في أحد دروس "مهارات الاتصال" في الجامعة، كلفنا الدكتور بحضور أفلام سينمائية، كنوع من أنواع فهم الاتصال الجماهيري. يومذاك قررت أنا وصديقي الذهاب لأول مرة لحضور فيلم سينمائي. ينحصر وجود دور السينما في الأردن في العاصمة عمان مع استثناء أو اثنين، لهذا قليلاً ما نجد عشرينياً من خارج عمان قد خاض تجربة دخول السينما، إذ كان هذا الأمر غير محبب لفترة طويلة. وهناك وصمات تلاحق من يفعله بأنه غير مهذب. لذا عندما كلفنا الدكتور في الجامعة بالزيارة، كانت التجربة الأولى في حياتي لدخول دار سينما.
فيلم إباحي في زيارتي الأولى للسينما!
خرجت وزميلي في رحلة بحث وقتذاك على جميع سينمات عمان، لكن للأسف كانت هذه الدور العريقة تحتضر وفي آخر أيامها. السينمات الرخيصة في ذلك الوقت (قبل عشر سنوات) هي التي في وسط البلد، فتلك التي في المولات تكلف تذكرتها بين 15و20 دولاراً لحضور الفيلم، بينما في وسط البلد التذكرة بدولار ونصف، وهذا منطقي لشخص من الطبقة الفقيرة. ذهبنا للعرض وكان مكتوباً على بوابة السينما عرض "فيلم إيطالي"، لنتفاجأ أن المعروض هو فيلم إباحي!
في العام 1968 بدأ بث التلفزيون الأردني، وسريعاً دارت عجلة إنتاج المسلسلات البدوية التي كانت تبث على التلفزيونات الخليجية وتُنتج بأموالها
دخلت السينما إلى الأردن في بداية الأمر من خلال "سينما كياترو" التي كانت داخل معسكرات الجيش البريطاني، ثم بدأ ترخيص دور السينما، ثم بدأ الوجود الفلسطيني وبدأ معه إنتاج السينما. حتى العام 1965 كان هناك ما يزيد على 50 دار سينما، وكان عدد المقاعد حوالى 20 ألفاً، وبحسب المؤرخ السينمائي جورج سادول في كتابه "تاريخ السينما في العالم" كان يباع في الأردن سنوياً ما يقارب 6 ملايين تذكرة، في حين لم يكن عدد السكان يتجاوز المليونين.
يقول الباحث حسان أبو غنية: "في عام 1929 تم بناء سينما صامتة في الأردن استمرت بعروض الأفلام الصامتة لمدة خمس سنوات قبل أن ينتهي وجودها عندما عرف العالم السينما الناطقة، وفي عام 1934 تم بناء أول سينما ناطقة وهي سينما البتراء". ازدهر سوق السينما في الأعوام اللاحقة، وهو ما دفع شباب أردني لإنتاج مجموعة أفلام محلية، مثل فيلم "صراع في جرش" 1958، وفيلم "وطني حبيبي" 1960، ولاحقاً فيلم "الطريق إلى القدس" 1978، وجميعها أفلام روائية طويلة.
البداوة بين السينما والدراما البدوية
مع حلول العام 1968 بدأ بث التلفزيون الأردني، وسريعاً دارت عجلة إنتاج المسلسلات، وشهدت فترة السبعينيات إنتاج العديد منها، حيث تم بثها على التلفزيونات الخليجية أيضاً، بل إن كثيراً منها أنتج بأموال خليجية. لكن كانت السينما المصرية منذ وقت مبكر قد اختارت أن تطرق بوابة المجتمع البدوي، حيث بدأ إنتاج أفلام صامتة في البداية مثل "غادة الصحراء" وهو فيلم بدوي روائي صامت طويل مدته 90 دقيقة، أنتج في عام 1929.
وتوالت الأفلام البدوية في الفترة الملكية لحكم مصر، فيما عرف باسم الأفلام البدوية وهي الفترة الممتدة من 1929 إلى 1952، مثل "معروف البدوي 1935"، و"نفوس حائرة 1938"، و"ليالي القاهرة 1939"، و"ابن الصحراء 1942".
استمرت هذه الموجة حتى العام 1952 ليصبح بعدها الإنتاج شحيحاً من هذا النوع من الأفلام، وهو ذات العام الذي حدث فيه ثورة يونيو في مصر وبدأ عصر جديد، ولعل ما يميز هذه الفترة من الإنتاج السينمائي هو ركاكة الحوارات البدوية، بلهجة لا تشبه اللهجة البدوية، وأيضاً غلب عليها الطابع الرومانسي حتى أن البعض أطلق عليها اسم "رومانسيات الصحراء"، كما تميزت تلك الأفلام بأنها ذات طابع نضالي في سبيل مقاومة المحتل والاستعمار، خاصة أفلام ما قبل النكبة، وقد تحدث صناع هذه الأفلام أنها جاءت لتحارب صورة الاستشراق عن المجتمعات العربية والبدوية.
