شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"ألس جوت، ألس كلار"... سترة واقية من الرصاص في ألمانيا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الأحد 24 مارس 202412:21 م
Read in English:

“Alles gut.. Alles kla”: The refugee experience and its empty pleasantries

لحظة وصولي إلى الكامب في بون هاجن، في محطة اللجوء الثانية، بانتظار قرار اللجوء، كان هاجسي الأول أن أجد منفذاً إلى شبكة الإنترنت، فأخبرتني موظفة السوسيال أن الشيف ألكسي، المسؤول الأول في الكامب، يمكن أن يساعدني في ذلك. وأليكسي مواطن سابق في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، أصبح مواطناً في ألمانيا الفيدرالية، بعد توحيد شطري هذا البلد الغربي، عقب سقوط الاتحاد السوفياتي وجدار برلين وانهيار المنظومة الاشتراكية في العالم. 
كان الحلّ الذي طرحه الشيف أن أشترك في باقة الإنترنت الخاصّة بالكامب، وأن أدفع مقابل ذلك 10 يورو، فأنجزت ذلك من خلال تطبيق، وعند إتمام عملية الاشتراك، سألني ألكسي الستيني: "ألس جوت"، فقلت "ألس كلا"، لكن المفاجأة كانت أن موبايلي لم يتّصل بالإنترنت، فسألت ألكسي عن السبب، فأوضح بلهجة تقريرية باردة: "الاشتراك في تطبيق الإنترنت الخاص بالكامب يعني أنك سجّلت فيه، لكن لا يعني بالضرورة أن تتمكّن من الوصول إلى الإنترنت. فأجهزة الاستقبال في محيط الكامب ضعيفة جداً". وقد عرفت مباشرة أن ما جرى هو عملية قانونية، ولأنها قانونية، فإنه ينطبق عليها المثل القائل: القانون لا يحمي المغفلين. 
عزيزي القارىء: "إذا حاولت  البحث في غوغل عن قرية بون هاجن، فإنك على الأغلب لن تجدها، فهي قرية نائية، عدد سكانها لا يتجاوز مئة نسمة، وأبرز معالمها كامب اللاجئين، وطاحونة، وبقالية ليس فيها بائع".
عزيزي القارىء: إذا حاولت بعد قراءة المقدمة السابقة البحث في غوغل عن قرية بون هاجن، فإنك على الأغلب لن تجدها، فهي قرية نائية في ولاية تورينغن، عدد سكانها لا يتجاوز مئة نسمة، وأبرز معالمها كامب اللاجئين، وطاحونة قديمة، ومطعم يقصده بعض أهالي المنطقة في الصيف، وبقالية تبيع الحليب والزبدة وبعض المعلبات، وليس فيها بائع، أي باختصار، خذ غرضك، وضع ثمنه في صندوق مخصّص لهذا الغرض. 
خلال الأشهر الثلاثة الأولى، بعد تقديم طلب اللجوء، كانت الجملة الأكثر تكراراً من قبل الموظفين الألمان، هي سؤالهم اللاجىء حال مقابلته: "ألس جوت"، وكان معظم اللاجئين يرددون، وكأن السحر قد مسّهم: "ألس كلا". 
هل أنت بخير، وهل أمورك على ما يرام، وهل هناك أمر ما يزعجك، وسواه من أسئلة الاستفهام عن الحال، كلّ هذه المعاني تحملها جملة "ألس جوت"، لكن، هل فعلاً يقصدها السائل، وهل هو معني بمعرفة أمورك، ومستعد للاستماع إليك؟ 
في كلّ اللغات تقريباً، هناك تحويل لغوي، يحدث خلاله استبدال للمعنى الحرفي بالمعنى المجازي، لكن عبر هذه العملية، قد تحدث عملية إلغاء للمعنى الأصلي، فلا يعود هناك من معنى حرفي أو مجازي، فكما في المثل السابق، فأنا عندما اشتركت بتطبيق الإنترنت الخاص بالكامب، اعتقدت أن الاشتراك يعني الوصول الحتمي إلى الشبكة، لكن كان هذا فهمي الحرفي لمعنى الاشتراك، لكن في الحقيقة، كان ذلك مجرّد تخمين من قبلي لا صلة له بواقع الحال، وكذلك الأمر، فحين يسألك أحد عن أمورك، فهذا قد يعني أن الأمر ليس سوى مجاملة اعتيادية، لكن أن تفقد هذه الجملة حتى معناها الاعتيادي، وتصبح حاجزاً بين السائل "المواطن" وبين من يُسأل "اللاجىء"، فهذا أمر لا يمكن تخمينه بسرعة. 
أطلقَ الألمان في صحافتهم على سياسة فتح الأبواب التي اتبعتها أنجيلا مركل، المستشارة السابقة للبلاد، مع اللاجئين في عام 2015، مصطلح "ثقافة الترحيب"، قاصدين بذلك الترحيب بالفارين من ويلات الحرب في سوريا، وقد ترافق ذلك، في كلّ البلاد الأوروبية، مع استخدام جملة من المصطلحات التي تصبّ في مصلحة الاندماج، خصوصاً أن بعد أن ضربت جائحة "كورونا" معظم اقتصادات العالم، وبدأت تكشف عيوب كثيرة في دولة الرعاية الأوروبية. 
لن يكون مباغتاً بالنسبة لي على الأقل، كصحافي عمل وزار دولاً عديدة، أن تسأله سيدة ألمانية ثمانينية في المقهى عن سبب تحدثه بالإنجليزية بدلاً من الألمانية، وعبثاً شرحت لها أنني لاجىء منذ أشهر قليلة لا غير، لكن تبريري لم ينل استحسانها، فراحت تتحدّث وتستفيض عن ضرورة التكلّم باللغة الألمانية، وهو ما نقله لي أحد الللاجئين القدامى، الذي صادف وجوده قريباً من طاولتي، وأقصد بعدم المباغتة، أنني لم أتفاجأ من حماستها للغتها، فقد قرأت سابقاً، وفي سياقات عديدة، عن وجود مستوى من التعصب القومي للغة عند الألمان، وخصوصاً كبار السنّ. 
لقائي بهذه السيدة، جعلني أشعر بأنني لست بخير، وبأن مشوار السنوات المقبلة من اللجوء قد لا تكون على ما يرام، والأمر لا يتوقف عند امرأة التقيتها مصادفة في مقهى، بل بمواقف عديدة أخرى، وجدت نفسي أستمع فيها لمحاضرات عن "الشخص الجيد"، والمقصود "اللاجىء الجيد"، وهو الذي يسعى للاندماج السريع، ليس فقط في سوق العمل، وإنما في اللغة والثقافة والعادات، أي باختصار أن يحدث تحولاً شبه جذري في كلّ شيء يمسّ حياته. 
لن يكون مباغتاً بالنسبة لي، كصحافي عمل وزار دولاً عديدة، أن تسأله سيدة ألمانية ثمانينية في المقهى عن سبب تحدثه بالإنجليزية بدلاً من الألمانية، وعبثاً شرحت لها أنني لاجىء منذ أشهر قليلة لا غير، لكن تبريري لم ينل استحسانها
معظم من التقيتهم هنا في الدوائر الحكومية من موظفين، أو حتى طبيب العائلة، يلقون عليّ هذا السؤال الجارح" ألس جوت"، ولأنني حاولت مراراً أن أشرح في مناسبات غير قليلة بأنني لست بخير، من دون أن أجد اهتماماً عند السائل، الذي سرعان ما يغيّر دفة الحديث، ويغير معها نبرة صوته، أصبحت أجيب بلا مبالاة "ألس كلا"، كل شيء على ما يرام. 
في سؤال معظم الألمان عن أحوالك فيما إذا كانت بخير، تتحوّل جملة "ألس جوت.. ألس كلا" إلى سترة واقية من الرصاص، الهدف منها إغلاق المنافذ أمام كلّ معرفة حقيقية بالأفكار والمشاعر والذكريات والآلام والدموع التي تعانيها وحدك لا شريك لك. 
في سؤال معظم الألمان فيما إذا كنت بخير، تتحوّل جملة "ألس جوت.. ألس كلا" إلى سترة واقية من الرصاص، الهدف منها إغلاق المنافذ أمام كلّ معرفة حقيقية بالمشاعر والذكريات التي تعانيها وحدك لا شريك لك
إذا كان اللاجىء السياسي والإنساني قد فرّ من عالم العسف والدم والاعتقال والترهيب، فذلك كي يأخذ على الأقل نوعاً من الاستراحة، ليستجمع بعض قواه، كي يتنفس بعض الحرية، ويضمّد جراحه الطرية، لا أن يتحوّل الاندماج بالنسبة له إلى منفى يزيد من حدّة معاناته، وإلا تحوّل عالم اللجوء إلى نظام استبداد جديد، لا ينفع معه أي سؤال عن الأحوال، ومع ذلك، عزيزي اللاجىء: "الس جوت... ألس كلا".

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

"نؤمن في رصيف22، بأن متابعة قضايا العرب خارج العالم العربي، في المهجر/ الشتات/ المنفى، هي أيضاً نظرة إلى أنفسنا، وإلى الأسباب التي اضطر -أو اختار- من أجلها الكثيرون إلى الهجرة بحثاً عن أمانٍ في مكانٍ آخر، كما أنها محاولة للفهم وللبناء وللبحث عن طرائق نبني بها مجتمعات شاملةً وعادلةً. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image