أحياناً أجدني محاصراً، يستعصي عليّ الكلام، الحُبسة؟ ربما، زحمة القضايا وتواتر الشجون وتدافعها يثقل اللسان، أبدأ جملة فتطغى موجة جديدة تستدعي ألفاظاً تناسبها، فإذا انتظمت فاجأني جديد يهدم الجملة، والكاتب في النهاية قارئ، إنسان يصيبه ما يصيب الناس من ارتباك، وجهازه اللغوي قد يتعطل، ولا يتمتع بالوعي الدائم، فيحتاج إلى إسعافات أولية تنقذه في هذا السديم، فإذا وجد كتاباً يعبر عن حاله، ويجيب عن حيْرته، فرح به، وشكر مؤلفه، كأنه اختصه بتأليف هذا الكتاب، وأودعه كرسالة في زجاجة لن يعثر عليها غيره، ترك فيها رموزاً تساعده على فهم ذاته، من وراء الغيب، من زمن بعيد، يأتي صوت المؤلف صديقاً حانياً.
قد تفاجئني حالة فرح أو حالة حزن، أجهل السبب، وتلازمني هذه الحالة أو تلك وقتاً طويلاً، في الحالة الأولى أبدي امتناناً لمصدر الفرح، وتسهُل عليّ معرفته. وفي الحالة الثانية أجهد نفسي في التذكّر، هل كان شخصاً، شيئاً، مؤثراً غير مباشر؟ أتعب وأكرر محاولة استعادة شريط اليوم، ومحطات الطريق من أول النهار، فإذا عثرت على السبب هوّنتُ على نفسي، لعلي أنجح في تبسيط الأمر واقتلاعه، وإذا فشلت في التوصل إلى السبب لازمني العرَض، حتى يأتي مؤثر جديد يطغى على حزن أخذ حقه وسيمضي. وللقراءة مثل هذا المفعول الدائم، أنسى ما قرأت، ولا يضايقني النسيان، لثقتي بأن خلاياي تشربت شيئاً ما، وتمثَّلتْه.
في كتابه "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة" يتوقف هوارد زِن، الملقب بمؤرخ الشعب الأمريكي، أمام الجندي القعيد في حرب فيتنام رون كوفيك، وكيف كافح بالكلمة؛ فألف كتاب "وُلد في الرابع من يوليو"، لكن الكلمة المسموعة كانت أشدّ تأثيراً على هذا الجندي المصاب بالشلل الكامل، عضو جماعة "محاربو فيتنام القدماء ضد الحرب"، وقد ظل يتحدث في المظاهرات، وفي إحداها سمع الممثل دونالد ساذرلاند يقرأ مقاطع من رواية "جوني يحصل على سلاحه"، التي كتبها دالتون ترامبو بعد الحرب العالمية الأولى، وتدور حول جندي أطاحت النيران والشظايا أطرافه، فصار جذعاً بشرياً، وابتكر طريقة للتواصل مع العالم الخارجي. فكيف أثّرت الكلمات في جندي قعيد مشلول؟
لا فائدة في كتب تمنح قارئاً مثقلاً باليقين مزيداً من اليقين، يبدأ القارئ قراءتها راغباً في أن تطمئنه، أن ترفع منسوب تمسّكه بعقيدة موروثة أو فكرة راسخة، وفي الوقت نفسه تهوّن من أفكار مناوئة، فينتهي من القراءة بابتسامة النصر، منتشياً بالفوز على عدو وهمي
يسجل هوارد زِن، في الكتاب الذي ترجمه الدكتور شعبان مكاوي، ما ذكره رون كوفيك: "بدأ الممثل ساذرلاند في قراءة المقطوعة ثم هيمن عليّ شيء لن أنساه أبداً. كان ذلك كأن شخصاً كان يتكلم عن كل شيء مررت به في المستشفى... بدأ جسمي في الاهتزاز... وأذكر أن دموعاً قد ملأت عيوني". لقد انفصل المحارب القديم القعيد عن خبراته ومأساته، التي سجلها في كتابه "وُلد في الرابع من يوليو"، وتفاعل مع الكلمات، وانفعل بها، فتصدّع ما تبقى من جسده، وبكى من فرط التأثر. لهذا السبب تطارد الكلمة، ويخشاها حائزو القوة بحكم مناصبهم، وحدود نفوذهم، فللكلمات طاقة متجددة، وحياة أطول من أعمار كاتبيها.
