في كلّ مرّة أشارك فيها صورة عبر خاصية ستوري على فيسبوك، تصلني رسائل من صديقاتي أيام الدراسة الجامعية، تلك التي انقضى عليها ما يقارب الاثنتي عشرة سنة، رسائل من نوع: "ما شاء الله شو حليانة"، "متغيرة كتير رؤى". أفرح كثيراً بها، أتحسّس صدقها، فمرسلاتها إناث لا يردن مني "ذلك الشيء" الذي حذّرتني أمي من أن الرجال ‑كل الرجال‑ يريدونه مني، فيبذلون في سبيل الحصول عليه كل ما في جعبهم من كلام معسول، فلا يجب عليّ أن آمن لهم أو أصدّق أي إطراء يقدمونه لي.
ولأنني أنسى كثيراً، لم أفكر في الأمر طويلاً، وعزوت إطراءات زميلاتي، التي حسبتها مبالغاً بها، إلى خسارة الوزن وتغيير تسريحة شعري، أو أنني ربما لم أنجرف في الأمومة نحو التحوّل إلى كائن مضمحلّ، يضحّي بكل شيء، حتى في وقت ترتيب نفسه، لذا لم أتكبّد عناء البحث عن صور قديمة لي لإجراء مقارنة، كما أن الفلاش ميموري التي احتوتها أصلاً قد تدمّرت بالكامل، ولم أكن في تلك الفترة أفضّل مشاركة صوري على فيسبوك، إلى أن فاجأتني صديقة ذات يوم وأرسلت لي صوراً جمعتنا في دمشق.
ضاق صدري حقاً بما رأيت وانتابتني مشاعر ثقيلة بشعة، أطفأت شاشة الهاتف ورميته جانباً، أشحت وجهي بفزع، أردت أن أغور في الأرض فقط. لقد شعرت لوهلة كما لو أنني رأيت ألدّ أعدائي وقد بانت عليه ملامح الانكسار، فلا أنا أستطيع مسامحته ولا أملك طاقة نزاله. كان في الصور فتاة تشبهني لكنها ليست أنا، فتاة لا تشبهني لكنها أنا، بوجه منتفخ وعينين غائرتين وابتسامة ناقصة وجسد بدين، تتصنّع الطرافة في وضعيات التقاط الصور، علّها تلاقي القبول في الآخر "لخفّة دمها الظاهرة"، بعد أن يئستْ من أن يطرق شكلها أبواب القبول. فتاة تعاني الرفض للجسد الذي حبست فيه، رغم أن أبواب سجنه كانت مفتوحة دائماً!
عندما رأيت صوري القديمة، أردت أن أغور في الأرض فقط. لقد شعرت لوهلة كما لو أنني رأيت ألدّ أعدائي وقد بانت عليه ملامح الانكسار، فلا أنا أستطيع مسامحته ولا أملك طاقة نزاله
لا يمكن التحكّم في سيل المشاعر التي تأتي مرتدة كموجة عارمة تتكسر على الشاطئ، أقصى ما نستطيع فعله _كما يملي علينا الوعي_ هو الوجوم ومحاولة استيعاب ما حدث، ثم أخذ شهيق عميق واتخاذ قرار جريء بالنبش في جثة الماضي، لتحديد المكان التي تصدر منه هذه الصرخة الممزوجة بالعفونة الشعورية، تلك التي تحاول ثنينا ودفعنا إلى إغلاق المقبرة الجماعية، رغم يقيننا بسماع أنين من الأسفل.
يتطلب الأمر إنسانية كبيرة، أطناناً من الرأفة بنفسك، لتمدّ يدك وتبحث بين الأشلاء المتفسّخة عن الشعور الحي، دودة ماضيك القميئة التي أحالتك فراشة اليوم، لتأخذها بيدك، تطبطب عليها، تقبلها، ثم تنفخ عليها غبار محبتك، فتطير بسلام.
مجهولة الهوية الشكلية
لم يخبرني أحد أنني جميلة طوال عشرين عام، قد لا يصدقني من يرى صوري في طفولتي. كنت جميلة جداً ككل الأطفال في كل بقاع الأرض، ولا أدري كيف استطاع مجتمع يمجّد البشرة البيضاء والشعر الذهبي والعيون الشهل أن يصمت عن التعبير ولا يزلّ لو لمرة واحدة، زلة واحدة ربما كانت رصاصة الرحمة في صدر الغول الأخضر الذي سكنني أعواماً طويلة.
في الحقيقة أن أمي هي التي لم تشأ يوماً أن تلفت نظري إلى جمال الشكل. كانت تحكي لنا دوماً، أنا وأخواتي، عن كون الشكل قشرة تافهة، أما الجمال الحقيقي فيكمن في العفّة والصوت المنخفض والتحصيل العلميّ فقط. رأيتها بأم عيني مراراً ترفع حاجبيها في وجه قريباتها ليتوقفن عن توجيه الإطراء لنا قبل أن ينطقن به كلما رأيننا بعد مدة من الغياب، ولا أذكر أنني سمعتها تطري على أشكالنا أبداً. كانت لا تفوّت فرصة أن تحكي لي قصصاً عن امرأة "ضحك عليها" رجل، وأوهمها أنها جميلة ليأخذ منها ذلك الشيء، وأخرى "ملكة جمال" لكنها كثيرة الميوعة وكسولة في المدرسة، ثم تختم الحديث بشفتين مقلوبتين ناطقتين بعبارة واحدة: "شو نفع الجمال؟".
أمي، التي أدركتُ متأخرة نبل مساعيها، لم تشأ أن أكون فتاة جميلة فحسب، وكانت تظن أنها بسلوكها هذا تحثّني لأن أجمع الجمال (الذي ظنّت أنني أعي حصتي منه) مع العلم والتهذيب في شخصية واحدة. كانت تظنّ أننا، وبمجرد نظرنا في المرآة، ندرك كم نحن جميلات، متناسية بأننا في طفولتنا الأولى نرى أنفسنا كما يرانا الآخرون، أو كما يقول عنّا الآخرون، على وجه الدقة.
لم يخبرها أحد أن قبول الذات مهارة يتعلّمها الأطفال كما يتعلّمون أسس الرياضيات وقواعد اللغة، وأن كتيّب "تعلمها في خمسة أيام وبدون معلم" لم يصدر بعد، وأن من يقطع مرحلة الطفولة دون أن تلقنه العائلة بحب كل عبارات المديح والقبول سينشأ أميّاً في التعامل مع ذاته.
لم يخبر أمي أحد أن قبول الذات مهارة يتعلّمها الأطفال كما يتعلّمون أسس الرياضيات وقواعد اللغة، وأن كتيّب "تعلمها في خمسة أيام وبدون معلم" لم يصدر بعد، وأن من يقطع مرحلة الطفولة دون أن تلقّنه العائلة بحب كل عبارات المديح والقبول، سينشأ أميّاً في التعامل مع ذاته
صمت من طرف، وسخرية الأولاد من طرف، هكذا نشأتُ طفلة كتلك التي غنّت لها فيروز: "حلوة، وما بتعرف أنها حلوة"، فلو كنت عرفت لما جلست ثلاث ساعات في ظهرية حزيرانية تحت الشمس، لأنني سمعت حديث أمي والجارات بأن "السمر مجذبات، أما البيض فباهتات"، ولا قصصت رموش عين واحدة في الإعدادية على سبيل الاختبار، بعد أن حكت لي صديقتي عن رموش قريبها الطويلة جداً بسبب قصّه المستمر لها. "كل ما يقصّها تطول أكثر"... رنّت في أذني العبارة والمقصّ بين أصابعي، أنا التي سمعت دوماً عبارات السخرية من رموشي الواهية ومقارنتها برموش أخواتي السوداء الطويلة. لو أن أحداً أخبرني بأنني جميلة وكافية ما كنت تعرفت على مفهوم العلاقة السامة بالشكل الشخصي المباشر، قبل الاصطلاحي الموضوع في الكتب، مع أول شاب قال لي: "عيناك جميلتان"!
التصالح مع الذات بطريقة البازل
إنه لأمر مضحك حقاً أن أحكي الطريقة التي تصالحت فيها مع شكلي، وانتقلت من "شريك" الغول إلى مونيكا بيلوتشي في نظر نفسي، فبتّ لا أخاف التقاط الصور، ولا أتهرّب من النظر في المرآة. قبل ذلك لا بد لي أن أوضّح أنني فتاة تربّت على سماع صفة "ذكيّة". لم يكن ذكائي أبداً محط نقاش مع أي أحد في أي مرحلة من مراحل حياتي، كان ذلك من المسلّمات، على عكس شكلي، لذا فقد تصالحت مع فكرة العدالة الإلهية في توزيع النصيب والحصص، وأدركت أنني أخذت حصّة مضاعفة من الذكاء وخرجت صفر اليدين من توزيع حصص الجمال، الأمر الذي جعلني لا أكترث لمظهري أبداً. اكتسبت وزناً زائداً، وقصصت شعري "غارسون" واشتغلت على شخصيتي، فصرت أقرأ كثيراً، أكتب الشعر، أهتمّ بالتحصيل الدراسي، أحرص على أن أبدو صاحبة نكتة وخفيفة الظل (ككل البدناء) ولو كان الأمر على حساب سخريتي من نفسي، المهم أن يكون حضوري مبهجاً (وهذا ما حدث بالفعل)، كما كنت أتعامل بعفوية مفرطة مع الآخرين من الذكور، فلست مضطرة لتصنّع الرزان والثقل، فأنا بالتأكيد خارج قوائمهم الخاصة بالمواعدة.
