شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عروس قطنية بزعانف سمكة

عروس قطنية بزعانف سمكة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والنساء

السبت 1 يونيو 202412:21 م



لم يكن جسدي ليختبئ في هذه الهيئة، لولا أنها ذهبت بي إلى بيت المجانين ذاك.

ما إن أمسكت كوب الشاي بيدي الواهنة، حتى سقط على رأس الجار المارّ في الشارع. تهشّم إلى أجزاء صغيرة، وانسكب الشاي الساخن على رأسه وقميصه الطحيني. أختبئ وراء سور البلكونة، أمنع جسدي البدين من أن يرتطم بكوع الكرسي، فيعرف الجار أنني الفاعلة. أسمع صيحاته وكلامه البذيء وأقول "من حقه"، لكن لا أُحرّك ساكناً.

تعرفون أنني لم أقصد طبعاً أن أرمي الكوب على أحد، فقد أردت أن أشربه إلى آخر رشفة ولو لمرة واحدة، لكن حكايات خالتي باولا أوقفت قلبي، وحالت بيني وبين توازني. الحمار المربوط في الشارع ينهق، والذبابة على ذيله تزنّ. منحتني باولا أحجاراً كريمة زرقاء، وأخبرتني أن أضعهم تحت مخدتي، وأن أقرأ "سورة الزلزلة" كل ليلة، وإلا فلن أتزوج أبداً. "لن يطأ رجلٌ ما بين فخذيك، إذا لم تسمعي الكلام": كانت تقول، وفعلاً تتالت الليالي وأنا أنفّذ ما أمرتني فعله. سبعون ليلة لم يعرف النوم إلى مخدعي سبيلاً، ولم يطأ رجل ما بين فخذي.

تزورنا باولا كل جمعة، نجلس في البلكونة، نرصّ أطباق الجبنة القريش والفيتا والاسطنبولي، والبيض المسلوق، والزعتر، والخيار، وزيت الزيتون وكوبين من الشاي الساخن للغاية، ووحدي أشربه بعود نعناع تارة، وتارة أخرى بالقرفة والتفاح. نأكل ونحن نسمع وردة: "وتاهت بينا تاهت، ليالينا ليالينا، وقولنا نرسي نرسي على مينا، مشينا وأدينا من غير أهالينا، ولا حد بيسأل فينا"، وتسألني: "هترسي على إيه يا سارة؟ مافيش حاجة كدة ولا كدة؟"، أومئ رأسي بغنج أي "لا"، وأغني: "اهدى حبيبي كده".

منحتني باولا أحجاراً كريمة زرقاء، وأخبرتني أن أضعهم تحت مخدتي، وأن أقرأ "سورة الزلزلة" كل ليلة، وإلا فلن أتزوج أبداً. "لن يطأ رجلٌ ما بين فخذيك، إذا لم تسمعي الكلام": كانت تقول... مجاز

تحط يمامة بيضاء على السور، ويطير الشال الأصفر من على كتفي، بينما تدسّ باولا الدبابيس في جسد عروس قطنية، تخزّق العيون، وتردّد: "من عين الحسود، من عين اللي يشوفك وما يصلي على النبي، ومن شر حاسد إذا حسد". تولع البخور، ترش عليه شيئاً لونه أحمر فاقع، تقول إن السرّ بداخله، وتدور بالبخور على دماغي، وفي كل ركن في البيت، ثم تعد لنا كوبي شاي وتأتي لتجلس على الكُرسي الخشبي أمامي، ونلوك الكلام في أفواهنا.

يهتزّ فرع الشجرة، الجهنمية تُرسل أوراقها الوردية إلى الأرض، وعمو مُراد يسقى زرعه، ثم يترك ساهياً خرطوم المياه على الإسفلت، فيمرّ الكلب بلسانه على المياه المنسابة... عطشان يا مسكين.

تمسك باولا بكف يدي بقوة، وتأخذني إلى مكان ما لم أدرك كنهه، سوى في اللحظة التي رأيت فيها النساء يضربن على الطبول، ويملن بأجسادهن الضخمة، يميناً ويساراً، بينما تهتز الأفخاذ والنهود والبطون تحت العباءات الضيقة: "حي حي، اللُه حي، حي حي". يتهادى صوتهن في نغمات متناسقة. أهمس لها: "زار يا خالتي؟"، فتخبط كفها على فمي: "اخرسي ولا كلمة، الليلة العقدة هتنفك، والسحر هيبطل، والعرسان هتترمى تحت رجليك". بينما رجلي تؤلمني من اللحظة، خيط رفيع كالليل يشدني إلى أسفل، وشعري ينسدل على ظهري كموج البحر، ورجل كالثور الهائج يحملق فيّ، وآخرون يخرّون راكعين طالبين الرضا. ترتفع الأيادي إلى أعلى، الأصابع تخبط على الطبول والرِق، الزائرون يصفقون، والرجال يجلسون على الأرض.

أنت تعلم أنني أنقل إليك ما رأيته بصدق. فإذا صوّبت نظرك من زاوية صغيرة، سترى الخلاخيل، والحلقان الفضية، والغوايش والخواتم في كل يد وقدم. ترتدي النساء الألوان الفاقعة (أحمر وأخضر وأزرق)، يرخين الحجابات على رؤوسهن، يتحرّرن من ثُقل التفاصيل. كفوفهن وأياديهن مخضّبة بالحناء البُرتقالية. الوشوم الخضراء مدقوقة في هيئة أسماك وثعابين وغزلان ولَبُؤات على الذقون.

