الامتنان! هذه هي الكلمة التي أبحث عنها.
أرض بيتي خشبية، ورفوف المكتبة كذلك. مكتبتي التي أتأمل الآن وأفكر بالكلمة المناسبة لأصف شعوري نحو الذين واللواتي تمكنوا/ن من منحي فرصة أن أقرأ عن قصة حب "ميلينا آغوس"، وأن أصير -نوعاً ما- أقرب لفهم الوباء قبل وقوعه بفضل ساراماغو، ومن ثم ألا أتناسى شغف الحب الذي روت عنه "لاورا إسكيبيل".
ألا أخاف من أن يصير بين رفوف الكتب مكان لخلق الألفة بيني وبين "غريب" كامو، وألا أتردد في أن يصير لحن زوربا مجسداً في كلمات بين ثنايا صفحات رواية في قسم الكتابة التي تنتظر أن تقرأ. وأن يصير كتاب "شرح المعلقات السبع" للزوزني جار ماركيز وميسو.
الامتنان هي الكلمة، ودافعي للسؤال: كيف يعيش المترجمون تجربة الترجمة التي تخلص إلى كل هذا الجمال؟ وهل تتجاوز الترجمة اللغة إلى عوالم أخرى؟ وما المشاهد التي لا نعرفها عن مغامرات اختصرت بـ"تمت ترجمة هذه الرواية من قبل فلان أو فلانة"؟
أحاور المترجمة ليلى شماع التي يتركز عملها على الترجمة البينية ما بين العربية والألمانية، والمترجم علاء عودة الذي ينتقل في ترجمته ما بين عوالم اللغة العربية واللغة الإنجليزية.
مفهوم الترجمة الأدبية وتحدياتها
إن كانت الترجمة تقتضي نقل الكلام من لغة إلى أخرى، فالترجمة الأدبية تتجاوز هذا المعنى المباشر لفعل الترجمة، لتتغلغل في تفاصيل العمل الأدبي المراد العمل على ترجمته من لغة إلى أخرى.
والأمر كما عبرت عنه ليلى شماع، أشبه بالابتعاد عن المفردة والاقتراب من روح النص، موضحة: "نحن ننقل مضامين ومفاهيم إذ نترجم، لا مفردات فحسب، بل ننقل علاقة القارئ بالنص المكتوب بحيث يتمكن القارئ في اللغة/الهدف من تشكيل علاقة قريبة جداً مع النص ذاته".
وبدوره يؤكد علاء عودة على عدم كفاية المفهوم العام للترجمة حين التطرق إلى الترجمة الأدبية بصورة خاصة، حيث يتجاوز الأمر المفردة بذاتها فيشرح: "اللغة حامل الأدب، ونحن حين نترجم نسعى إلى نقل حالة ثقافية، ودرامية، ونفسية تجسدت في فقرة ما من فقرات النص الأدبي من لغة إلى أخرى".
إن كانت الترجمة تقتضي نقل الكلام من لغة إلى أخرى، فالترجمة الأدبية تتجاوز هذا المعنى المباشر لفعل الترجمة، لتتغلغل في تفاصيل العمل الأدبي المراد العمل على ترجمته من لغة إلى أخرى
لا تمرّ تلك الساعات أمام النصوص المراد ترجمتها بسلاسة تامة، ولابد من صعوبات تعترض سير الترجمة، وعن ذلك تقول ليلى: "من أبرز التحديات وجود اختلاف فيما يتعلق بمفهوم النص في اللغتين العربية والألمانية، فتفتقر بعض النصوص في اللغة العربية إلى الدقة، حيث تكثر المفردات التي تُكتب لتعني شيئاً آخر، وهذا ما لا يكثر في نصوص اللغة الألمانية.
وبالتالي حين أترجم يتحتم عليّ أن يكون النص على مستوى من الدقة بحيث يتم تلافي تلك الإشكاليات، دون أن يتحوّل النص إلى نص لا يشبه النص الأم".
وبدوره يربط علاء ما بين نوع النص المراد ترجمته وما يستحضره من تحديات، فيوضح: "التعامل مثلاً مع نصِّ ذي سياق تاريخي مبكر قد يضعنا أمام تحدي غياب المعادل العربي للكثير من المفردات"، ويُضاف إلى ذلك صعوبات ترتبط باختلاف الثقافات وما تنتجه من مفردات، وكذلك قضية أن المراجع العربية شحيحة من حيث عددها حيث يشير علاء إلى تلك النقطة في حديثه.
يقول: "قليلة هي المراجع من حيث الكم ومن حيث موثوقيتها التي ليست دوماً عالية، وهنا تبرز الحاجة إلى البحث، وتلافياً لافتقارنا للمعادل العربي للمفردة، تظهر أيضاً الحاجة إلى اجتهادات في التعريب".
حين التوغل أكثر فأكثر في مجريات عملية الترجمة، يطرأ سؤال في ذهني وأضعه بين يدي ليلى وعلاء للإجابة عليه: أي مدى يشعر المترجم بالإنصاف على اختلاف الصعد؟
"يشبه الأمر عملية الخلق حين يكتمل النص، ويصير كحصان أخذ استقلاليته من المترجم وصار يركض حراً"
علاء الذي يناقش أن مفهوم الإنصاف يأتي في صور عدة، فيكون مادياً أو مثلاً من خلال شهرة المترجم.
ويرى أن السنوات الخمسين الأخيرة في العالم العربي شهدت بروز أسماء الكثير من المترجمين/ات بحيث صارت أسماؤهم مقياساً لاقتناء الكتاب، أما عالمياً فالإنصاف محقق إلى حد ما، لكن يشير إلى تخوّفه من المبالغة في الأمر، موضحاً: "لا أراه صحيحاً أن يطغى حضور المترجم على صاحب العمل الأصلي، لابد أن ينصفا بصورة متكافئة".
ونظرا لاختلاف التجارب، ترى ليلى الأمر من زاوية أخرى، بحيث تقارن بين ما يحكى عن أهمية الترجمة والقائمين عليها، وبين ما يتجسّد من سلوكيات في ميادين العمل، فتقول: "في الكثير من الأمسيات التي شاركت بها كمترجمة، كان يُنسى تماماً ذكر اسم المترجم الذي يجلس على المنصة، وفي أحيان أخرى تكون المكافأة ما بين الكاتب والمترجم متفاوتة إلى حد بعيد".
وتتابع ليلى مع مثال للصيغة التي تستخدم في الإعلان عن عمل أدبي تمّت ترجمته، حيث تستخدم عبارة: "صدر باللغة الألمانية للكاتب/ة ..."، فيمكن النظر إلى تلك التفاصيل البسيطة على أنها تغييب لدور المترجم وحضوره في المشهد الأدبي، وتضيف: "يؤلمني هذا الشعور الذي يشبه أن يكون جهد المترجم جهداً مستباحاً لا تراعى فيه حقوق الملكية الفكرية".
ما بين عالم الترجمة والكتابة
في سياق الحديث تمّت الإشارة إلى أن لبعض المترجمين/ات طريقة مميزة في الترجمة، قد تصل إلى حد جعل ترجمتهم مقياساً أو سبباً لاقتناء رواية أو كتاب ما دون غيرهم. ومن ناحية أخرى، قد تكون بصمة المترجم/ة واضحة إلى درجة يمكن تخمينها قبل أن نقرأ اسم مترجم/ة العمل الفعلي.
فهل تصير الترجمة هنا بمثابة عملية الكتابة؟ وهل تعيد صياغة العمل الأدبي الأصلي؟ وهل من الممكن أن نصيغ فرضية تقتضي أن كل مترجم/ة يمكن أن يكون كاتباً/ة؟
لا يجيب علاء بنعم أو لا مطلقة على الأسئلة السابقة، ولكن يناقش الفكرة من خلال ربطها بهدف عملية الترجمة أولاً وأخيراً، وهو نقل النص من لغة إلى لغة ثانية، بحيث يصير النص مقروءاً باللغة الهدف، وما تتضمنه هذه العملية من نقل للمعنى وحالة النص: "نحن لا نترجم كلاماً فحسب، والمعنى من أهم مكونات الأدب. وبالتالي نقل هذه الحالة الشعورية من الطبيعي أن تتفاوت من مترجم إلى آخر".
يجد علاء أن هذا تحد كبير، أي النقل دون التدخل في بصمة كاتب النص الأصلي، وبدوره يشير إلى أن المعادلة الأمثل تقتضي حضور بصمة المترجم شريطة ألا تطغى على بصمة صاحب النص، وبالتالي قد تكون إعادة كتابة للنص الأصلي لكنها لا تبدأ من الصفر".
وفق منظور مختلف، تحاور ليلى ما سبق انطلاقاً من تجربتها الخاصة التي حتمت عليها لعب دور الوسيط ما بين ثقافتين ومد جسر تواصل بينهما، وبالتالي بيان أن لكل منا هدفه في الحياة، ويكفي أن يكون هدف أحدهم أن يصير مترجماً.
إن عملية الترجمة حين مقارنتها بالكتابة، على درجة مختلفة من الصعوبة لكونها مقيّدة بنص ولغة ومضامين لا تتيح للمترجم مساحة حرة للتصرف، مقارنة بالكاتب الذي يبني عوالمه بحرية مطلقة
تضيف ليلى: "يفترض السؤال أن الكاتب أعلى مرتبة أعلى من المترجم وهو ما لا أظنه دقيقاً".
تبين ليلى أن عملية الترجمة حين مقارنتها بالكتابة، فهي على درجة مختلفة من الصعوبة لكونها مقيّدة بنص ولغة ومضامين لا تتيح للمترجم مساحة حرة للتصرف، مقارنة بالكاتب الذي يبني عوالمه بحرية مطلقة دون أن يحاول الفكاك من نص أصلي يعمل عمل البوصلة، فيملي عليه طريق النص وخطواته، وتتساءل ليلى: "لنسأل العكس ربما، هل يمكن للكاتب أن يكون مترجماً؟".
"يصير النص حصانا يركض بحرية"
لابد من وجود جانب ممتع في عملية تتخللها الصعاب وتتطلب الكثير من الجهد والوقت كالترجمة. جانب يهوّن على المترجمين مهمتهم ويكافئ التعب الذي قُدّم ليصبح النص مكتمل الملامح في اللغة الهدف.
"يشبه الأمر عملية الخلق"، هكذا تشير ليلى إلى اللحظة الأمتع في الترجمة وهي حين يكتمل النص، ويصير، على حد قولها، كحصان أخذ استقلاليته منها وصار يركض حراً، وتضيف ليلى: "تجاوز كل الصعوبات، خاصة اللغوية منها ووصول النص إلى مرحلة تبني حياة جديدة مستقلة عنك أمر في غاية المتعة".
أما بالنسبة لعلاء، فالمتعة في عملية الترجمة تُبنى بداية على الشغف الذي يملكه المترجم نحو الزوج اللغوي الذي يعمل على الترجمة منه وإليه، موضحاً: "هي لحظة باعثة للسرور حين ننظر إلى عملنا المترجم بعين الرضا ونشعر بأننا ساهمنا في توفير كتاب ربما كانت لغته الأصلية حاجزاً ما بينه وبين القارئ الهدف".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.