للكاتب الفرنسي جورج ديهاميل (1884 ـ 1966) تجربة ثبتت أن الكلمات تنطوي على ما هو أكثر من القداسة، على سحر يفاجئ الساحر نفسه. وثّق ديهاميل، عام 1936، مشهداً دالّاً في كتابه "دفاع عن الأدب"، وكان ديهاميل طبيباً ميدانياً في الحرب العالمية الأولى، ورأى طبيباً آخر "في منتهى القسوة، جافي القلب... مناظر البؤس والآلام والجراح لم تعد تؤثر فيه، وكان يحتفظ في أداء واجبه المخيف ببرود أرستقراطي تلونه السخرية... ولكن حدث يوماً أن دخلتُ على هذا الرجل فدهشت إذ وجدته وقد أغرقت الدموع وجهه، وهو يقرأ كتاباً عن الحرب. كتاباً يقص عليه نفس ما كان يرى كل يوم وكل دقيقة. ولو أنني كنت أجهل قدرة الألفاظ لاستطعت أن أدركها في تلك الساعة".
في سن الثلاثين ألقى أندريه جيد (1869 ـ 1951) محاضرة في بروكسل، عن نعمة القراءة، وتأثيرها كلما حظيتْ بقارئ، أو حظي بها قارئ. قال: "قرأت هذا الكتاب، وبعد أن قرأته طويته، ووضعته فوق رف المكتبة. ولكن في هذا الكتاب كلاماً لا يمكنني أن أنساه. لقد دخل في نفسي عميقاً إلى حد أني لا أميزه عن ذاتي. بعده ما عدت كما كنت قبل أن أعرفه. لا يهمني لو نسيت الكتاب الذي قرأت فيه هذا الكلام، لو نسيت حتى أني قرأت هذا الكلام، لو صرت لا أتذكر هذا الكلام سوى تذكر ناقص. فأنا لا أستطيع أن أعود كما كنت قبل قراءته. فكيف أصف قوته؟". طرح أندريه جيد السؤال، وأجاب عنه: "قوة هذا الكلام أنه كشف لي بعضاً من نفسي تجهله نفسي، فلم يكن لي سوى تفسير ـ نعم سوى تفسير لنفسي".
وقد اختار أستاذاً الأدب الفرنسي إيمانويل فريس وبرنار موراليس هذا الاقتباس ختاماً لكتابهما المشترك "قضايا أدبية عامة"، الذي ترجمه الدكتور لطيف زيتوني، وعلقا عليه بهذا السطر الختامي: "أن أقرأ، أن أقرأ الآخر، معناه دائماً أن أعيد تحديد ذاتي".
إذا لم تفعل القراءة إلا إعادة اكتشاف الذات، فهذا يكفي تماماً.
أتأمل كتباً رائجة، عربية وأجنبية، يتباهى بالإعلان عن اقتنائها مبتدئون في القراءة، ونجوم المجتمع؛ فأجد تفسيراً لعلل يمكن لشيء من الوعي أن يقضي عليها. لا فائدة في كتب تمنح قارئاً مثقلاً باليقين مزيداً من اليقين، يبدأ قراءتها راغباً في أن تطمئنه، أن ترفع منسوب تمسّكه بعقيدة موروثة أو فكرة راسخة، وفي الوقت نفسه تهوّن من أفكار مناوئة، فينتهي من القراءة بابتسامة النصر، منتشياً بالفوز على عدو وهمي. لا نفع في مثل هذه الكتب، وكان فولتير بصيراً بقوله "إن الكتب الأكثر نفعاً هي تلك التي يكتب القراء نصفها؛ يوسّعون الأفكار التي نقدّم لهم بذورها، ويصححّون ما يبدو ناقصاً فيها، ويعززون بتفكيرهم ما يبدو لهم ضعيفاً". رأى فولتير أن "اللغة والأسلوب قوتان مكفوفتان، أما الكتابة ففعل تضامن تاريخي. اللغة والأسلوب شيئان؛ أما الكتابة فوظيفة: إنها العلاقة بين الإبداع والمجتمع؛ إنها اللغة الأدبية التي تحولت بفعل توجهها إلى المجتمع؛ إنها الشكل الذي ندرك قصده الإنساني".
في الكتب الرائجة، الأكثر مبيعاً، مجرى هابط، من المؤلف العارف إلى قارئ كفيف، سلبي لا يناقش، تستهويه الفضائل والمأثورات اللفظية، وتسوؤه الأفكار الطليقة، يؤثر الكبت على الاستجابة للفطرة. وما هكذا يكون التفاعل الإيجابي بين طرفين يجتهدان في إنتاج المعنى
في الكتب الرائجة، الأكثر مبيعاً، مجرى هابط، من المؤلف العارف إلى قارئ كفيف، سلبي لا يناقش، تستهويه الفضائل والمأثورات اللفظية، وتسوؤه الأفكار الطليقة، يؤثر الكبت على الاستجابة للفطرة. وما هكذا يكون التفاعل الإيجابي بين طرفين يجتهدان في إنتاج المعنى. ويرى مؤلفاً كتاب "قضايا أدبية عامة" ضرورة "أن يتشارك المؤلف والقارئ، إلى حد ما، على شفرة جمالية واحدة قد تختلف من عصر إلى عصر، ومن بلد إلى بلد، ومن فئة اجتماعية إلى أخرى". وتظل القراءة، بالمخالفة للمجرى الهابط الذي يسِم الكتب الرائجة، عملية أكثر تعقيداً، وقد يصعد دور القارئ، والبنيويون يعلون شأنه على حساب المؤلف، ثم أعلن رولان بارت موت المؤلف.
للكتاب الرائج عمر افتراضي محكوم بنشر كتاب تالٍ أكثر رواحاً. وفي استثناء نادر، يؤكد القاعدة، يجتاز هذا الرائج اختبار الزمن، وتتجدد حياته. والرائج العابر، قصير العمر، ذو حياة واحدة، قصيرة بالطبع، وفي الغالب لا يصمد للتأويل، أما الكتاب الذي يستمر نفعه، ويمكث في الأرض، فلا يستبعد إيمانويل فريس وبرنار موراليس أن "يتعرض للتشويه والزيادة والتحريف إلى حد يمكن معه القول إن وجود التحريف دليل على طاقة الكتاب الأصلي على الحياة. فالنص الميت لا يحرف، وللنص المحرف قيمة النص التقليدي".
ولأن الحياة قصيرة، وبلا "إعادة"، فمن حق أي مؤلِّف أن أختبره بكتاب واحد، ثم أقرر الاستمرار أو الانصراف. قد أقرأ عملاً يزيد على 300 صفحة، ولا أتوقف عند جملة قائلاً: "الله! كيف كتب هذا؟"، أنتهي من الثرثرة، "كلام كالكلام" كما قال طه حسين، أما الكتابة الحقيقية فتحفر عميقاً في الذاكرة ولا تغادرها، وتعيش معي وتطاردني، وتدفعني إلى غيرة حميدة بأن أكتب مثلها، تتحداني أعمال باقية: "البومة العمياء" لصادق هدايت، "بيت من لحم" ليوسف إدريس، "الحرافيش" والثلاثية لمحفوظ، "فساد الأمكنة" لصبري موسى، "تقرير إلى جريكو" لكازنتزاكيس، أكثر من عمل للمعلم دوستويفسكي، "خريف البطريرك" لماركيز (بعد خمسة عشر عاماً على قراءتي للرواية، وتفضيلي لها، قرأت قول ماركيز إنها "أشدّ أعمالي وعورة ومعاناة"). وتغيب الآن عن ذاكرتي أعمال أخرى، وإن صارت جزءاً من التاريخ الشخصي.
حين أنجز عملين من هذا النوع، سأعتزل الكتابة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 13 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين