شعرت بالرعب حين قرأت على شاهدة جندي ألماني تاريخ ولادته، الذي يتطابق باليوم والشهر مع يوم وشهر ولادتي، مع فارق في عام الولادة أربعين عاماً.
كان ذلك في مقبرة القرية الصغيرة (بورنهاجن) التي قضيت فيها بعض الأشهر داخل كامب للاجئين، والقرية تتبع إدارياً لولاية تورينغن، وهي من ولايات ألمانيا الشرقية، قبل أن يتّحد غرب ألمانيا وشرقها، بعد سقوط جدار برلين، إثر انهيار الاتحاد السوفيتي السابق في عام 1991.
شعوري بالرعب- وهو درجة عليا من درجات الخوف- أظنّ أن منبعه القصص الكثيرة التي سمعتها في الطفولة عن أقارب وأشخاص، غادروا الوطن وماتوا في الغربة، من دون أن تتسنى لهم العودة، لقضاء سنواتهم الأخيرة في مدنهم الأصلية، وبين أهلهم وأصدقائهم ومعارفهم وذكرياتهم، وللحظة شعرت بأنني سأموت مثلهم غريباً في بلاد لم أخترها، لكنه قدر اللجوء السوري، الذي شمل ملايين السوريين، وبعضهم لم يكن ربما قد غادر في حياته قريته الصغيرة.
للحظة شعرت بأنني سأموت غريباً في بلاد لم أخترها، لكنه قدر اللجوء السوري، الذي شمل ملايين السوريين، وبعضهم لم يكن ربما قد غادر في حياته قريته الصغيرة
ومع ذلك، وجدتني وأنا أكتب نصوصي الأولى في ألمانيا، أضيف إلى جانب تاريخ الكتابة عبارة "في المنفى الألماني"، وليس "في المغترب الألماني"، وثمة فارق كبير بين العبارتين، فالأولى تنتمي إلى فضاء دلالي وثقافي، يتضمّن الغربة أيضاً، لكنه أوسع مفهومياً، أما تعبير المغترب، فقد لا تنطبق عليه مواصفات المنفى، وهو ما يشير إليه تزفتيان تودوروف (1939-2017)، أحد كبار نقّاد الأدب، عاش في المنفى الباريسي، بعد أن ترك بلده بلغاريا. يقول: "تشبه شخصية المنفي في بعض جوانبها المهاجر، وفي بعضها الآخر المُغرَّب. يُقيم المنفيّ مثل المهاجر في بلد ليس بلده، ولكنّه مثل يتجنّب التمثّل، وخلافًا للمُغرَّب، لا يبحث عن تجديد تجربته وزيادة حدّة الغربة".
تجربة النفي ظاهرة بشرية مستمرّة، وليست حكراً على تجربة شعب معين، وقد أسهم المنفى بشكل أو بآخر، في صقل التجربتين الإنسانية والإبداعية لعدد غير قليل من الكتّاب، وخصوصاً الكتّاب الأوروبين، بما فيهم الكتّاب الألمان، الذين اضطروا لمغادرة ألمانيا في العهد النازي، وقد أتاح المنفى لهم، ليس فقط استئناف الحياة العادية من دون إكراهات اللحظة السياسية، وإنما استئناف الكتابة، التي أصبحت في أحد أوجهها، محاولة لإثبات الوجود في مقابل العدم، فإذا كان النفي يحمل سمة عدمية، ويمثل شكلاً من أشكال الإعدام المادي والرمزي للكائن، فإن الكتابة، من هذا المنظور، تصبح تشبثاً بالوجود، وأيضاً، محاولة لردّ الاعتبار الفردي والجماعي.
في قلب هذا الصراع الذي يعيشه المنفي بين الوجود والعدم، هناك جانب تراجيدي إنساني عام، ليس حكراً على الكاتب المنفي، بل هو مشترك بين الجماعة المنفية، كما في حال الشعوب التي عرفت حالات لجوء جماعية، خارج أوطانها، كما في الحالتين الفلسطينية والسورية، تتمثل تلك التراجيديا في إحساس المرارة تجاه الماضي والمستقبل معاً، ما يدفع اللحظة الحاضرة –على الدوام- نحو القلق والتوتّر، وهو ما عبر عنه المفكر والأكاديمي، الفلسطيني الأمريكي، إدوارد سعيد (1935-2003)، بقوله: "النفي لا يقتصر معناه على قضاء سنوات يضرب فيها المرء في الشعاب هائماً على وجهه، بعيداً عن أسرته وعن الديار التي ألفها، بل يعني إلى حد ما أن يصبح منبوذاً إلى الأبد، محروماً على الدوام من الإحساس بأنّه في وطنه، فهو يعيش في بيئة غريبة، لا يعزيه شيء عن فقدان الماضي، ولا يقلّ ما يشعر به من مرارة إزاء الحاضر والمستقبل".
