شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الأرواح السبعة للقطط المهجورة

الأرواح السبعة للقطط المهجورة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 1 يونيو 202411:23 ص



صحت سارة على موضوع جديد، لم يصبها أي فضول، فقد رحل عنها العجب من زمن. فكرت، بينما تنهض من فراشها، أن الأمر يخص مستعمرة القطط التي بدأتها أمها على السلم. دخلت المطبخ فوجدت والدتها تجهز شيئاً ما على الحوض. بدأ الأمر بقطة واحدة تأتي بين الحين والآخر لتأكل وتشرب، حملت القطة ثم أنجبت أربعة قطط في دور من الأدوار العليا الخالية من السكان. مات اثنان من خلفتها وتبقى اثنان، كم عدد القطط اليوم؟ في أي لحظة وأنا أحدثكم يمكن أن تلد أي قطة من الخمس الحبلى، أتوقع أن يصل إجمالي القطط إلى 19 قطة، ربما أكثر قليلاً. من سيعد وراءنا؟

نبّهتها أمها ألا تشرب قهوتها بدون أن تأكل شيئاً، فبدأت تعدّ لنفسها نصف رغيف بالجبن، بينما تحكي لها أمها مستغربة، كيف أن "شهاب" تركت عيالها من الصبح واختفت. اسمها "شهاب" لأنهم اختاروه وهي صغيرة. أخبرتها أن أخاها أيقظها وقت الظهر لأنه وجد أربع قطط حديثة الولادة متفرقة على درجات السلم بعشوائية. "متنطورين" وصفتهم.

"هي شهاب ولدت، بس مانعرفش راحت فين": قالت والدتها، ثم أضافت: "اطلعي بصي عليهم برا قدام الباب".

سألتها سارة: "يعني هي من الصبح مختفية؟ بقالها كتير؟". ردت أمها بدون تركيز: "مش عارفة. اطلعي شوفيها كدا. هتلاقيهم برا على السلم".

لم ترد سارة رؤية القطط الصغيرة التي أمام الباب. ردت بعصبية: "مش عاوزة أشوف قطط صغيرة على الصبح".

"مالك قاسية كدا على الحيوانات؟ هيجرالك إيه يعني؟ أديها حسنات تضافلك بدل ما أنت كدا". ربما أرادت والدتها أن توصل لها رسالة أخرى، لأنه لا تضاف حسنات من وراء الاعتناء بقطط صغيرة جائعة، إلا لو كانت ذريعة لفعل ما.

حدست سارة من خبراتها السابقة مع القطط أن شهاب لن تعود، وأنها ستضطر مرة أخرى لشراء عبوة لبن أطفال وسرنجة، والجلوس على أرضية السلم المتسخة في البداية، والامساك بمخلوقات صغيرة، رخوة، شفافة وضعيفة جداً، ومحاولة إرضاعهم بسرنجة بدفعات من اللبن في أفواههم الصغيرة، دفعات ليست قوية حتى لا يختنقوا بها ولا ضعيفة فيمصوا الكثير من الهواء معها. حاولت تذكر كم مللتر كان عليها إعطاؤهم في الرضعة الواحدة؟ ما الفارق الزمني بين كل واحدة والأخرى، ربع أم نصف ساعة؟ كم من الوقت يستغرق حبلهم السري حتى يجف ويسقط؟

عندما نهضت سارة من على مكتبها، رددت لنفسها: "خليكِ أحسن منه"، ولم تفكر كيف يمكن لأحد أن يكون أحسن من الله... مجاز

لم ترغب سارة في فعل أي من هذا، تمنت من الله أن يكلفها بأي شيء غير هذه المهمة وسط الكثير الكثير من القطط الجائعة حولها. تحب سارة القطط، لكن قطط السلم الجائعة أمام الباب تربكها.

"إحنا لازم نرمي القطط دي"

سكتت أمها. السكوت علامة الرضا.

"ذنبنا إيه إحنا نشوف الخرا دا على الصبح؟"

حاولت أمها أن تقول شيئاً، لكن سارة أكملت كلامها بغضب: "ما فيه قطط بتموت كل يوم في الشارع بس مش لازم نشوفها قدامنا!"

‑ "يعني هنسيبهم يموتوا؟": قالت أمها مستنكرة.

‑ "ما هي حاجة تقرف".

سكتتا معاً. صبت سارة القهوة وحملت كوبها إلى غرفتها، لكنها لم تستطع منع تفكيرها في القطط. تمنّت لو كانت ماتت شهاب أثناء الولادة. لا معنى من محاولة إنقاذ هذه القطط عندها، غالباً ستفشل المحاولة، وإن نجحت فلا معنى لها.

أولاً، ماتت أمهم أو جُّنت وفي الحالتين لا أحد ليرعاهم. ثانياً، لا توجد احتمالية لرعايتهم، لأن والدها ينوي طرد كل هذه القطط قريباً، يفكر فقط في الطريقة. ثالثاً، الحياة بنت وسخة، لا يوجد أي داع لخوضها. رابعاً، افترضنا أن هذه القطط الصغيرة نجت. ستكون مسؤولية سارة إيجاد متبنّ لهم، وهذا ما لا يحدث ولو في الأحلام، جربتها من قبل مع ثلاث قطط، وستضطر أيضاً للاستقالة من وظيفتها "إجازة وضع"، ثم تنهار أعصابها من حرصها على فصل قططها الأليفة عن القطط الصغيرة طوال اليوم، لأنه لن يحدث خير لو التقوا وجهاً لوجه، أما هذه فقد جربتها من قبل مع خمس قطط.

بعد أن تأملت سارة الفكرة وقلبتها جيداً في دماغها، قالت: " أنا أرفض استلام ورقة هذا الاختبار من الله"، ثم انشغلت بشاشة هاتفها. بقي على موعد عملها ساعتين، لكن الوقت بطيء جداً. كانت درجة الحرارة 42 تقريباً.

عندما أعياها الحر، نبّهها جسدها أن هذه القطط الصغيرة ستموت من العطش في يوم شديد الحرارة وليس في يوم من أيام الشتاء مثلاً. تمنّت في سرها أن تموت هذه القطط في صمت وألا تسمع صوتها، لكنها نهضت من على مكتبها وأغلقت باب الغرفة خلفها، حتى لا تخرج قطتها وراءها وتهجم على قطط السلم عندما تفتح باب الشقة، لم تلتفت لوالدتها التي مازالت في المطبخ.

الروح الأولى

عندما نهضت سارة من على مكتبها، رددت لنفسها: "خليكِ أحسن منه"، ولم تفكر كيف يمكن لأحد أن يكون أحسن من الله. هشّت القطط التي هجمت عليها بمجرد أن فتحت الباب. فعلت ذلك بهدوء واستعداد نفسي على غير عادتها. هبطت عدة درجات وألقت نظرة على الكرتونة التي بها القطط الصغيرة، لاحظت أن ثلاثاً منهم بنفس لون شهاب، والرابعة مختلفة.

"صغار جداً ..يا بنت الكلب يا شهاب".

صعدت لتبحث عنها في الأدوار العليا، وفي طريقها قابلت جيلاً حديثاً من قطط صغيرة تلعب وتلهو بعيداً عن أمها التي منحتها ولادة ورضاعة طبيعيتين ولم ترمهم على السلم. قابلت آثار دماء، وتذكرت وصف أخوها عندما وجد القطط: "شكل أمهم ماتت. الكرتونة كانت مليانة دم. القطط في العادي بتولد من غير كل الدم دا".

حينها تصورت شهاب تصوراً بطولياً وهي تنزف متألمة حتى تهمد في ركن بعيداً عن صغارها، وتذكرت أيضاً ولادة قطتها الثانية، عندما أيقظتها من نومها تئنّ، وعندما أشعلت نور الغرفة وجدت قططاً صغيرة لزجة وقطاً واحداً في كيس مائي. لم يكن هناك دماء. أيقظت والدها، فتح كيس الجنين بيديه، وأخرجه منه وساعده على التنفس، وبهذه السهولة عاش، حتى وإن كان قد مات بعدها بثلاثة أسابيع.

تواطأت على تركهم للموت لأنها تجهل القدر، القدر الذي لم ينصفها سابقاً مع قطط أخرى. لكن على الأقل لن تقرّر وحدها، تواطأت على تركهم للموت مع والدها ووالدتها وشهاب والله... مجاز

الروح الثانية

لم تجد سارة القطة في أي من الأدوار، فص ملح وداب: "القطط دي هتموت كمان كام ساعة..هنعمل إيه؟ نرضعهم؟".

لم تعطها أمها إجابة قاطعة، كان الجميع في البيت متعباً من قصص القطط.

أعطت سارة لنفسها مهلة ساعتين حتى تنهي عملها الذي ستبدأه خلال ربع ساعة، وأكملت كوب قهوتها وهي أكثر هدوءاً.

الروح الثالثة

لم تفكر سارة في القطط خلال وقت عملها، لكن عندما خرجت للصالة أخبرتها والدتها بنبرة مؤرقة أن القطة مازالت مختفية، وطلبت منها أن تخرج لتتأكد ما إذا كانت القطط الصغيرة حية، لأن بكاءها اختفى.

‑ "حسناً، لا أريد الخروج للقطط الصغيرة".

‑ "اطلعي بس اتأكدي من تنفسهم لو كانوا عايشين"

‑ "ممكن نايمين. مش عاوزة أطلع أشوفهم دلوقت"

شعرت سارة أنها لو لمست القطط الصغيرة بيدها فلن تنتهي هذه القصة بنت الوسخة أبداً.

‑ "إيه المشكلة لما تطلعي تشوفيهم؟ أنت كل ما أطلب منك حاجة تعملي كدا؟"

‑ "وإيه مشكلتك مش فاهمة؟ قلتلك شفتهم الصبح ودورت على أمهم واقترحت نشتري لبن أطفال وأرضعهم. المفروض اعمل إيه تاني؟ بتحبي تحكّمي رأيك في حاجات غريبة"

يتجلى بوضوح من الحوار الدائر بين سارة ووالدتها أعصابهما الفالتة. اتفقتا على هدنة. ساعة أخرى ثم تتجهان للرضاعة بالسرنجة.

الروح الرابعة

بعد مرور هذه الساعة، خرجت سارة من غرفتها، فوجدت والدها قد عاد من عمله ممدداً على السرير.

"هنعمل إيه في القطط؟": سألت والدتها.

ردّ والدها: "قدر ربنا. لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. إننا نرضعهم بالسرنجة دي حاجة فوق طاقتنا. أمهم اختفت. دا قدر ربنا".

أزاح رد والدها ضخرة هائلة من على صدرها. والدها رجل متدين، إذن ليس لقلة دينها دخل في الأمر.

"إزاي يعني؟ نسيبهم يموتوا وإحنا شايفينهم قدامنا؟ ربنا هيحاسبنا": قالت والدتها.

ردت سارة في حمق: "إحنا مالنا يا ماما؟ يعني نشيل ذنب كدا من غير حاجة؟ هي أمهم قطة هبلة إحنا مالنا؟ أكيد لو رضعناهم هناخد ثواب بس مانتحاسبش لو سيبناهم"

شكت سارة في كل ما قالته.

أضافت والدتها: " والقطط التانية دي مافيش في قلوبها رحمة؟ ماحدش فيهم ياخدهم يرضعهم؟"

دافعت سارة بتلقائية عن القطط رافضة تحميلهم أي ذنب: " هم مالهم يا ماما. هم فاهمين حاجة". قال والدها: "مالهمش ذنب، بيتصرفوا حسب غريزتهم"

"بالظبط كدا": أكّدت سارة، حريصة على ألا يستلم أحد ورقة الاختبار الإلهي.

ذكرت والدتها فيديو رأته عن كلب يرضع قطة صغيرة مع أطفاله أو شيء كهذا، الطبيعة الحالمة.

‑ "دي حالات نادرة يا ماما..مش دا العادي"

تمنت سارة لو توقف الناس عن مشاركة مثل هذه المقاطع وبدأوا في مشاركة فيديوهات لقطط تأكّل عيالها مثلاً.

استمر الحوار وتطرق لكيفية طرد هذه القطط من العمارة عندما يحين الوقت، استرجعت سارة في سرها فكرتها عن الموت/ النوم الرحيم، وهو الاختيار ما بين تسميمهم تسميماً رحيماً أو تخديرهم وحملهم خارج العمارة حملاً رحيماً.

لم تصرّح بفكرتها. والدها متديّن وهي لا تريد خسارة تأييده.

أنهى والدها قصة القطط الصغيرة قائلاً: "مش هنجيب إحنا علبة لبن أطفال عشان نرضعهم سرنجتين ويموتوا ونشربها إحنا. كدا كدا هيموتوا محتاجين رعاية أمهم"

التفت لها والدتها، فردّت عليها سارة بنظرات مؤيدة، لكنها علمت في قرارة نفسها أنها لو كانت متأكدة أنهم "كدا كدا هيموتوا" لما تردّدت في أن تشتري لبن الأطفال وترضعهم، وتزيح عن نفسها هذا العبء، لكنها تواطأت على تركهم للموت لأنها تجهل القدر، القدر الذي لم ينصفها سابقاً مع قطط أخرى. لكن على الأقل لن تقرّر وحدها، تواطأت على تركهم للموت مع والدها ووالدتها وشهاب والله.

للقطط سبعة أرواح. هؤلاء الصغار عنيدون ومتمسكون بالحياة. قالت سارة لنفسها: "على إيه؟ هنبقى نحكيلكم اللي فاتكم"... مجاز

الروح الخامسة

في المساء، خفّ الحر وخفّ معه تأنيب الضمير. ستموت هذه القطط "مفرهدة" في آخر اليوم ولكن الجو على الأقل لم يعد شديد الحرارة.

"شهاب رجعت"، أخبرتها والدتها بسعادة. انتفض جسد سارة بالأمل، ولم تفكر كثيراً في تبرير غيابها كل هذه الساعات، ربما خرجت من العمارة للمرة الأولى في حياتها وتاهت، ربما حتى كانت نائمة، المهم أنها عادت.

تجاهلت سارة والجميع تصرف شهاب بترك صغارها بعد عودتها وانتباها فقط للطعام، قالوا: من يلومها؟ الجوع كافر.

انتظروا جميعاً أن تنتهي من طعامها وترضع صغارها، لكنها أكلت ورحلت.

تصرفها صبّ جردلاً من اللامبالاة على دماغ سارة التي تعشمت بقوة، وزاد من غضب وحيرة والدتها لأنهم بهذا يكونوا قد وصلوا إلى حائط مسدود: "ياريتك كنت مت يا شهاب كان أكرملك".

ذكرت هذه القطة سارة بالاقتباس الذي افتتحت به إيمان مرسال كتابها عن الأمومة وأشباحها، لشاعرة بولندية تتحدث فيه إلى ابنتها المولودة للتو:

"أقول: أنت لن تهزميني

لن أكون بيضة لتشرخيها

في هرولتك نحو العالم

جسر مشاة تعبرينه

في الطريق إلى حياتك

أنا سأدافع عن نفسي"

أمومة هذه القطة أمومة هامش لا متن، كما تقول مرسال، أمومة معطوبة، كما تقول سارة.

الروح السادسة

شُلّت سارة عن مهام يومها، لا شيء سوى صوت القطط الصغيرة المُعذِب. 

للقطط سبعة أرواح. هؤلاء الصغار عنيدون ومتمسكون بالحياة. قالت سارة لنفسها: "على إيه؟ هنبقى نحكيلكم اللي فاتكم".

تمنت سارة أن تنتهي هذه القطط وتموت، وبدلاً من ذلك تُنهك ساعات اليوم الرملية سارة .

دخل عليها أخوها مستاء، وقال: "سارة، لو اشتريت لك لبن أطفال ترضعيهم؟". قالت لا مبالية: "مش عارفة. ماشي. بس بابا بيقول كدا كدا هيموتوا". ضحك أخوها باندهاش وسخرية: " أقسم بالله دا أنتو عيلة ملحدة". ضحكت سارة مما قال وانتظرت في غرفتها أن ينتهي هذا اليوم.

ورقة الاختبار مازالت في يد الله ليكتب إجابته.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image