وضحا وابن عجلان... وبداية عهد جديد
في عهد عبد الناصر بدأ الإنتاج البدوي يشح أكثر فأكثر، وبدأت صناعة السينما تصبح جزءاً من خطاب الدولة، وهو الإنتاج الذي أزعج الكثير بسبب الانزعاج من سياسة عبد الناصر نفسه، لهذا اتجه الخليج العربي لاستبدال السينما المصرية بالدراما البدوية الأردنية.
"غادة الصحراء" هو فيلم بدوي روائي صامت مدته 90 دقيقة، أنتج في عام 1929، وهو واحد من العديد من الأفلام البدوية التي أنتجتها مصر في الفترة الملكية مثل "معروف البدوي 1935"، و"نفوس حائرة 1938"، و"ليالي القاهرة 1939"، و"ابن الصحراء 1942". وقد استمرت هذه الموجة حتى ثورة يونيو
قدمت الدراما الأردنية مسلسلات بدوية "رائعة" ومغايرة للطابع الدرامي الذي قدمته السينما المصرية والسورية واللبنانية عن البداوة، حيث كانت هناك طبيعة محافظة ومثالية لهذا النوع الجديد من المسلسلات، وكان مسلسل "وضحا وابن عجلان 1975" أول مسلسل بدوي يتم إنتاجه على الشاشة الأردنية، ولا يزال يعد علامة فارقة في الدراما البدوية إلى اليوم.
وفي الفترة الممتدة من 1976 - 1990 وبسبب المقاطعة العربية لمصر بعد توقيع اتفاقية "كامب ديفيد"، انتعش السوق الأردني في كل شيء ومن ضمنها الدراما البدوية.
سميرة توفيق... اللبنانية البدوية التي فتنتنا
كانت سميرة توفيق ولا زالت تعد رمزاً أردنياً مع أنها لبنانية، ولكن كان هناك اهتماماً رسمياً بها، لما قامت به من دور في صناعة أغنية تعبر عن هوية أردنية ناشئة.
بدأت العلاقة بين سميرة توفيق والأردن في نهاية العام 1959 من خلال الإذاعة الأردنية، وكما تقول سميرة توفيق في إحدى مقابلاتها إن من دربها على اللهجة الأردنية هو صلاح أبو زيد الذي كان يشغل منصب مدير الإذاعة آنذاك، ومن ثم أصبح وزيراً للإعلام.
اشتهرت سميرة توفيق بنمط غنائها، وأصبحت معبودة الجماهير في الريف الشامي والمجتمعات البدوية، وكانت بوابة العبور للخليج. وفي نهاية الستينات بدأت لبنان بإنتاج مكثف للسينما التجارية، فلبنان هو المستفيد الأكبر من قرار جمال عبد الناصر القاضي بتأميم قطاع السينما في مصر، ما دفع عدداً من الممثلين والمنتجين المصريين للذهاب إلى لبنان وإنتاج العديد من الأفلام التجارية، وكان منها العودة لإنتاج السينما البدوية، هذه المرة سميرة توفيق هي البطلة.
كانت سميرة توفيق ولا زالت تعد رمزاً أردنياً مع أنها لبنانية، ولكنها حظيت باهتمام رسمي لما قامت به من دور في صناعة أغنية تعبر عن هوية أردنية ناشئة.
لكن هذا النوع من الأفلام ظل ركيكاً، بقصص تشبه الصورة الاستشراقية عن المجتمعات العربية البدوية وهي "جنة الجنس"، أفلام بلا قصص حقيقية، وسميرة توفيق نفسها تقول في إحدى المقابلات إنها "لا تحب السينما وإنها نادمة على دخول السينما"، بل وتنتقد بعض أفلامها مثل "فيلم بنت الشيخ"، و"بدوية في روما".
في مطلع السبعينيات كانت السينما اللبنانية والسورية وحدها تقدم الصورة البدوية من خلال إنتاج سلسلة أفلام عرفت بحقبة الأفلام البدوية، والتي كانت بطلتها سميرة توفيق أيضاً، والتي صنعت نجوميتها الإذاعة الأردنية عندما كان هناك سعي لإنتاج هوية وطنية ثقافية تواجه الصراعات السياسية في تلك الحقبة.