"النفي لا يقتصر معناه على قضاء سنوات يضرب فيها المرء في الشعاب هائماً على وجهه، بعيداً عن أسرته وعن الديار التي ألفها، بل يعني إلى حد ما أن يصبح منبوذاً إلى الأبد، محروماً على الدوام من الإحساس بأنّه في وطنه". إدوارد سعيد
وإذا ذهبنا من التراجيديا إلى علم النفس، في محاولة للفهم، تتجاوز التوصيف، فإن المنفى هو إحدى أقسى حالات الفقدان، بما فيها الموت، فالمنفى بيئة توترية في قلب تدفّق الحياة، تحتاج إلى إعادة تعريف مستمرّة، وربما يومية، في الوقت الذي يمكن فهم الموت بوصفه حالة حتمية، وظاهرة اجتماعية عامة، وليست خاصّة بفرد أو جماعة.
كان من شان الحداثة الأوروبية أن تضع العالم في حالة تضاد ثنائي، من قبيل تخلّف/ تقدّم، تنوير/ جهل، انفصال/ اتصال، قطيعة/ تواصل، بل ودفعت نحو فهم للعالم بوصفه بنى، وأنساق، وليس تاريخ الأدب في النصف الأول من القرن العشرين، سوى اشتباك وتفاعل مع تلك الثنائيات الضدّية، لكن تلك الضدية ذاتها، راحت تتراجع مع موجة ما بعد الحداثة، واتّساع موجة الشكّ بكل السرديات الكبرى، بما فيها سردية المركزية الأوروبية، التي تتضمّن أيضاً مركزية الكتابة الأوروبية، التي تتجاهل إلى حد كبير نسبياً النتاج الأدبي للشعوب غير الأوروبية.
لا يمكن للكتابة في المنفى إلا أن تكون أمينة لحالة اللايقين بالسرديات الكبرى، وإعادة النظر فيها بعين ناقدة، فالمنفى بوصفه توتّراً، لا يهدأ، فإنه يجد ضالته في نفي اليقين بالسرديات الكبرى، ويعيد الاعتبار لفكرة الهامشي، والمهمّش، في مواجهة سلطات البنى السردية، والتلذّذ في الشكّ الدائم بما ينبثق عنها.
تتحرّر الكتابة في المنفى نسبياً من الانتماء، وبهذا تتمكّن ربما للمرة الأولى في تاريخها من إعادة صياغة معاني الزمان والمكان، أو حتى التنكّر لهما، أو التلاعب بمنطقية كليهما.
بهذا المعنى، تتحرّر الكتابة في المنفى نسبياً من الانتماء، وبهذا تتمكّن ربما للمرة الأولى في تاريخها من إعادة صياغة معاني الزمان والمكان، أو حتى التنكّر لهما، أو التلاعب بمنطقية كليهما، وفرض شروطها الخاصّة، من دون الزعم بالمنطقية، أو بضرورة تلك المنطقية، وربما، سيكون علينا أن ننتظر ولادة كتابات جديدة، تؤسّسها تجربة المنفى، أكثر حيوية، وأكثر ذاتية، وربما أكثر حميمية، وربما أكثر عزلة، وغير خاضعة لشهوة الحضور الإعلامي، وبذلك، تنتج نوعاً جديداً من القرّاء، باتوا هم أيضاً يشعرون بامتداد المنفى، حتى لو كانوا يعيشون في أوطانهم، فلم يعد المنفى تجربة جغرافية، بل تجربة تتخطى سردية الجغرافيا نفسها.
الآن، لست مرتعباً من تطابق مولد الجندي الألماني الميت مع تاريخ ميلادي، فقد أصبح جزءاً من النص، وهو الآن حيّ، وأنا أعيد صياغته في كتابة تسعى لتقليل المسافة بين الذات والمنفى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 5 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه