شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
لماذا تراجعت أدوات الصراع الإسرائيلية؟ تقرير إستراتيجي يفنّد فشل سياسات الأمس واليوم

لماذا تراجعت أدوات الصراع الإسرائيلية؟ تقرير إستراتيجي يفنّد فشل سياسات الأمس واليوم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

هذا المقال مأخوذ -مع تصرّف- من تقرير مدار الاستراتيجي 2024، وينشره رصيف22 بالتعاون مع المركز الفلسطيني للدراسات الاستراتيجية، وهو يستعرض الأحداث والمتغيرات المفصلية التي شكلت علاقة إسرائيل بالمشهد الفلسطيني خلال العام 2023 ومعانيها وإسقاطاتها في ظل الواقع المركب والمضطرب الذي تتسم به المرحلة. 

 أدوات "إدارة الصراع" الإسرائيلية

 عام 2023 هو عام التحولات المفصلية: هجوم 7 أكتوبر، والحرب الإسرائيلية على غزة.  إسرائيل تسيطر على مناطق إستراتيجية في قطاع غزة تاركة سؤال "اليوم التالي" مفتوحاً. وزارتان مفتاحيتان بيد المستوطنين مع تصاعد إرهابهم المنظم،  ولحظة تاريخية من التضامن والتعاطف الدولي مع الحقوق الفلسطينية. لكن ما زالت ارتدادات 7 أكتوبر والحرب على غزة مستمرة؛ وما زالت المرحلة مفتوحة على التدحرج باتجاهات مختلفة ومتناقضة وخواتمها النهائية ضبابية؛ لذلك فإنه من المبكر الخروج باستخلاصات إستراتيجية حاسمة خاصة في ظل الارتدادات العالمية المستمرة للحرب. 

تحييد السلطة الفلسطينية، تسريع الاستيطان، احتواء حماس، وحصار القطاع. هي الأسس التي قامت عليها استراتيجية إسرائيل في إدارة الصراع مع الفلسطينيين خلال العقد المنصرم، لكن هذه الأدوات تغيّرت وصارت أكثر شراسة بعد السابع من أكتوبر، المقال يستعرض الأدوات الإسرائيلية اليمينية الجديدة 

فخلال العقد المنصرم، وبتوجيه من حكومات نتنياهو المتعاقبة، قامت سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين على إستراتيجية "إدارة الصراع" التي شكلت أداة في اتجاه حسم الصراع تدريجياً. اعتمدت هذه الإستراتيجية على أسس، هي: 

أولاً... سياسة تحييد السلطة الفلسطينية

كإغلاق قنوات التواصل السياسي مع السلطة الفلسطينية وقصر التواصل معها على الشؤون الإدارية والأمنية. وتوسيع النفوذ الأمني والأعمال الحربية الإسرائيلية لتشمل كافة مناطق وجود السلطة الفلسطينية. واستخدام العلاقة المالية كمنظومة ثواب-عقاب تجاه السلطة مقابل تسهيل التعامل الاقتصادي للفلسطينيين مع السوق الإسرائيلي.

ثانياً... تسريع الاستيطان والتهويد

والإسراع في الاستيطان ودعمه من المجتمع المدني الصهيوني النشط، وتبنيه من قبل الحكومات الإسرائيلية.

ثالثاُ... احتواء حماس

إبقاء حماس قادرة على ممارسة الحكم في قطاع غزة وردعها في الوقت نفسه. وتبني معادلة "الاقتصاد مقابل الهدوء" التي شملت إدخال المنحة القطرية ومنح تصاريح للعمال في مقابل الحفاظ على الهدوء الأمني.

رابعاً... حصار القطاع

فرض حصار بري وبحري وجوي على قطاع غزة، وتعزيز فصل القطاع عن الضفة الغربية، واستخدم الحصار المالي والاقتصادي كمنظومة ثواب-عقاب تجاه ممارسات "حماس" وبناء على فعالية منظومة الردع العسكرية. 

أين فشلت إسرائيل في إدارة الصراع؟ 

بيد أن إستراتيجية "إدارة الصراع"، التي نجحت في إحباط إقامة دولة فلسطينية ووفرت بيئة لتسريع الاستيطان وتعميق التهويد، كانت في الواقع تحمل تناقضاتها:

التناقض الأول: غياب أفق سياسي أمام السلطة الفلسطينية وإضعافها دفع باتجاه نمو المقاومة والمجموعات الفلسطينية المسلحة وتآكل قدرة السلطة على بسط سيطرتها خاصة في المخيمات، وهو ما يعني أن تكلفة الحفاظ على إستراتيجية "إدارة الصراع" بالنسبة لإسرائيل كانت تتطور بشكل متناقض مع أهدافها وتدفع إلى تفجير الوضع ميدانياً وإلى تغذية الغضب الشعبي، وهو ما يصعّب صيانة "الوضع القائم" بالمستوى المباشر. 

أحد عواقب الاستراتيجية الإسرائيلية هو أن غياب أفق سياسي أمام السلطة وإضعافها دفع باتجاه نمو المقاومة والمجموعات المسلحة، وتآكل قدرة السلطة على بسط سيطرتها، خاصة في المخيمات.

التناقض الثاني: تسهيل نمو المشروع الاستيطاني جعل مسألة ضم الأراضي "ج" برنامجاً عملياً لا مفر منه تشارك في تنفيذه معظم الوزارات الإسرائيلية. هذا يعني أن تسارع الاستيطان يجعل من الصعب استمرار "الوضع القائم" بدون إدخال تحولات بنيوية على طبيعة المشروع الاستيطاني من خلال نقل إدارة شؤون المستوطنين من مؤسسات الاحتلال (القيادة الوسطى للجيش والإدارة المدنية) إلى وزارات مدنية، الأمر الذي يتعارض مع مفهوم "الاحتلال العسكري" (Belligerent Occupation) حسب القانون الدولي.

التناقض الثالث: إستراتيجية احتواء حماس بهدف إدامة الانقسام الفلسطيني، سمحت لحركة حماس بالاستثمار في قوتها العسكرية وتطوير قدراتها الهجومية، وتطلب من إسرائيل، باستمرار، الانخراط في جولات قتالية انتهت بهجوم 7 أكتوبر.

لقد شكل هجوم 7 أكتوبر "نقطة تحول"؛ وأثبت فشل إستراتيجية إدارة الصراع بشكلها الذي كان قائماً قبل الهجوم، وما زالت معالم المرحلة القادمة والأسس التي ستتبناها إسرائيل تجاه الفلسطينيين في "اليوم التالي" غير واضحة. 

7 أكتوبر وأنواع الفشل الإسرائيلي 

شمل هجوم 7 أكتوبر  9 مراكز عسكرية واستخباراتية إسرائيلية، وسيطرت حركة حماس وبعض الفصائل على بعضها سيطرة كاملة، واقتحمت نحو 22 مستوطنة وكيبوتساً وبلدة إسرائيلية. وقد خلّف الهجوم بحسب المصادر الإسرائيلية نحو 1200 قتيلاً إسرائيلياً (جزء منهم بنيران إسرائيلية أثناء التصدي العشوائي للهجوم)، بالإضافة إلى نحو 250 أسيراً إسرائيلي بين مدني وعسكري.

استراتيجياً، شكل الهجوم فشلاً شبه مطلق بالنسبة لإسرائيل على ثلاثة صعد، هي 

1) فشل سياسي لإستراتيجية احتواء حماس على أساس إبقائها مردوعة ومشغولة بالحكم الداخلي.

2) فشل استخباراتي في توقع الهجوم.

3) فشل عسكري ميداني في التعامل مع الهجوم خلال الساعات الخمس الأولى الأمر الذي جعل نتائج الهجوم كارثية بالنسبة لإسرائيل. وقد أعلنت إسرائيل في اليوم نفسه أنها في حالة حرب، واستدعت أكبر عدد من الاحتياط في تاريخها (وصل إلى نحو 360 ألف جندي)، وبدأت بشن حرب تعتبر الأعنف في الحروب الحديثة على مستوى العالم.

القضية الفلسطينية في مواجهة أسئلة كبرى  

وقد حددت الحكومة الإسرائيلية أهدافاً واضحة للحرب تتمثل بتقويض حكم حماس وقدراتها العسكرية وإعادة المحتجزين وتحويل قطاع غزة إلى مكان لا يشكل تهديداً أمنياً لإسرائيل.

لكن يثير الهدف الأخير أسئلة عديدة باعتباره هدفاً ضبابياً نظراً لما ينطوي عليه من أبعاد سياسية غير واضحة حتى الآن، يتم عادة التعامل معه في الخطاب الإسرائيلي والدولي تحت عنوان "اليوم التالي": ما هي طبيعة وشكل السلطة التي ستدير غزة في اليوم التالي للحرب، ما هي صلاحياتها؟ ماذا ستكون طبيعة علاقتها مع إسرائيل وكيف سينعكس الأمر على أمن إسرائيل؟ ما هو مصير الحدود بين قطاع غزة ومصر؟. 

لأن هجوم 7 أكتوبر جاء بعد عقد ونصف من حكم اليمين بقيادة بنيامين نتنياهو ومن إستراتيجيته "القوة تحقق الأمن والهدوء"، فإن الخلاصة التي خرج اليمين أن القوة التي استخدمت لم تكن كافية، لذلك فإن المطلوب هو مزيد من القوة

تتخذ هذه الأسئلة أهمية خاصة في ظل رفض إسرائيل حتى اللحظة عودة السلطة الفلسطينية "المتجددة" التي طرحتها جهات متعددة؛ والرفض الشامل لأي حديث عن دولة فلسطينية. في المقابل، تشير ممارسات إسرائيل على الأرض أنها تدفع نحو نماذج غير واضحة تشمل الاستعانة بقوى "غير معادية" مرة، وإحياء نموذج "روبط القرى" بصيغة متجددة تقوم على العشائر مرة أخرى، وكلها تعثرت ولا يبدو أنها قابلة للنجاح.

وتلعب الطبيعة الاستيطانية الدينية المحافظة للائتلاف الإسرائيلي، وما تحمله معها من حسابات ائتلافية تطوِّع السياسة الإسرائيلية بهدف الحفاظ على استمرارية الائتلاف، دوراً رئيساً في التأثير في ديناميات الحرب ومجرياتها، على الرغم دخول حزب أزرق-أبيض في حكومة الحرب. تقوم سياسات الأحزاب اليمينية المتنوعة المشاركة في الائتلاف على مجموعة من الفرضيات المتعلقة بالقضية الفلسطينية:

1) الأمن الذي يجلب الهدوء يتحقق فقط من خلال القوة، أو بمزيد من القوة.

2) إقامة دولة فلسطينية هو خطر أمني.

3) بالإمكان استمرار السيطرة على الفلسطينيين على المستوى الإستراتيجي.

ونظراً لأن هجوم 7 أكتوبر جاء بعد عقد ونصف تقريباً من حكم اليمين بقيادة بنيامين نتنياهو ومن إستراتيجيته "القوة تحقق الأمن والهدوء"، فإن الخلاصة التي خرج اليمين  أن القوة التي استخدمت لم تكن كافية، لذلك فإن المطلوب هو مزيد من القوة.

وعلى المستوى العام عزز الهجوم من الاعتقاد الذي روجه اليمين من أن "الدولة الفلسطينية خطر أمني"، وانتشر بين أغلبية الإسرائيليين في الطيف السياسي؛ وأظهر استطلاع رأي نفذه معهد الديمقراطية الإسرائيلي بعد أشهر قليلة من بدء الحرب أن 77.5٪ من الإسرائيليين يرون بأن الدولة الفلسطينية في حال قيامها ستستمر بـ "الإرهاب" ضد إسرائيل أو تؤدي إلى تفاقمه. 

أدوات إسرائيلية جديدة للصراع 

إلى جانب أهداف الحرب المعلنة، قامت إسرائيل بمجموعة من الممارسات التي تنطوي على مؤشرات سياسية حول اليوم التالي في غزة، لذا ووفق ما يصدر من تصريحات وتقييمات إسرائيلية في الأشهر الأخيرة، يمكن القول إن "اليوم التالي" هو فعلياً شكل جديد من "إدارة الصراع" تقوم على:

أولاً... ترسيخ "احتلال أمني"