انتعاش المسلسلات البدوية الأردنية
لكن الحرب الأهلية في لبنان أوقف الإنتاج هناك، فكان البديل هو الدراما البدوية الأردنية، لنشهد حقبة المسلسلات التي تعكس الهوية الوطنية المتخيلة، حيث الولاء للعشيرة والشيخ والقبيلة، وحيث احترام الأعراف والعادات والتقاليد، خاصة وأن السينما اللبنانية خلال الحرب الأهلية انتقلت لإنتاج سينما مرتبطة بالمقاومة الفلسطينية، أو فترة ما عرف باسم "أفلام الحرب".
هذا النوع من الأفلام كان يتعارض مع سياسة بعض الدول في حينه خاصة لوجود نفس يساري واضح في هذه الأفلام وأيضاً كانت المقاطعة لمصر قد بدأت بسبب التوقيع على اتفاقية "كامب ديفيد".
لذا وجد الجميع في الدراما البدوية الأردنية بديلاً مناسباً خاصة أن الخليج العربي كان يعيش في تلك الفترة "الفورة النفطية"، حيث كان المنتجون يطمحون لكسب رضا المحطات الخليجية المنتجة، لهذا كانت هذه الدراما تخاطب مجتمعات الخليج وتحاول كسب رضاها.
قدمت الدراما الأردنية مسلسلات بدوية "رائعة" ومغايرة للطابع الدرامي الذي قدمته السينما المصرية والسورية واللبنانية عن البداوة، بطبيعة مثالية ولهجة متقنة، وجاء مسلسل "وضحا وابن عجلان 1975" كأول مسلسل بدوي يتم إنتاجه على الشاشة الأردنية، ولا يزال يعد علامة فارقة في الدراما البدوية
شهدت تلك الفترة أيضاً نقداً مباشراً لهذ النوع من الدراما، إذ نشرت جريدة الدستور الأردنية مقالاً للكاتب عودة القيسي عام 1977 ينتقد به موجة المسلسلات البدوية بالمقارنة مع رواية "العودة من الشمال"، وهي رواية كانت قد صدرت حديثاً في حينه للكاتب فؤاد القسوس تتحدث عن البيئة القروية، من المقال: "إن رواية فؤاد أصدق في التعبير عن البيئة من هذه المسلسلات التي تعرض في التلفزيون الأردني كوضحا وابن عجلان ونمر بن عدوان.. إلخ، لأن الراوي انطلق من وعي عميق لتلك البيئة القروية، وهي أنها بيئة جاهلة متخلفة، قد جر الجهل عليها كثيراً من العادات والقيم السيئة، وهذا الوعي يناقضه طراز فهم أصحاب المسلسلات التلفزيونية البيئة البدوية، إذ صوروها بيئة كاملة كل ما فيها كامل ومشرق لا يحتاج إلى التغيير وكأنها البيئة التي يجدر بالناس في أيامنا هذه أن يحتذوا مثالها مع أنها كانت بيئة عميقة التخلف، يكفي الدلالة على تخلفها أن البدو كانوا قبائل متنابذة يضرب بعضهم رقاب بعض بالغزوات والسلب والنهب".
سادت هذه المسلسلات الشاشة لزمن طويل، لتمارس دور التوجيه على مجتمعات فلاحية وبسيطة، وفي الفترة نفسها استمر الإعلام الرسمي بتخويف الناس من السينما، حيث كان يصفها بـ"أوكار اللهو والرذيلة"، ويتهمها بنشر الأفلام الجنسية والإباحية، كان أصحاب السينمات في تلك الفترة ينشرون مناشدات عبر الصحف لحمايتهم وزيادة الرقابة داخل صالات العرض، وإنشاء مؤسسة وطنية للتوزيع بعد احتكار الأفلام من قبل المنتجين وشركات التوزيع الكبرى خارج الأردن، لكن الدولة لم تبالي بكل هذا.
وجدت الدولة أن سلاحها الناعم هو الدراما البدوية، ووجدت في السينما سلاحاً يمتلكه الآخرون يوجهونه نحوها، لهذا سكتت على هذا التحريض المستمر على السينما ودور السينما، وكانت النتيجة هي العمليات الإرهابية التي استهدفت سينما "ريفولي" وسينما "سلوى" في العام 1994.
هذا الصمت حرم جيلاً بأكمله في كل المحافظات الأردنية من متعة مشاهدة السينما. لهذا عندما دخلتها لأول مرة في العام 2011 نتيجة تكليف جامعي، كنت أحمل هذا الرهاب في داخلي، فأنا من جيل يخاف دخول السينما، إن لم تكن داخل المولات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه