شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"كان أبي بستانياً في قصرِ أمِّك"… عُبيد الزّاكاني، عميد الأدب الفارسي الساخر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

يقابل حكاياتِ جحى وبهلول في التراث العربي ما ألّفه عُبيد الزاكاني في التراث الفارسي الإيراني؛ حكايات فكاهية تحمل في أغلب الأحيان نقداً اجتماعياً.  عبيد الزاكاني هو أول شاعر وناثر ساخر في تاريخ اللغة الفارسية، عاش في العصر المغولي، وهو من أصول عربية، يعود نسبه إلى آل زاكان، فرع من قبيلة بني خفاجة قطنت مدينة قزوين غرب العاصمة طهران، بعد دخول المسلمين إيران.

اسمه الكامل نظام الدين عبيد الله الزّاكاني، ولد في القرن الرابع عشر الميلادي، فعلى صيته حتى أصبح يلقب اليوم بعميد الفكاهة الفارسية. وقبل أن نخوض شوطاً تعريفياً عن حياته وكتبه لنقرأ بعضاً من طرائفه وحِكَمه وحكاياته وأشعاره.

قيل لعبيد الزاكاني: كيف ترى دين الإسلام؟ فقال: "إنه دين عجيب وغريب، عندما تعتنقه يقطعون رأس قضيبك، وعندما ترتد عنه يقطعون رأسك".

تُصنّف أساليب الزاكاني الساخرة إلى قسمين؛ الأول أدب ساخر ينطوي على مضامين كاشفة للمستور وإباحية، أو اجتماعية طوباوية، مسكوت عنها في أغلب الأحيان، والثاني مزاحات أو ملاطفات أو فكاهات

"قيل إنه كان هناك شخص يشبه الملك شبهاً كبيراً، فلما علم الملك، أمر بإحضاره، ثم سأله باستهزاء: كيف جاء هذا الشبه الشديد بيني وبينك؟ هل كانت أمك خادمة في قصر أبي؟ أجاب بفخر: كلا يا مولاي، لقد كان أبي بُستانياً في قصر أمك!.".

"أُحضر رجل ادعى النبوة إلى الخليفة، فقال له: أشهد أنك نبي أحمق. فرد الرجل: بلى، لأنني بعثت إلى قومك، وكل نبي من فصيلة قومه".

"ادعى شخص أنه إله. فاقتادوه للخليفة، فقال له: ألم تعلم أنه في العام الماضي ادعى شخص النبوةَ فقتلناه؟ فرد الرجل: حسناً فعلت؛ فلم أُرسِله".

"سُرقت حقيبة رجل، فقيل له: اقرأ سورة ياسين حتى يعيد سارقُها لك المال. فقال لهم: القرآن كلّه كان في الحقيبة".

"كان شمس الدكن مظفّر يقول لتلامذته ذات يوم إن الدراسة يجب أن تكون في الطفولة؛ فكلّ ما يتعلّمه الطفل لا يمكن أن ينساه أبداً. وأنا الآن أبلغ الخمسين وقد تعلّمت سورة الفاتحة و ما أزال أتذكرها، على الرغم من أنني لم أقرأها أبداً".

ومن نصائح الزاكاني للشباب: "اعتبر العزوبةَ مصدرَ السعادة ومبدأ الحياة!.".

"قيل لرجل صوفي: لم لا تبيع عباءتك؟ قال: إذا باع الصيادُ شبكتَه، فماذا سيصطاد".

"كان درويش فقير مع ولده يقفان على قارعة الطريق، فمرّت من أمامهما جنازة. الصبي: ما هذا الذي في الصندوق؟ الدرويش: يا بنيّ إنه نعش رجل فارَقَ الحياة. الصبي: وإلى أين يذهبون به؟ الدرويش: إلى دار ليس فيها ما يؤكل، وما يكسى، حيث لا خبز ولا نار ولا حطب ولا حصائر ولا بساط. الصبي: يا للهول إنهم يأخذونه إلى بيتنا".

"يُحكى أن قزوينياً (نسبة إلى مدينة قزوين، وهو لقب شائع في طرائف الشاعر)، أضاع حماراً، فكان يدور حول المدينة ويشكر ربّه. فقيل له: لماذا تشكُر؟ قال: لأنني لم أكن جالساً علی الحمار وإلّا لكان هذا اليوم اليومَ الرّابع الذي أضيع فيه".

"سألوا الشيطان أي طائفة من الناس تحب؟ قال: السماسرة. قالوا: لماذا؟ قال: كنت مسروراً بهم لبراعتهم في الكذب، لكنهم أضافوا يميناً كاذباً".

"سألوا السلطان: ماذا تأكل؟ قال: لحم الأمّة. ماذا تشرب؟، دم الأمّة. ماذا ترتدي؟ جلد الأمة. قالوا من أين لك هذا؟ فردّ: من جهلِ الأمّة".

