافضين لفرض القوانين الدينية المتشددة على المجتمع في العامين 1980 و1981، وكان القتل والسجن والتعذيب مصير الآلاف، مراهقين وشباباً وكباراً ومن دون حد أدنى ولا رحمة".

تقول الدكتورة شيماء سيد المدرس، المساعدة في قسم اللغة الفارسية في جامعة الأزهر، إن الاهتمام بحركة الترجمة الفارسية بدأ في عهد محمد علي، ولاحقاً في ستينيات القرن المنصرم ظهر إنتاج كبير من رواد الترجمة الفارسية في مصر

ويعبّر سامح مصري بقوله: "عشت في إيران ثماني سنوات. شعرت وكأني جزء منها وبأن شعبها وكتابها مؤثرون بدرجة كبيرة، لذا رأيت أن الأدب الفارسي مليء بالشاعرية والتقدير، حتى الخيالي منه عذب ولذيذ".

طبيعة الأدب الفارسي ومساحته

في المقابل، تحدّثنا الدكتورة شيماء سيد المدرس، المساعدة في قسم اللغة الفارسية في جامعة الأزهر، عن حركة الترجمة الفارسية، فتقول إن الاهتمام بها بدأ في عهد محمد علي، ولاحقاً في ستينيات القرن المنصرم ظهر إنتاج كبير من رواد الترجمة الفارسية في مصر، مثل عبد الوهاب عزام والدكتور يحيى الخشاب، مشيرةً إلى أن مساحة الأدب الفارسي في دور النشر المصرية ليست كبيرةً، لكنها مساحة جيدة مقارنةً بالسنوات البعيدة الماضية، مُثمّنةً وجود دور نشر لديها الوعي بأهمية الحضارة الفارسية وآدابها.

وعن علاقة مصر بالدول الناطقة بالفارسية، تقول الدكتورة شيماء إن هناك أحداثاً وشخصيات طوال الوقت مدت صلات الوصل بين الحضارتين والأدبين، مثل الشاعر ناصر خسرو الذي يُعدّ أبرز الرحالة الفارسيين، وقد سافر إلى مصر عام 1047، ومكث فيها بضع سنوات، ثم عاد إلى بلده ليكتب عن القاهرة: "إنها المدينة التي قلَّ نظيرها"، وينقل حركتها وآثارها واجتماعها إلى مدينته في أفغانستان، ثم جمال الدين الأفغاني المولود في نواحي كابول والذي جاء إلى مصر في القرن التاسع عشر ليصبح واحداً من أهم المؤثرين في الحركة السياسية والإصلاحية الدينية فيها.

غلاف كتاب "چِشمْهایَش" للكاتب الإيراني بُزُرگ عَلوي، بترجمته من الفارسية إلى العربية

وترى الأستاذة في اللغة الفارسية أن هناك عدداً من العوامل التي تشكل عناصر جذبٍ للقارئ المصري للاطلاع على الأدب الفارسي، هي: الأحداث السياسية التي تقع في إيران وأفغانستان بشكل دوري، مثل وصول طالبان إلى الحكم في 2021، وهذا الحدث جعل الناس يبحثون عن التاريخ السياسي والاجتماعي للدولة، وتالياً لجأوا إلى قراءة مختلف الكتابات التي دوّنت عن حقب زمنية مختلفة، وأيضاً انتشار أقسام اللغات الشرقية وتدريس اللغة الفارسية في عدد كبير من الجامعات المصرية.

وهذا الانتشار يقابله بالتبعية إقبال الطلاب على الدراسة، ما أحدث لمحةً مهمةً للحراك في حركة الترجمة، وتحديداً في أثناء تحضير الدراسات العليا حيث يُطلب من الطلاب ترجمة نصوص فارسية ونشرها في ما بعد، وأيضاً المركز القومي للترجمة الذي قام بدور عظيم في الترجمة عن الفارسية، وكان كتاب "زين الأخبار" للكرديزي (الجرديزي) بترجمة الدكتورة عفاف زيدان عام 2006، من أوائل الكتب الصادرة.

وتختم الدكتورة شيماء سيد، حديثها بترشيح بعض الأسماء الفارسية للقرّاء، والتي يناقش أصحابها في أعمالهم أهم قضايا المجتمع، مثل الكاتب صادق هدايت، وجلال آل أحمد، وبُزُرك علوي، وحافظ الشيرازي الملقّب بـ"لسان الغيب".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image