لو طلبنا من القرّاء أن يقوموا بعدّ الأغاني الذكورية السامة التي زيّنت (ولا تزال تزيّن) سهراتنا ورحلاتنا ومحطات الراديو، لاتضح أن المهمة سهلة للغاية: هنالك من تغنّى بقصر تنورتها، أو من منعها من العمل، أو من غار عليها لحدّ الجرم. الأمثلة كثيرة وكفيلة بضرب "لعيان النفس" بمجرّد سماع عناوين الأغاني.
ولكن في المقابل، غنّت الكثير من الفنانات كلمات وأشعاراً وخطابات لا تشبه ما نسمعه عادة.
قد يقول البعض إنها أغان ذات طابع نسوي، ولكنني لن أدّعي أنني في مكانة تسمح لي بأن أقوم بهذا التصنيف. ببساطة، أؤمن أن الفن حتى في طبيعته الشعبية، يأتي ليدغدغ مفاهيمنا.
اخترت عشر أغانٍ من البوب الشعبي العربي، رافقت طفولتنا وأيام صبانا، وسوف أقترح لمعانيها قراءة أخرى، قد تحفّز نظرتنا لها وللعلاقات بين الجنسين، فهيا بنا نتدغدغ سوياً.
"ماكسيموم" صباح 1967
"يمكن أنا بقربك وإسمع دقة قلبك وتسأل إذا بحبك وقلك لأ
قلبي أنا كبير وبدو حب كبير، بس إنت خرج تراقصني وتاخدني مشاوير، بس"
تتدلّع الصبوحة في هذه الأغنية كما لم تتدلّع من قبل. ربما لأنها تغني معظمها باللغة الإنكليزية، فيسمح لها هذا أن تأخذ راحتها. هي تريد أن تتسلّى مع هذا الشاب ولا ترى فيه أي مشروع حب وارتباط. لطالما احتكر الرجال هذا الخطاب، وفرّقوا بين المرأة التي يلهون معها، والمرأة التي تصلح لأن تكون الزوجة الصالحة والأم المربية. مفهوم التفريق بين الأم والمومس قديم، ومحلّل للأسف في مجتمعاتنا، فتأتي صباح وتقوم بعملية فرز، مفرّقةً الرجال "الطق حنك" عن الرجال الجديين، كمن ينقّي حبوب العدس لمجدرة نهار الجمعة.
فريال كريم كوميدية ظريفة، اشتهرت بالفكاهة وخفّة الدم. ربما لهذا السبب تقبّل الجميع أغنيتها الهازئة بالرجل القوي، وبازدواجية صورته أمام الناس وفي المنزل، ما يُظهر أن الرجال يمتلكون حس الفكاهة أحياناً
"عامللي عنتر" فريال كريم 1982
غنّت فريال كريم هذه الأغنية، من كلمات وألحان الياس الرحباني، في سنة 1982 ثم أعادها فريق الـ 4 cats سنة 2004.
كانت فريال كوميدية ظريفة، اشتهرت بالفكاهة وخفة الدم. ربما لهذا السبب تقبّل الجميع هذه الأغنية الهازئة بالرجل القوي، وبازدواجية صورته أمام الناس وفي المنزل، ما يُظهر أن الرجال يمتلكون حس الفكاهة أحياناً.
توجب علينا انتظار سنة 2018 حتى نسمع أغنية أخرى هازئة بالرجل ذي الوجهين، ولكن هذه المرة قبل الزواج وبعده، عندما غنّت سميرة سعيد أنه كان في نظرها السوبرمان:
"نجوم الضهر" ماري سليمان 1993
أذكر أن بعض النقاد صنّفوا هذه الأغنية بأنها أول أغنية نسوية في البوب العربي.
يلفتني هنا أنها امرأة قوية، ستبكي وتتأسّف على حبيبها، ولكن لن تريه أنها ضعيفة تتألم جرّاء غيابه، فمهما بكى وندم وحاول، هي تخطت حبه ولن ترجع له أبداً. يتناقض محتوى هذه الأغنية مع كل ما نسمعه ونراه في المسلسلات والأفلام عن ردّ فعل النساء من بكاء ونحيب، وكأنها ردّة فعل نسائية طبيعية وعادية، فتأتي ماري بهذه الأغنية لتكسر هذه النمطية وتبرهن عن موقف صلب وقوي.
"كن صديقي" ماجدة الرومي 1994
هذه القصيدة التي كتبتها الشاعرة الكويتية سعاد الصباح، غنتها ماجدة الرومي، مسائلة: لماذا لا يرى الرجل في المرأة صديقة، بل يحولها دائماً إلى غرض لذة جسدية؟ وتنهي ماجدة صارخة: "غير أن الشرقي لا يرضى بدور غير أدوار البطولة".
تعيدنا هذه الأغنية إلى الحديث المفضل لدى المحطات التلفزيونية التي لم تتطوّر منذ أن ولدت حتى الآن، فأسمع صوت رابعة الزيات تسأل في سنة 2024: "هل تؤمن بالصداقة بين الرجل والمرأة؟".
هذه الأغنية تشكل صفعة لرابعة، ولنا كلنا، فهي تدخل صلب الموضوع وتتحدّى الرجل بأن يكفّ عن النظر إلى المرأة كجسد، ويجرّدها من الشهوة. تذهب حتى إلى القول إنه بمصادقتها لن ينتقص شيء من رجولته.
فرحت باكتشاف القصيدة الكاملة لهذه الأغنية، فهي لاذعة، وفرحت لأن ماجدة رأت فيه أغنية قد تحاكي الكثير من النساء في علاقاتهن وصداقاتهن.
"وأنا مُتْعَبَةٌ من ذلك العصرِ الذي يعتَبِرُ المرأةَ تِمْثالَ رُخَامْ
لماذا الرّجلُ الشَّرقيُّ ينْسى حينَ يَلقى امرأةً، نِصفَ الكَلامْ؟
ولماذا يقطِفُ التُّفَّاحَ منْ أشجارِها ثم يَنام؟".
"ما بسمحلك" نجوى كرم 1995
قبل أن تصدمنا نجوى كرم بمقولتها الشهيرة عن زوجها السابق: "ضربني واستحقيتا"، كانت تمتلك الموقف القوي في ديناميكية العلاقة:
نستغرب ماذا حصل منذ سنة 1995 حتى اختفت هذه النجوى المليئة بالعنفوان وعزة النفس، وأصبحت تقبل، لا بل تروّج بفخر، العنف المنزلي على شاشات التلفاز.
قبل أن تصدمنا نجوى كرم بمقولتها الشهيرة عن زوجها السابق: "ضربني واستحقيتا"، كانت تمتلك الموقف القوي في ديناميكية العلاقة: "ما بسمحلك مابسمحلك، مهما يكون قلبي بيرتاحلك"
"أنا مش إلك" جوليا بطرس 1997
قبل أن تغنّي جوليا لحزب الله ويرتبط اسمها به، كانت قد ألهمت أجيالاً من النساء والشباب عندما صرخت:
انا مش الك ولا قلبي الك! انا مش الك"
هذا الخطاب يعاكس كل ما نسمعه في أغاني الحب، حيث يبتدئ عمرها عندما تتعرّف عليه، أو حين تعترف أنها ليست شيئاً من دونه، وجسدها وروحها وكل ما فيها ملك له. من قعر هذه الرومنسية المصطنعة، تنتفض جوليا في الأغنية الرومنسية كما تفعل في الأغاني الوطنية، فحبيبها لا يملأ عينها، وحب التملّك لديه لا يعجبها، لا بل يخنقها. امرأة حرّة، مستقلة، تقرّر نوع وطبيعة العلاقة التي تحبها.
"ما فينا" كاتيا حرب 2004
كتب طلال حيدر هذه الكلمات لكاتيا حرب، وصوّرتها على طريقة الفيديو كليب مع المخرجة نادين لبكي. نرى امرأة قوية، عنيفة، لابسة فستاناً أسود تركض في مرآب للسيارات، بعتمة الليل، وكأنها مصاصة دماء:
"ما فينا لا لا ما فينا خلاص نسي كل شي صار
انت بتغار كتير بتغار عليي وانا ما بطيق الي بيغار"
تركض هذه المرأة الشرسة محاكية الكاميرا، فنكتشف سيارة حمراء تلاحقها. نتساءل ما إذا كان السائق يريد أن يدهسها بغيرته، أو يترجاها لتقبل بأن تعود إليه؟ ولكنها مصمّمة: "ما بدي تقلي وين كنتي ما بدي تقلي شو عملتي". سئمت منه ومن غيرته، "فالله معو ومع دواليبو".
"بدي عيش" هيفا وهبة 2005
بغض النظر عن معنى كلمات هذه الأغنية المحرّرة التي كتبها ولحنها الياس الرحباني. إن وجود هيفا في هذه القائمة هو بحد ذاته تمرّد على المجتمع الذكوري. من قصتها العائلية الشخصية، إلى كل التنمّر والنكت والتعيير بالجسد الذي تعرّضت له. فلنصرخ كلنا مع هيفا بصوت واحد:
لا تزال معظم أغاني البوب العربية تحكي الوقوع في الحب أو ألم الفراق. نحن نفتقر لأغان ومعانٍ جديدة تحاكي مجتمعاتنا العربية بطرق وأساليب مختلفة
"شايف نفسك" رانيا الكردي 2006
"ضعفي خلاص ده ماضي عدى واتغيرت من النهار ده وانا ح اثبت لك الكلام ده
خد مني كمان واوعى تفكر زي زمان ح أضعف و أبكي من الحرمان"
ارتبطت هذه الأغنية بالكليب الذي صورته رانيا مع المخرج عثمان أبو اللبن، قرّرت فيه أن تلعب دور امرأة قوية لحد الجنون والهيستيريا، تتعرّض لكل الذين يستخدمون المصعد، خاصة الرجال. أحب هذا الكليب وأحب أداء رانيا "العبيط" كما يقولون، ورغم أنني لا أؤمن دائماً بمفهوم الرسالة في الفن، كنت أفضّل لو أن الصورة التي رافقت هذه الأغنية كانت صورة امرأة قوية، سئمت ببساطة من سوء المعاملة دون أن نجعلها مجنونة. فهل كل امرأة تنتفض على ظلم الرجل هي امرأة قد فقدت عقلها؟
"بنص الجو" لطيفة 2006
كتب زياد الرحباني ولحّن هذه الأغنية، ليخبرنا عن امرأة ترفض ممارسة العلاقة الجنسية مع شريكها قائلة: "في شي معروف، بتعمل المعروف، ما صرلك جمعه مصاحبني"
ثم يطرح حلاً (قد يكون مزحة): "إذا مغروم، و شي محسوم، في عندك أهلي تطلبني"
تدافع الأغنية عن حق المرأة بعدم الخضوع لنظرة الرجل الذي يراها كغرض جنسي.
أتفاجأ عندما أسمع أن بعض النساء لا زلن يخضعن للضغط من خلال عبارات مثل: "برهنيلي إنك بتحبيني". لندع المرأة تقرّر وتتحكم بجسدها كما يحلو لها، أكان من خلال رحلة التحرّر والبحث عن اللذة والحميمية، أو من خلال رفض ممارسة الجنس.
*****
لا تزال معظم أغاني البوب العربية تحكي الوقوع في الحب أو ألم الفراق. نحن نفتقر لأغان ومعانٍ جديدة تحاكي مجتمعاتنا العربية بطرق وأساليب مختلفة، ونفتقر لفنانات يتحدين المجتمع ويغنين قيماً جديدة تبرهن عن قوة وانفتاح. ولكن يبقى السؤال الأكبر: لماذا أغلب كتاب الأغاني هم ذكور؟ ولماذا لا يعطي المجتمع الفني للشاعرات والكاتبات والفنانات فسحة أكبر في الأغاني الشعبية العربية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...