على العكس من أساليب منظومة إدارة الاحتلال الإسرائيلي السابقة في قطاع غزة من حيث الاحتلال المباشر وإدارة حياة السكان من خلال منظومة الإدارة المدنية (1967-1993)، تظهر تدخلات إسرائيل في قطاع غزة بعد 7 أكتوبر أنها تتجه في المدى المنظور والقريب نحو تبني منظومة "احتلال أمني" على الأقل خلال 2024-2025؛ بحيث تتواجد عسكرياً في مناطق إستراتيجية داخل القطاع تمكنها من الإغارة المستمرة والسريعة وتتيح لها حرية العمل العسكري، وإقامة منظومة واسعة من المراقبة والسيطرة عن كثب على الغزيين. في هذا الإطار قامت إسرائيل بـ:

  • مصادرة نحو 16٪ من مساحة القطاع لبناء شريط عازل عن إسرائيل بعمق 1 كيلومتر.
  • شق طريق سريع يمتد نحو 6.5 كم، ويقطع شمال القطاع عن جنوبه؛ هذا الشارع يمكن الاستناد إليه فعلياً لتشييد "حدود داخلية" في القطاع وإقامة منظومة حواجز للسيطرة على التنقل بين شمال قطاع غزة ووسطه.
  • تضع إسرائيل أمامها هدف السيطرة على حدود غزة-مصر. 

من شأن هذه التغييرات وفي حال استمر التواجد الإسرائيلي داخل قطاع غزة وعدم انسحابها، أن تخلق تقسيمات جغرافية-إدارية جديدة قد تتجاوز تقسيمات اتفاقيات أوسلو (مناطق أ، ب، ج) وتخلق تصنيفاً إدارياً-أمنياً من نوع جديد، خصوصاً وأن إسرائيل تسعى إلى ترسيخ احتلال أمني بدون "واجبات" إدارية، وبالتالي تستدعي تحويلات في العلاقة السياسية، والتنسيقية، والاقتصادية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، على الأقل في قطاع غزة.

ثانياً... مسعى القضاء على حماس ومعضلة من يدير غزة؟

يمثل هدف القضاء على حركة حماس، وإنهاء حكمها للقطاع، هدفاً إسرائيلياً سياسياً وأمنياً. إن "تفكيك" أجهزة حماس الإدارية والأمنية والعسكرية يضع إسرائيل أمام مفترق طرق قد تنجم عنه 5 خيارات: 

على العكس من أساليب منظومة إدارة الاحتلال السابقة في غزة (1967-1993)، تظهر التدخلات الجديدة أنها تتجه في المدى المنظور والقريب نحو تبني منظومة "احتلال أمني" على الأقل خلال (2024-2025). 
  • انصياع إسرائيل لضغوطات دولية والانخراط بمسار سياسي-إستراتيجي يقوم على مبدأ حل الدولتين. على المدى القريب. وفي ظل المشهد الإسرائيلي السياسي الحالي المسيطر عليه من قبل اليمين المتطرف والمحافظ، يبدو هذا السيناريو غير قابل للتنفيذ. 
  • اعتراف دولي بدولة فلسطينية فقط في قطاع غزة وتتم إدارة غزة في المرحلة الأولى عبر قوات دولية فترةَ 5 سنوات تعمل على بناء دولة والتحضير لانتخابات؛ ويكون هذا النموذج قابلاً للتطبيق في الضفة بناء على النتائج التي يحققها في غزة.
  • الاستثمار سياسياً ودبلوماسياً في تشكيل إدارة فلسطينية جديدة في غزة تضمن الاستمرار في الانقسام الفلسطيني لعرقلة أي عملية سلمية أو تقدم سياسي. لقد عكست العديد من التقارير فشل محاولات إسرائيل في إيجاد بديل مدني مؤقت لإدارة قضية توزيع المساعدات الإنسانية، خصوصاً في شمال قطاع غزة، وقد عزت التقارير هذه الفشل إلى عدم بحث قضية "اليوم التالي" للحرب بجدية كافية لدى المستويات السياسية في إسرائيل.
  • الاستمرار في عرقلة حل الدولتين، وإهمال المسار السياسي المتعلق بمستقبل المسألة الفلسطينية، لكن مع استسلام إسرائيل لواقع أن السلطة الفلسطينية ستعود إلى قطاع غزة في اليوم التالي للحرب، مما قد ينهي الانقسام الفلسطيني. هذا سيناريو مقبول على المجتمع الدولي، وهو أحد المقترحات التي قدمتها الولايات المتحدة واشترطت القيام بإصلاحات مختلفة في "طبيعة" السلطة وهيكليتها. أما بالنسبة لإسرائيل، فهو يوفر عبء إدارة قطاع غزة لكنه يقوض إستراتيجية اليمين الإسرائيلي القائمة منذ 17 عاماً على مبدأ أن الانقسام سلاح إستراتيجي لتجميد المفاوضات السياسية.
  • أو أن تسلم إسرائيل بأنها فشلت في إسقاط حركة حماس أو استبدالها، وبالتالي التحضير لمخرج دبلوماسي (قد يكون على شكل مؤتمر إقليمي-دولي) لإعادة دمج حماس في اليوم التالي للقطاع، دون أن يتضح ما تبعات الأمر على أمن إسرائيل، وأمن مستوطنات غلاف غزة.

لا بد من التشديد هنا على أن إسرائيل، ومنذ الأسابيع الأولى للحرب، انتقلت في علاقتها مع القطاع من مرحلة الحصار (2005-2023) إلى مرحلة السيطرة المباشرة على السكان، دون أن تتضح معالم هذه السيطرة حتى الآن. تشير تدخلات إسرائيل خلال الأشهر السبعة الأولى من الحرب إلى أن هذا التحكم المباشر، الذي يتم فرضه عسكرياً وبشكل عنيف، إلى رفض إسرائيلي لاستمرار حكومة حماس في أخذ دور داخل قطاع غزة. وفي الوقت نفسه، يشير الأمر إلى عدم الرغبة بإقامة منظومة احتلال مباشر لإدارة حياة السكان في القطاع. وما زال المستوى السياسي في إسرائيل، حتى لحظة كتابة هذا التقرير، لا يطرح بديلاً عملياً أمام الجيش للكيفية التي سيكون عليها شكل النظام في غزة في اليوم التالي، الأمر الذي يجعل أداء الجيش المقاتل يقتصر على التدمير والإبادة بدون إستراتيجية سياسية واضحة.

ثالثاً... محاولة إلغاء عمل الأونروا

شنت إسرائيل حملة شعواء تستهدف وكالة الأونروا واتهمتها بالتواطؤ وتمويل الإرهاب والتحريض عليه. وأعلن يسرائيل كاتس، وزير الخارجية الإسرائيلي، في بداية العام 2024 أن الأونروا لن تكون جزءاً من المشهد الفلسطيني في قطاع غزة في اليوم التالي للحرب، فيما دفعت مجموعة الإجراءات التي اتخذت بحق الأونروا إلى أن تعلن الأخيرة في شباط 2024 وقف عملياتها في شمال قطاع غزة بسبب "انهيار النظام المدني". يشار إلى أن الأونروا في قطاع غزة تشغل نحو 13 ألف موظف، وتدير 22 مركزاً صحياً، و 284 مدرسة، وتعتبر لاعباً مركزياً ومتفقاً عليه دولياً في ما يخص القضايا المتعلقة بإعادة الإعمار (وهي عادة ما تكون خلافية في أعقاب كل جولة قتالية)، وتضخ مئات ملايين الدولارات في اقتصاد غزة؛ كما تلعب دوراً رمزياً نسبياً في الحفاظ على حقوق اللاجئين الفلسطينيين، وينظر إلى وجودها على أنه تأكيد على الالتزام الدولي بقضايا اللاجئين الفلسطينيين، وهو بالضبط ما تريد إسرائيل إنهاءه. ومن المرجح أن يؤدي انهيارها أو إضعافها من خلال تجفيف التمويل إلى: 1) تدهور كبير في الظروف المعيشية وتفاقم الأزمة الإنسانية وتقليل فرص الوصول إلى خدمات حيوية مثل التعليم والرعاية الصحية؛ 2) نقل المزيد من الأعباء الإدارية واللوجستية إلى هيئات الحكم المحلية أو غيرها من المنظمات غير الحكومية الأقل تجهيزاً، مما يزيد من أعباء سلطات الحكم في القطاع ويجعلها عرضه للابتزاز الدولي والإسرائيلي. 3) الدفع نحو دمج اللاجئين في البلدان المضيفة في حال شمل إنهاء عمل الوكالة الأردن، ولبنان وسورية والقدس، وبالتالي سيساهم في إنهاء قضية اللجوء، كقضية سياسية حقوقية، من خلال إذابة اللاجئين في الجغرافيات المستضيفة لهم.

رابعاً... التدمير الشامل للقطاع

يعتبر تدمير المباني في قطاع غزة من بين الأشد في التاريخ الحديث، ويضع تحديات حقيقة أمام الفلسطينيين قد لا تقل أهمية من حيث تبعاتها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والإغاثية عن النكبة. فقد تراوحت تقديرات الأضرار التي لحقت بالمباني بين 35٪ و70٪. وشهدت المنطقة الشمالية من غزة المستوى الأعلى من الدمار. بحلول كانون الأول 2023، اقترب مستوى الدمار في غزة من مستوى مدن مثل دريسدن (Dresden) في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية. ودفع حجم الدمار الخبراء القانونيين الدوليين إلى الإشارة إليه بأنه طراز مكثف من "إبادة المنازل" (Domicide): تدمير المنازل، غالباً كجزء من إستراتيجية أو نزاع أوسع نطاقاً، وهو تدمير متعمد للبيئة المنزلية، ومحو المساحة التي يعيش فيها الأفراد أو العائلات، غالباً بقصد إزالة وجودهم من منطقة معينة بشكل دائم.

ودمرت إسرائيل بين 38-48٪ من الغطاء الشجري والأراضي الزراعية في غزة بحلول آذار 2024. وحتى نهاية آذار 2024، أنتج القصف الإسرائيلي نحو 22.9 مليون طن من الأنقاض والمواد الخطرة، بما في ذلك الرفات البشرية، مما زاد من تفاقم الأزمة. ومع أن الصورة النهائية للحرب لن تتضح قبل انتهاء المعارك، فإن المراقبين يرون أن التدمير واسع النطاق، والتسبب في الكوارث الإنسانية، عادة ما يستخدم كتكتيكات استعمارية لإعادة تشكيل ديناميكيات السلطة، وإدارة اليوم التالي وفق أجندة الدولة المعتدية، وغرس شعور عميق بالخوف واليأس في الوعي الجماعي حول جدوى المقاومة.

خامساً... العمال الفلسطينيون

منعت إسرائيل بعد 7 أكتوبر عمال الضفة من الوصول إلى داخل الخط الأخضر، في المقابل سمحت لنحو 14 آلف عامل بالعمل في المستوطنات وهو ما يشكل نحو 50٪ من عمال المستوطنات. وتعكس هذه الخطوات وجهة إستراتيجية الحكومة الإسرائيلية لليوم التالي للحرب (التي لم تتضح معالمها بعد أثناء كتابة هذا التقرير)، تتفحص إسرائيل قدرتها على، واستعدادية سوقها للتخلي كلياً عن العمالة الفلسطينية وإمكانية استبدالها بعمالة أجنبية رخيصة. وقد أشارت كل التقارير الصادرة عن مستويات مهنية (بنك إسرائيل المركزي، اتحاد المقاولين الإسرائيليين، المستوى الأمني-الاستخباراتي، وغيرها) بأنه لن يكون هناك مفر، على المدى المنظور، من عودة العمال إلى العمل، خصوصاً بعد فشل عدة محاولات لجلب عمالة رخيصة بديلة؛ هنا لا بد ن التنويه إلا أن مسألة العمالة الفلسطينية لا تخضع بالدرجة الأولى إلى اعتبارات السوق (العرض والطلب)، وإنما هي مركب أساسي من مركبات السيطرة الإسرائيلية الأمنية-السياسية على سكان الأرض المحتلة. إن التفكير الجدي، داخل دوائر اليمين واليمين المتطرف الإسرائيلي، في إلغاء العمالة الفلسطينية على المدى الإستراتيجي تأتي في سياق "العقاب الجماعي" الذي قد يعني أن سيطرة إسرائيل على الفلسطينيين مستقبلاً قد تعتمد أكثر على التدخل العسكري العنيف. 

للاطلاع على كافة فصول التقرير، يمكن زيارة موقع المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار".  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

0:00 -0:00
Website by WhiteBeard