هذا الأمر دفعني لدخول سوق العمل مبكراً لأسند نفسي في حال لم أتزوج، رغم أن احتمال فوات القطار كان ضعيفاً، فأنا، كما قيل لي، أحمل العديد من صفات الزوجة المثالية، من قبيل "عاملة، متعلمة، مرحة، بنت ناس". كنت أثق أن من يملك شجاعة الاقتراب مني سوف يحبني، سيتغاضى عن قشرتي الخارجية، صديقاتي أيضاً كن يؤكدن لي أن الشخص الذي سأتزوجه سيكون صديقاً لي في البداية، ثم لن يلبث أن يقع في حبي بعد أن يتعرّف عليّ عن قرب.
بالعودة إلى بازل الجمال، أذكر أن الأمر بدأ عندما امتدحت صديقة في الثانوية شكل أصابع يدي قالت لي: "بيض وطوال وأظافرك حلوة للرسم"، وضعتْ يدها إلى جانب يدي وقارنتْ بحسرة. توجهتُ يومها لأول مرة إلى المحل القريب من الثانوية، واشتريت بكامل مصروفي ألواناً عديدة من طلاء الأظافر، واظبت على الاعتناء بها وتبديلها عند كل خدش، ثم في مرحلة لاحقة حسدتني زميلة في العمل على قدرتي على ارتداء حذاء مفتوح، فشكل أصابع قدمي جميل. تكرّر الأمر، وتحوّل معرض الصور في هاتفي المحمول إلى صور "ديزاينات" أحفظها من الإنترنت وأطبّقها على أظافري، فأنال مديح صديقاتي وحسدهنّ.
أمرّر أصابعي على وجنتي طفلتيّ وأقول لهما: "انظرا إلى هذه الوجوه الجميلة والعيون الساحرة والشعر المذهل"، وأحياناً أسأل كلاً منهما: "ما أجمل شيء تجدينه في شكلك؟" لتجيبا بكل ثقة: "كل شيء"، بعدها تبدآن بالتفصيل، فأبتسم للإنجاز
وهكذا جمّعت حسنات شكلي وركّبتها كما يركّب طفل قطع بازل، وكنت أحرص أن أحصل على القطع المفقودة من أفواه النساء، أستخلصها من عبارات على شكل: "حماتي قالتلي رفيقتك مبسمها حلو"، "أنتي بيضا، كل الألوان بتلبقلك"، "بشرتك صافية"، "شعرك فاتح مش مضطرة تستخدمي الشمع كل أسبوع"، فبدأت أتصالح مع ذاتي وبدأت أحصي خصالي، إلا أن التحوّل المفصلي كان معرفتي بالرجل الذي نجح في تسليط الضوء على كل ما هو جميل في داخلي وخارجي، أحبّني فأحببت نفسي، ثم ذهبنا معاً في رحلة خسارة الوزن، وهنا انقلبت حياتي رأساً على عقب، وصرت أتلقى الإطراءات من كل حدب وصوب، حتى تلك الغامزة بمكر منها التي تقول: "شكلك مبسوطة بزواجك".
لم أخضع لعملية تجميل شكلية، التجميل الذي قمت به كان في إدراكي، كنت بحاجة لأن يضع لي أحد إشارة (X) على مكان ما لأبدأ الحفر داخله واستخرج كنوزه، لا أملك اليوم أي معيار من معايير الجمال الدارجة: عيناي صغيرتان وحاجباي رقيقان وأنفي غير مثالي وشفتاي أقرب إلى الرقة من الاكتناز، ولكنني على يقين بأنني جميلة، امرأة جميلة وأحب نفسي، أرأف بها وأحنو عليها، إذ يكفيها ما قاسته من نبذ وإقصاء. أنظر إليها اليوم بعين القبول والحب والرضا تماماً كما أتخيل انطباع مونيكا بيلوتشي عن انعكاسها في المرآة.
وعلى سيرة المرآة، أقف بشكل شبه يومي مع ابنتيّ أمامها، أمرّر أصابعي على وجنتيهما وأقول لهما: "انظرا إلى هذه الوجوه الجميلة والعيون الساحرة والشعر المذهل"، وأحياناً أسأل كلاً منهما: "ما أجمل شيء تجدينه في شكلك؟" لتجيبا بكل ثقة: "كل شيء"، بعدها تبدآن بالتفصيل، فأبتسم للإنجاز، أبتسم طويلاً لإنجاز إراحتهما من تكبّد عناء البحث عن قطع ثقتهما المفقودة في أفواه الآخرين، ثم أبكي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.