تنهدّ المباني فوق دماغي، أريد أن أهرب وآكل صباع كفتة بعيش بلدي وطحينة، لكن باولا تجذبني من قفايا (رائحة الكفتة تداعب أنفي) وتشدّني إلى غُرفة جانبية (والعصافير تزقزق في بطني) بها إضاءة صفراء خفيفة، والهواء يتسلّل بالكاد من بين حيطانها القديمة. تسألني: "إنت رايحة فين؟". السماء ترتطم برأسي، وإذا بسيدة ذات جسد متين تأخذ ذراعي تحت ذراعها، وترسم وشماً (على هيئة أفعى) على كفي. الخفافيش تحوم في الغرفة، وقلبي يدق يدق، وسيدة أخرى، بنهود مترهّلة وشفاه حمراء غليظة، وأقدام مدهونة بالزيت تلمع وتبرق في انعكاس النور الذهبي عليها، تذبح دجاجة تتأوّه بين يديها، تمزق الرقبة، وتفصلها عن الصدر، فأتحسّس في خوف رقبتي وصدري وبطني.

تدنو مني، تلطخ بدمائها وجهي وشعري، وتُعرّي حيث أتحسّس جسمي، وبموس حاد النصل تجزّ شعري، وقطعة لحمة حمراء. تمسك بين يديها قطعة اللحمة، وتفرج فكيها عن ابتسامة خبيثة. تحفظ اللحمة في علبة من القطيفة، وتضع العلبة في الدولاب، وتقفل عليها بالمفتاح، وتخبئ المفتاح في صدرها. وبشاشة قطنية نظيفة، إلا من بقعة خردل، تمسح مكان ما قطعت، وتمشي عليها بأناملها ثلاث مرات.

والسيدة التي أتحاشى النظر إليها مُنذ أن خطت قدماي هذا المكان، تغيب في وصلة زغاريد طويلة، وتجذبني إلى حِجرها، بينما تقيّد يديّ خلف ظهري، وترسم بالمكحلة النحاسية كُحلاً في عينيّ. كحل حار كالشطة المولعة، جعل دموعي تتدفّق بإمعان كالسيل الجارف. تزغرد، والغربان تنعق على رأسي وطائر بخفّ حاد يحط بين ثدييّ، وينخز بمنقاره قلبي المرتعب.

وبحلاوة شعر تذوب بين أصابعها وتتمدّد، تشد عن جسمي الشعر كما تنتف من على الدجاج الريش، وتقول: "كده صرتي عروسة فُلّة".

بحلاوة شعر تذوب بين أصابعها وتتمدّد، تشد عن جسمي الشعر كما تنتف من على الدجاج الريش، وتقول: "كده صرتي عروسة فُلّة"... مجاز

على الأرض، أشعلوا النار في منقل من صفيح، وألقوا فيه ألواحاً خشبية، سُرعان ما راحت تشتعل، وعليها وضعوا البخور والملح، والأعمال، والهلاهيل، وأمرتني، بطرف عينها اليُسرى وهي تهشّ عصاها الثعبانية، أن أقفز على النار، وأروح وأٌجئ سبع مرات، وأن أخطو برجلي اليمين أولاً (اللهّم أجعلنا من أهل اليمين)، ومع كل مرة أخطوها، ينظر الرجل الثور فيّ من أسفل، ويشهق. وتردّد الست وهي تدق بالهاون: "اللهّم صلّي على كامل النور... اللهّم صلي عليك يا نبي".

تنمو الزعانف تحت إبطيّ، وتتلوّى الأفعى المرسومة على كفي، وتبدأ الأرواح الشيطانية في المثول أمام عينيّ في صورة نساء ورجال يمدّون أياديهم إلى جسدي، يخلعون عني ما تبقى يسترني، ويلحسون لاهثين العرق من مسام الجلد الناعم، ويأكلون بتوحّش لحمي. يمدّ رجل أنامله إلى عنقود عنب "مخضر ومسكر" نبت حول رقبتي، وتدلّى إلى بطني. يقطف حبة عنب تلو أخرى، ويعصرها في فمه. وينفرط حبّ الرمان على الأرض، يلتقطونه بألسنتهم، ويشتعل لونه على بشرتهم.

"وعادوا سُكارى في صفاتك كلهم" ويذهبون في النوم كالموتى، فأتمكن أخيراً من إفلات نفسي من أياديهم الثقيلة، وأتسلل من المكان المشؤوم. أعود إلى بيتي وأنا أحبو على قلبي، برائحة بخور، ودماء، وزفارة تترسّب على جلدي.

أقضي الليلة في البانيو، أدع الماء يدخل إلى المسام، والغربان تبني عشاً في سُرّتي. أزرع زهرتين حيث الثديين، وأرويهما بالماء، وأنام، وفي الصباح يتحوّل جسدي إلى حديقة. تنبت الثمار من كل خلية منها، وتأتي باولا كعاتها تبحث عني لاهثة في أرجاء البيت، لا تعثر علي، لكن رائحة زهر الليمون تنثر رائحتها فتتبعها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image