كنت قد اتخذت قراراً بأن أندمج معهم دون أن أندمج، اندماج كاذب، كأنني أوحي لهم بذلك مع الاحتفاظ بعزلتي الجميلة داخلي. أخفضت إضاءة الهاتف ووضعته على الوضع الصامت لأشبههم، ارتديت هوودي وردياً وجينزاً أزرق، وتركت وجهي بلا مساحيق ليكون أكثر شباباً، فوجئت في البداية قبل صعود الباص بأنهم يرتدون ثياباً رياضية واسعة للغاية أو ضيقة للغاية، وأنني الوحيدة التي ترتدي جينزاً أزرق على مقاسها.
حسب معلوماتي من الرحلات القليلة التي سافرتها وأنا في المدرسة أو الجامعة، فإن جلوسي في الخلف سيسمح لي بخدعة الاندماج مع المشاغبين الذين بالطبع سيفضلون الجلوس في الكنب الخلفي، ليغنّوا ويرقصوا، تاركين الصفوف الأمامية للنيردز والانتروفيرتز أو المهذبين الأقل اجتماعية. لكنني بعد دقائق قليلة، تلقيت المفاجأة التالية: جلس أغلبهم في الصفوف الأمامية، وبقيت أنا وعدة أشخاص، في الثلاثينيات من أعمارهم، في الخلف. لم يسبقني للمؤخرة إلا الرجل الوحيد الذي يشاركني الأربعينيات، وقد ارتفع شخيره بعد مضي عشر دقائق في الطريق.
تختارني العزلة دائماً فاستسلم لها بإرادة حرة وسعيدة. أراقب الطريق من النافذة وأنا أتخيل قصصاً وأرويها لنفسي، ففي مزرعة الذرة هذه لابد وأن لصاً اختبأ، ربما كان جائعاً فسرق، تركه أبواه وتزوج كل منهما بآخر، فكانت نهاية الفتى مع قريب قاس، هرب منه ليسرق ويعيش، وفي ظلّ شجرة تبدو شجرة ليمون، ربما قابل حبيب حبيبته، وتبادلا القبلات والوعود التي نقضاها بعد مدة. على المصطبة جانب الفرن، ربما تجلس أم منهكة بعد أن أدت مهامها، ربما تفكّر في حياة مختلفة وأحلام لن تتحقق. تخامرني الأفكار بينما تلتقط أذناي ضحكات هيستيرية من الصفوف الأمامية وأحاديث عن العمل بين الزملاء في الثلاثين من عمرهم.
ظننت أن جلوسي في الخلف سيسمح لي بخدعة الاندماج مع المشاغبين الذين بالطبع سيفضلون الجلوس في الكنب الخلفي، ليغنّوا ويرقصوا، تاركين الصفوف الأمامية للنيردز والانتروفيرتز أو المهذبين الأقل اجتماعية
وبينما تلتقط يدي العديد من الصور للمزارع والترع والحيوانات على الطريق، ناداني البعض من الصفوف الأمامية: "تعالي شاركينا اللعب". انبسطت أساريري، خاصة عندما عرفت أنهم يلعبون "أفلام"، لعبة جيلي المفضلة والتي ظننت أنها اندثرت. شاركتهم اللعب بخجل أداريه بصعوبة، اتبعت قوانين اللعبة القديمة فخسرت، بل واتهموني أنني أغشّ لأنني أمثَّل حروف الكلمة التي من المستحيل تمثيلها. عدت إلى مكاني في الصفوف الأخيرة بعدها، غير أنني توقفت عن مراقبة الطريق واتجهت إلى مراقبة القوانين الجديدة من لعبة "أفلام"، والتي تتمثل في الهزل المحض الذي يحمل لمحة من ذكاء غير مباشر.
بين فقرات الرحلة كانت الفقرة الأصعب والتي قرّرت فيها تحدي نفسي الجبانة وركوب سيارة دفع رباعي في رحلة سفاري عبر الكثبان الرملية في الصحراء. وقع حظي في سيارة فيها أربع نساء في الثلاثينيات، كن يتحدثن عن هذه المغامرة التي ستبدأ وعن أمور مشابهة، مثل حضور حفلات لمغنيين المهرجانات على أنها أمور غريبة على أعمارهن، لكنهن لا يبالين ويخضنها بشكل طبيعي. شعرت أن وضعي كأربعينية حرج وأصعب وأغرب، لكنني أيضاً مثلهن لا أبالي، بل وأبتسم وأنا أتخيل فكرتهن عن أنفسهن في الأربعينيات، أنهن سيكن أكثر وقاراً ويمتنعن عن حفلات المهرجانات ورحلات السفاري. الأغاني البدوية ملأت السيارة ومعها شعورنا برهبة محببة، لكن الرحلة الحقيقية بدأت عندما أذاع السائق بشكل غير مقصود أغنية "تترجّى فيا" لإيهاب توفيق من التسعينيات.
لحظتها نظرنا إلى بعضنا وبدأت كل منا تتحرّر من قيودها الوهمية وتغني، ثم ارتفع الغناء مع كلمة "إزاي!"، ومعه إشارات وتشويحات من الأيادي تجاه الهواء وتجاه القلب. توحّدنا جميعاً مع اللحن والكلمات، في الوقت الذي بدأت السيارة تجري فيه وتتقافز على جبال الرمل، كنت أغمض عيني في لحظات انحدار السيارة من الجبل، خوفاً وشغفاً، ولأعود لفتاة مراهقة تغني "تترجّى فيا" بسعادة وتأثر في غرفتها، ليس لأن إيهاب توفيق مطربها المفضل، لكن لأنه يتساءل أسئلة تشغلها: "بِعت، بِعت ليه؟ خُنت، خُنت ليه؟ جاي بعد إيه بتحس بيّا. حُب، حُب مين؟ شوق، شوق لمين؟ متقولش ليّا". الغريب أن السائق شعر بالمشاعر القوية التي اجتاحت سيارته والتي لم يعرف أنها نوستالجيا، فعرض علينا أن نشغّل ما يحلو لنا من أغان، وأعطانا اسم البلوتوث لسيارته "ماهر الكينج".
في سيارة "ماهر الكينج" حدث شيء غريب، كأننا انفصلنا عن العالم، كأن هذه السيارة نقطة بعيدة في الكون، تحوي خمس نساء يستعدن ماضيهن بشكل مكثّف وبإسهاب في المشاعر والغناء والرقص وكل شيء. أمسكت إحداهن دفة اختيار الأغاني، وراحت تشغل أغاني التسعينيات وبداية الألفينات، ما يتماس مع مشاعرنا جميعاً، كأننا نفس الفتاة برومانسيتها الساذجة، بآمالها العريضة، بقصص حبها الفاشلة، بمشاعرها المرهقة، لا أعرف كيف تشابه الألم وتوحّد الخذلان، فأصبح كالسوط الواحد الذي يمزق عدة قلوب معاً.
ثم أتت لحظات القوة: "بُص بقى عشان تبقى عارف، قلبي نسيك ورجعلي خلاص"، والشكوى: "الواد قلبه بيوجعه وعايز حد يدلعه"، والرجاء: "خليك جنبي.. أحضن هوا قلبي، محتاج أنا حضنك خليك على وعدك". حتى أغاني هاني شاكر التي لم تكن تعجبنا في صبانا كان لها معنى، واكتشفنا أنها تركت أثراً ما، حين صرخنا جميعاً نغني: "وأما عيش وأحلم بدنيا انتي نورها في كل ثانيه... يبقى أي دنيا تانية مش معاكي تسوى ايه".
كأننا انفصلنا عن العالم، كأن هذه السيارة نقطة بعيدة في الكون، تحوي خمس نساء يستعدن ماضيهن بشكل مكثّف وبإسهاب في المشاعر والغناء والرقص وكل شيء
غناء ورقص ومناجاة في الهواء ودموع لا تفارق العيون، وعم ماهر يقول بنظراته: "حالتكم صعبة خالص"، وعندما عرفت أغنية من مدخل اللحن ضحكن جميعاً، بعضهن صفّق لي وأخرى مدت كفاً مفتوحاً أمامي، فرفعت إبهامي وأنا أضم أصابعي كأنني أقول "تمام،" لم أفهم إلا عندما قالت:"هاي فايف"، فصفقت كفها بكفي.
حب الصبا يشبه جريمة القتل، لا تستطيع أن تنساه مهما تجاوزته، لا تستطيع أن تطيب قلبك الصبي الذي أفرط في التصديق والإخلاص للشخص الخطأ، ترتبط مشاعرك القديمة بالحديثة وتشكل دفقات من الحنين الجارف لأشياء غير مفهومة، لكن لكل حنين نهاية. قالت إحداهن عندما انتهت رحلة الصحراء: "ما حدث في سيارة ماهر الكينج يبقى في سيارة ماهر الكينج". وضحك عم ماهر وهو يومئ بالموافقة، ثم عاد ليشغّل أغاني البدو بمجرد مغادرتنا، الغريب هو تجاهلنا لبعضنا بعد هذه الطلعة، كمثل من يتهرّب من لقاء غريب أفضى إليه بسرّه في لحظة ضعف. قضينا ما تبقى من الرحلة متناثرين، تجمعنا من بعيد لحظة حقيقية لا تمر بالإنسان إلا قليلاً.
أتممت كل جدولي من صعود الجبل سيراً والتزحلق على الرمال وركوب موتوسيكل الشاطئ، فعلت كل ما يمكن أن يعوق التفكير التقليدي لامرأة أربعينية، ليس لأنني لست تقليدية، لكن لأنني في داخلي أتوق إلى تجربة كل شيء، ما دمت في عزلتي الجميلة وحولي بشر يؤنسوني بوجودهم. كنت وأنا صغيرة أبحث في الأماكن الجديدة عن الأمان، ثم كبرت وأصبحت أبحث في الأماكن الجديدة عن الونس، ثم كبرت وأصبحت أبحث في الأماكن الجديدة عن السلام، ثم كبرت وأصبحت أبحث في الأماكن الجديدة عن الحب، ثم كبرت وأصبحت أبحث في الأماكن الجديدة عن نفسي. ثم كبرت جداً وأصبحت أبحث في الأماكن الجديدة عن المغامرة. قلبي يسير عكس اتجاه عقارب الساعة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.