"قيل لجندي لماذا لا تذهب إلى الحرب؟ فردّ عليهم: أقسم بالله أنني لا أعرف أحداً من الأعداء وهم أيضاً لا يعرفونني، فكيف تنشأ بيننا عداوة؟!".

سخرية التعاريف

ولعل أكثر ما جلب اهتمامَ قراء عُبيد  هو "رسائل التعريفات" التي يسخر فيها من المظاهر والقيم التي سادت في ذلك العهد، كما يسخر من الشخوص والقيم والعناوين. وقد ترجم الكاتب العراقي عادل حبه بعضاً منها:

"غضب الله: إيذاء الناس

نزول البلاء: قدوم المعارضين

القسم: مرق الكذابين

بلا طعم: المجاملة الزائدة

المريض: مكتب ممارسة الأطباء

البائس: هو الذي يشكل مصروفه أكثر من مدخوله

حامل الجشع الخام: هو الشخص الذي يستعين بالأفيون

العَالِم: هو الذي لا يحسن ممارسة التجارة والكسب

الوهاب: هو الإنسان الفقير

البخيل: صاحب المال

الحلال: هو الشيء الذي لا يحصل عليه الكثير من الناس

الناصح: هو من لا يعمل بما يقول

ملك الموت: الصديق الغبي

الغبي: هو الذي يستطيع قراءة الشعر وكتابته دون أن يعرف معناه

الأحلام: وسيلة ترفيه البؤساء

الحيوان: هو من يجيء بدون سابق إنذار

الصديق: هو من نعتقد أنه من أهل الخير

الأمل: رأسمال الفقير

الندى: دموع لليل

الشاه: من يتطاول بلسانه على الناس

الغلو في التواضع: علامة الغرور

كاتب التقارير: القطة التي تنتظر عند جحر الفأر

المفكر: الوحيد

الأطفال: راحة للقلب وإيذاء للرّوح

المنبوذ: الضيف بعد ثلاثة أيام

المنصب: النفور من المألوف القديم

الإنسان البسيط: الذي لا يخجل من الحديث عن أي شيء".

الحكم من أقوال الحيوان

وكتب الشاعر في بداية المنظومة الشعرية الرمزية "الفأر والقط"، التي تروى بالهزل والهجاء قصةَ صراع القطط مع الفئران في مدينة كرمان، وتعدّ من أهم المنظومات الفارسية الظريفة:

إذا كان لديك عقل وإدراك/تعال اسمعْ حديث الفأر والقطّ

سوف أقص عليك قصة/تبقى حائراً من معانيها

تروى هذه القصة في 90 بيتاً شعرياً، حكايةَ قطٍّ غادرٍ وماكر يحاول كسب ثقة الفئران وتدميرها وأكلها باستخدام خدع دينية. ويقارن الزاكاني، أمير مبارز الدين (الحاكم في عصره) بالقط الذي لا يرحم أحداً، وهو ماكر جداً ومستبد، وأما الفئران فهي بمثابة عامة الناس.

ترك عبيد الزاكاني العديد من المؤلفات منها ديوان شعر يتضمن ما يقارب الثلاثة آلاف بيتاً، ومنظومة "القط والفأر"، و"رسالة اللحية" (ريش نامه)، و"رسالة أخلاق الأشراف"، و"مئة موعظة" (صد پَند)، و"الرباعيات"، و"منظومة النحّات" (منظومه سنگ تَراش)، وكتاب "الفصول العشرة". كما ألّف قليلاً من الكتب باللغة العربية.

أساليب عبيد الساخرة

تُصنّف أساليب الزاكاني الساخرة إلى قسمين؛ الأول، أدب ساخر ينطوي على مضامين كاشفة للمستور وإباحية، أو اجتماعية طوباوية، مسكوت عنها في أغلب الأحيان. والثاني مزاحات أو ملاطفات أو فكاهات. هذا حسب وصف الأكاديمي الكردي العراقي، صادق كريم يحيى، وهو أستاذ مشارك من العراق في جامعة آزاد الإيرانية.

يتطرق القسم الأول إلى مفاهيم جنسية ودينية، ومحاذير قانونية وعرفية، وخطوط حمراء سياسية. بينما يركز القسم الثاني على موضوعات الإعاقات البشرية والنقائص الظاهرية والمادية أو النفسانية أو العقلية، تنطوي في مجاميع من فكاهات ثقافية وأخلاقية، كما أنها تحتوي في بعض الأحيان على فكاهات تتعلق بغباءات تصدر من الإنسان وجهالات وعنجهيات بشرية.

وفي بحث أكاديمي تحت عنوان " أساليب عُبيد الزاكاني الساخرة وفق نظرية تفريغ الكبت الفرویدیة"، شرح الأستاذ يحيى لرصيف22: "تنتمي الموضوعات الأولي من فكاهات عبيد إلى المجموعة الأولى من تصنيف فرويد في نظريته الكبتية ورؤيته التفريغية والتحريرية؛ أي الفكاهات التي تسبب الإضحاك عن طريق التنفيس عن المشاعر المكبوتة وتفريغها. وترتبط الموضوعات الثانية منها بمجموعة فرويد الثانية من تصنيفه في تلك النظرية؛ أي التقليد البحت وغير المتقن والمحترف للحركات والقوانين الطبيعية والأعراف الاجتماعية، مما يكون مدعاة للضحك، وذلك بسبب تحريره لطاقات فكرية أو ذهنية مكنونة، وتحفيزه لإطلاقها وإخراجها للعلن. أما المجموعة الثالثة من تصنيف فرويد، وهي تقنية المباغتة التي قد أفاد منها عبيد في صياغة فكاهاته وسخرياته، إذ أن أية فكاهة في أي موضوع كانت، إذا ما وظفت فيها تقنية المباغتة، فهي تثير الضحك، لكونها تدفع بالفكر أو الذهن ليكون على مشارف مفارقة التنفيس عن شعورين مختلفين في آن واحد".

الفكاهة هي الملاذ

يعود سبب لجوء عبيد الزاكاني إلى السخرية من وجهة نظر الباحث السعودي في الأدب الفارسي أحمد خالد البدلي، إلى أن إيران عانت من الهجوم المغولي والفوضى والقتل والدمار والقمع والاضطهاد الشديد، فكانت الفكاهة أحد الأسلحة التي أشهرها الفرس في وجوه أعدائهم، وكان عبيد قائد هذه الفرق الساخرة الذي كشف الزيف والتردي والبؤس الذي سارت إيران إليه من خلال الضحك والهجاء.

ألبس الشاعر العربي الإيراني النقدَ الاجتماعي في ظل سلطة المغول على بلاد فارس التي ساد مجتمعها التشرذم، لباسَ الهزل والسخرية، "نقد قضايا المجتمع في قالب النكتة والظرافة، والابتكار ونعومة التعبير وقوة التفسير، والإيجاز الفني هي من السمات المهمة في أعمال عبيد الزاكاني"، كما وضح الأديب غلام حسين يوسفي.

 "عدد نسخ كتاب ديوان الزاكاني وعدد المراجعات لكتابه والاهتمام ببقية آثاره، يظهر أن هناك شيئاً في أعماله لا يمكن حذفه؛ إنه يلبي حاجة (أدبية) لا يمكن لغيره أن يؤديها"

ما قام به الزاكاني لم يكن دون ضريبة، فقد تم تحديده من قبل الجميع، وعن ذلك قال الأديب الإيراني إيرج شَهْبَازي: "تمت مقاطعة عبيد الزاكاني لأسباب مختلفة عبر التاريخ، وبغض النظر عن هذه المقاطعة الشديدة، فبسبب الهجمات (الأدبية) المدمرة التي شنها على مختلف شرائح المجتمع وأهانهم بأسوأ طريقة ممكنة (ساخرة)، كان الجميع ضده، ولأنه تجاوز العديد من المحرمات والخطوط الحمر للمجتمع (وقتذاك)، فإن الضمير العام للمجتمع، لم يرحب به. ولكن عدد نسخ كتاب ديوان الزاكاني، وعدد المراجعات لكتابه والاهتمام ببقية آثاره، يظهر أن هناك شيئاً في أعمال عبيد لا يمكن حذفه؛ إنه يلبي حاجة (أدبية) لا يمكن لغيره أن يؤديها".

عاش الزاكاني نحو 70 عاماً، قضى شطراً من حياته في مدينة شيراز، حيث درس هناك وتعلم على يد مشايخها، وأخذ يمتدح حاكمها لينال منه ما ينال، وتعلم اللغة العربية واطلع على علم الفلك، حتى أبدع في كل فن وعلم. ثم عاد إلى قزوين التي مكث فيها حتى وفاته، ويقول المؤرخون إنه تولى منصب القضاء في قزوين، ومنهم من قال إنه بدأ يُعلّم ويدرّس هناك. وبرغم أنه عاش حياة منعمة بالرخاء، لكنه بلي بالفقر، وتثاقلت عليه الديون في سنواته الأخيرة.

ولا تفاصيل أكثر عن حياته، حيث أن المؤرخين الفرس لم يظفروا بالكثير من المعلومات عن سيرته، وقيل إنه سافر إلى بغداد قبيل وفاته المرجحة بين عامي 71- 1370 م، كما أن مدفنه غير معلوم. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image