شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
في سرير أبي العلاء المعري... كان على أولئك الفلاسفة أن يحظوا ببعض الحب

في سرير أبي العلاء المعري... كان على أولئك الفلاسفة أن يحظوا ببعض الحب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والنساء

السبت 8 يونيو 202412:10 م


قرأتُ ذات مرّة، أن كاتباً شهيراً قال لأليس مونرو، خلال بداياتها: "أنت تكتبين قصصاً جميلة، ولكن لا أعتقد أنني أود النوم معك"، وقد نقلت لنا صديقتها الكاتبة مارغريت أتوود هذه الحادثة فيما بعد، وكذلك تعليق أليس اللامكترث البسيط: "ومن كان ينوي أن يطلب منه ذلك؟".

لقد كانت تكتب بتركيز كامل، مُنطلقة في العمل العذب والشاق بكل روحها، حتى إن حوادث التثبيط وأعمال الكراهية الذكورية هذه بدت لها ثانوية جداً، ونظرت إلى كل شيء كرجع لأفكارها العميقة والمنسابة في قصصها التي قادتها إلى جائزة نوبل بالنهاية. ولكن من قد يصْلُحُ لقول مثل هذه الكلمات السيئة الطوية من بين كُتابنا المحترمين؟

ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل!

قالت لي صديقة منذ أيام ضاحكة: "ما احنا هربانين أصلاً"، وكان في عينيها أثر للدموع ولكن بَدَّدَها الهواء الساحر لحسن الحظ.

كان الجو ربيعياً جميلاً، وكنّا شابتين "مستقلتين" تناقشان الشأن الثقافي وتحبان الكتب، ولكن ما بالُ البكاء؟ لقد تركت كلٌّ منا منزل أسرتها ومدينتها مضطرة حتى تُشْبه نفسها قليلاً، وكان ثمة الكثير من الأعطاب التي رافقت كل ذلك بالطبع، إذ غالباً ما تُلْقي لك الحياة بفرص وشباك. تُلْقي لك الحياة بفرصٍ شباك، وعليك أن تحذر!

شعرت الفتاة لحظة وصولها إلى مدينة أحلامها الكبيرة بأنها يجب أن تصبح "تلك الفتاة" التي تتحدّث عنها فيديوهات التحفيز الخاصة بالنساء، وكان ذلك مستنزفاً من كل مكان، أما السيئ والمستحيل فكان عودتها إلى الوراء، وسماع القليل من التشفّي العائلي المُرِّ في مدينتها الهامشية التي تنمو فيها الضغائن والشماتة، ورؤية الوجه الرطب المُعاتب الباكي قليلاً لأمها.

كان يَحْسُن بها أن تكون شرسة كقطة برأيه ربما، وتُهاجم الرجال في كتاباتها بلا داع وتُشعل النيران والحرائق، ويكون للمخالب سحرها و"إيروسيتها" حتى وهي تكتب، إذ ما الذي قد تكونه المرأة المثقفة حين لا تكون جامحة ومتمرّدة؟... مجاز

بدت المعايير كبيرة جداً فجأة، وبدا بأن عليها أن تفعل ألف شيء، محافظة على ابتسامتها وماكياجها الكامل مع ذلك. تنافست مع الزميلات اللاهثات أيضاً في استعراض صالات الرياضة والركض الصباحي وكنبات "كيتيا" الزاهية الألوان للقراءة، مع أكواب الماشا التي تُقرفها في الحقيقة، والتحدث الاجتماعي جداً مع الآخرين. وفي الداخل المظلم طبعاً قَبَعت روحها، خائفةً تماماً من الأرضية التي تهتزّ طوال الوقت وتريد أن تبكي، وهذه وضعية مثالية لبطلات نوعية معينة من القصص. أيها "الناقوس الزجاجي" تَنَحَّ جانباً!

ولكن لنعد إلى الكاتب الذي قرّر بأنه لن يرغب بمشاطرة أليس مونرو سريرها، ولنتخيل بأنه قد حصل على هذه الفكرة فيما كان يقرأ أعمالها ويَمُطُّ شفتيه غير راض: "هادئة أكثر مما ينبغي، متصالحة مع كل شيء وهذا لن يُثيرَ أحداً".

لقد كان يَحْسُن بها أن تكون شرسة كقطة برأيه ربما، وتُهاجمَ الرجال في كتاباتها بلا داع وتُشعلَ النيران والحرائق، ويكون للمخالب سحرها و"إيروسيتها" حتى وهي تكتب، إذ ما الذي قد تكونه المرأة المُثقفة حين لا تكون جامحة ومتمرّدة؟ إنه لا يدري.

 يُمكن للأنثى أن تتحوّل إلى صور الحيوانات كلها بمرونة كاملة في كل ما عرفناه من الأدب والأساطير والفنون ولا ضير. إنها قطة أو ثعبان أو عصفور أو غزال أو فراشة، أو بقرة حتى، كما يقول أبو العلاء المعري في أشعاره التي نحفظها كلنا بإعجاب كبير.

والآن فلنلعب لُعْبَةً بالمناسبة، ولنَقُل أننا ننوي اقتفاء آثار قائل هذه الكلمات بلا هوادة، وفي كل مكان من تراثنا الفكري الذكوري العظيم.

كنا نصطاد "كارهي النساء" منذ قليل، وهذا ليس عملاً سهلاً ولا صعباً، إنه رقص

  وأيْسَرُ هَجْرِي أنني عَنْكَ راحلُ

كتب طه حسين أن أبا العلاء المعري قد بالغ في موقفه المُحتقر للمرأة، وكذلك فعل أغلب دارسيه الآخرين، مندهشين وممتعضين قليلاً من كل ذلك التحامل الصارخ والصريح.

كان الرجل حكيماً على نحو مثير للتأمل والإعجاب عادة، وذا شجاعة لا مبالية تقريباً، ولقد أَوَّلَ الناس كلماته، تارة بالشك وتارة بالإلحاد أو حتى معارضة القرآن كما في كتاب "الفصول والغايات"، وأَغْلبُ الظن أنه كان يصنع الروائع والعظيم من الأعمال هكذا مثل من يلهو بالكلمات وتلهو به.

لقد كان يُسَلي عزلته التي دخلها بعد سفره المشهور إلى بغداد. تلك الرحلة التي فقد إثرها أمه، وتلقى فيها أيضاً جُملة قاسية من الغانية الوحيدة التي زارها في كل عمره، ولقد رفضت أن تُقَبِّلَهُ، كما ذُكر فيما بعد، نافرة من وجهه القبيح الذي أكله الجُدري.

إنني أكاد أشم رائحة الشفقة الدبقة منذ الآن، وكذلك علاقتنا المُلتبسة الهشّة، كقارئات، مع الكتاب والمفكرين.

رفع المعري من شأن المرأة حيناً وحط من قدرها، ثم قدسها كأُمٍّ، ثم حَذّر من تعليمها الذي لن ينفع أحداً أصلاً، ثم لعنها ودعا إلى وأدها، وبدا لكل ذلك مثل أي رجل نرجسي اعتيادي، أما نحن اللواتي قرأنا كتبه، فقد فعلنا ما تفعله النساء في بيئة سيئة عادة: لقد وجدنا المبرّرات والتفسيرات لكلامه المُسيء.

دافعت طالبة ماجستير مؤخراً عن المعرّي في رسالتها عن صورة المرأة في شعره، وشرحت أبياته المتحاملة بتسامح أُمٍّ مع قلب وارف الظلال: لقد كان يهاجم النساء "الساقطات" فقط، ولم يقربنا نحن النساء "الصالحات" بأي كلمة. هللويا إذن يا ميزوجينية المرأة التي تصادفنا في كل مكان على نحو غريب.

قالت لي سيدة أمازيغية أيضاً من قبل بأن " المرأة مزبلة". كانت مهذبة جداً ولطيفة، وقد استقبلتني في بيتها كضيفة غريبة من نوع ما بمنطقة الريف التي ينحدر منها والدي، وأحاطتني بكرم المدن الصغيرة العارمِ الحذرِ.

الجُملة كانت مَثَلاً متوارثا كما أوضحت لي. يُلقى على كاهل الأنثى في مجتمعنا بكل الأمور السيئة والفضائح حَالَ انفجارها، فهي مزبلة إذن، ولكن  دون أن يُعَكِّر ذلك مزاج السيدة ولا الحاضرات الأخريات اللواتي يحطن بنا، ويُؤمّن برؤوسهن على كلامها في هدوء عجيب.

السيدة كانت جدة لصديقتي الكاتبة التي تحدثت معي عن "هربنا"، وقد أسمعتني هي أيضاً أمثالاً أخرى مشابهة في أوقات متفرقة. كانت تلك الكلمات تصعد إلى قلبها فجأة كتجشّؤ كريه. زارت المنطقة التي ننحدر منها كلانا مؤخراً بِدَورها، وسرعان ما لاحظتُ أمراً لافتاً في الصور التي التقطتها هناك ونشرتها على صفحتها: لقد اختفت ابتسامتها التي تلازمها عادة في كل حين.

قَلَّبتْ شفتيها بالكاد وحدقت بالكاميرا ببلاهة وهي تضع غطاء على شعرها إرضاء لأسرتها، وقد وَجَدَت من يكتب لها تعليقاً وعظياً يدعو لها بالهداية مع ذلك، أما على بريدها الشخصي، فكانت تتلقى الرسائل المتودّدة الصفراء والقلوب.

قالت لي صديقتي التي اعتادت إيجاد الأعذار للآخرين مثل فتيات القصص الطيبات: "ربما كانت تكفي امرأة واحدة في سرير المعري لإصلاح كل شيء، ربما كان على أولئك الفلاسفة أن يحظوا ببعض الحب"... مجاز

يُكَررني ليَفْهَمني رِجال

كانت نبرة جيرانها السابقين قد تغيرت تماماً منذ أن خلعت الحجاب، وانتقلت للعيش والعمل في مدينة أخرى. تلقت في البداية رسائل الكراهية والشتائم مجهولة المصدر، ثم سرعان ما وصل الغزل الرديء أيضاً، وبدا أن الجميع قد باتوا يجدونها متاحة ومستباحة جداً ومشتهاة، وصارت كل كتاباتها بالنسبة إليهم مجرّد إيحاءات وظلال لحياتها الشخصية التي تنشرها هكذا على الملإ دون حياء كبير.

حدث بعدها أيضاً أن جاء الإحساس بالذنب، إذ ما الذي قد تفعله حين تفهم أنك صرت ملعوناً؟ تلعن نفسك بالتأكيد.

كتبت أليس مونرو في قصة "الهاربة": "كان ذكائها يُصنّف وكأنه نوع من العرج أو كإبهام زائد لديها". لقد كانت البطلة المتعلمة تسافر وحيدة وتقرأ باستماتة، تُعيل نفسها وتتعامل مع المضايقات طوال الوقت، ولم يخل كل ذلك من بهارات لوم النفس وبعض الضياع الذي يُغَذيه ألْفُ شيء.

ألقى أولُ رجل قامت بِصَدِّ مجاملاته بنفسه على سكة القطار الذي صادفته على مَتْنِه في حادثة غريبة، ولَوَّن ذلك بظلاله الحزينة كل التفاصيل. ربما كان قد قرّر الانتحار قبل شراء تذكرة السفر أصلاً، ولكن البطلة المُشوشة قد شعرت بأنها المخطئة، لأنها قد حاولت لِمَرَّةٍ أن تدافع عن حدودها الشخصية، أما بقية المجموعة القصصية فقد كانت حكايات عن الرجال والأشخاص الذين دخلوا حياتها فيما بعد دون أن يطرقوا الباب أبداً: غيرُ متاحين وأنانيون غالباً، على عجل دائماً، بكَمٍّ كبير من الأذى، ودون أي اهتمام بانشغالاتها الصغيرة وحبها اليائس لكلاسيكيات الأدب.

غير أننا كنا نصطاد "كارهي النساء" منذ قليل، وهذا ليس عملاً سهلاً ولا صعباً، إنه رقص. بدا بعضهم كالمُشفق على المرأة من ثقل العمل الفكري، وشكك الآخرون بقدرتها على ذلك، مُرتدين ثوب العلماء تقريباً، وقال آخرون إنها حيوان بشعر طويل (قصصناه يا سيدي!) وكان علينا فيما بعد أن نقرأهم جميعاً، متجاوزات الكلمات والسُّمَّ المُخَبّأ في الحكايات والصور النمطية والصفحات كما نتجاوز مضايقات الشارع أو خطاب الكراهية على النت: فكّري بشيء آخر وانظري إلى الجهة الأخرى! إلا أن ما يوجد بالجهة الأخرى ليس أفضل بالضرورة ولا بهيجاً للنظر: قد يكون ميزوجينيُّ أليس مونرو ذاك أيَّ شخصٍ، وقد يطلع لنا من كل مكان، بما في ذلك كتبنا الرصينة وقاعات الدرس المحترمة بالتأكيد.

قالت لي صديقتي التي اعتادت إيجاد الأعذار للآخرين مثل فتيات القصص الطيبات: "ربما كانت تكفي امرأة واحدة في سرير المعري لإصلاح كل شيء، ربما كان على أولئك الفلاسفة أن يحظوا ببعض الحب".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image