شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
يعتقدون أن شجرة الفستق في مزاره متصلة بسرّته... الشيخ الجامي، السكّير الذي أصبح صوفياً

يعتقدون أن شجرة الفستق في مزاره متصلة بسرّته... الشيخ الجامي، السكّير الذي أصبح صوفياً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الثلاثاء 25 أبريل 202311:58 ص

حطّت رحالنا في مزار شهير وسط مدينة تربت جام الإيرانية المحاذية للحدود الأفغانية والتركمانستانية، في الجهة الشرقية من البلاد؛ مزار يضمّ قبر أحد أشهر علماء المتصوفة وهو أيضاً شاعر إيراني فذ، الشيخ أحمد الجامي.

كثيرة هي الحكايات الغريبة لهذا المزار الذي يُدار من قبل أحفاد الرجل برغم مرور 8 قرون على بنائه، وهُم في مرتبة عليا عند سكان المدينة، الذين يكرمونهم وكأنهم أمراء من عائلة ملكية، ويشتهرون بلقب "خواجة".

دليلنا للتعرف على المزار، هو رجل ستيني، سليل الشيخ الجامي الحادي والعشرين. دخلنا باحة كبيرة فانتصبت أمامنا شجرة فستق كبيرة ذات أفرع كثيرة، تعلوها رقعة من الرخام بطول مترين محاطة بحجر الرخام أيضاً. شرح لنا أن هذا هو قبر جدّه، وأن الاعتقاد السائد بين الأهالي هو أن شجرة الفستق متصلة بسرّة الشيخ المتصوف.

هدوء المكان يفضح استغرابنا وشيئاً من ملامحنا المندهشة من الاعتقاد المحلي، لكن الرجل يكمل برحابة صدره وصفَ المكان، فيأخذنا إلى ما وراء تلك الشجرة، حيث رواق يرتفع نحو 30 متراً، يضم 3 أبواب: الباب الرئيسي في الوسط ويقع أمام القبر، يقود إلى غرفة واسعة قيل إنها كانت دار عبادة الشيخ أحمد.

كان أهالي المدينة يعتقدون سابقاً أن من يريد التنبؤ بمستقبله، بإمكانه أن يقف على الجهة الشرقية في وسط الجدار، ثم يغمض عينيه وينوي، ثم يفتح يديه نحو الجدار ويخطو نحو 3 أمتار، فإن استطاع أن يصل إلى العلامة بشكل مباشر فقد نجح 

وأما الباب الأصغر على الجهة اليسرى، فهو جامع الكِرماني، وهو موقع عبادة أتباع الشيخ وزهّاد المدينة، أما على الجهة اليمنى فهناك رواق آخر يقود إلى قبور بعض من أحفاد أغرب علماء التصوف في إيران.

قبر يختص بعلاج بثور الأجسام

على يسار الرواق باب آخر، يفتح على فناء صغير يتوسطه قبر لأحد أنصار الشيخ أو لأبنائه، ويسود اعتقاد مثير للإعجاب بين الأهالي، مفاده أن من يعاني من بثور في جسمه، بإمكانه أن يأخذ عيّنةً صغيرةً من طين حديقة الفناء، ثم يكورها بيده ويضعها فوق القبر بنية صادقة وإيمان راسخ، فيُشفى من المرض حين يجف الطين.

وعلى الجهة الجنوبية من ذاك الفناء، هناك زاوية في داخل الجدران مساحتها 9 أمتار مربعة، وفي جانبها الغربي نقش كالمحراب، في وسطه علامة من طين وُضعت على الجدار، وهنا شرح لنا مرشد المزار أسرار ذلك بالتفصيل، وطلب عدم تصويرها، وكأنه يؤمن بخرافتها.

كان أهالي المدينة يعتقدون سابقاً أن من يريد التنبؤ بمستقبله، بإمكانه أن يقف على الجهة الشرقية في وسط الجدار، ثم يغمض عينيه وينوي، ثم يفتح يديه نحو الجدار ويخطو نحو 3 أمتار، فإن استطاع أن يصل إلى العلامة بشكل مباشر فقد نجح، وسينال ما طلبه في نيّته سرّاً، وإن التوى طريقه ولم يرتطم بها فقد خسر.

وهنا يحدّثنا بأن كثيرين من الناس العامة قد حصلوا على ما طلبوه، بعدما نجحوا في هذا الامتحان. جرّب بعض الزوار تلك الطقوس التقليدية، فمنهم من وصل ومنهم من لم يصل إلى الطينة في المحراب، ومنهم من وضع عيّنة من طين على القبر.

فتح لنا حفيد الشيخ الجامي باباً آخر على الجهة الغربية من الفناء، فشعرنا وكأننا دخلنا إلى عالم آخر، حيث باحة الجامع العتيق المطرّز بالعمارة السُّلجوقية، وفي جهة أخرى هناك بقايا من جامع قديم يعود إلى 800 سنة خلت.

يضم المزار مدرسةً للصوفيين وصومعةً، وجوامع، وقناة ماء، ومقبرةً لأحفاد الشيخ، وحديقةً واسعةً، كانت قيد شُيّدت كلها شيئاً فشيئاً من قبل أتباع الشيخ وأحفاده والملوك والحكام المحليين وعلماء المتصوفة وكذلك الأهالي، عبر تقديم نذوراتهم، وبدأ ذلك كله بعد قرن على وفاة الشيخ.

في نهاية المطاف، رحّب بنا شيخ الإسلام شرف الدين جامي الأحمدي، سادن المزار والزعيم الديني وقاضي المدينة وخطيب صلاة جمعتها، وشرح لنا كيف أن السدانة تنحصر في أعلم أحفاد الشيخ أحمد الجامي وأكبرهم وأزهدهم، ويتم ذلك في حفل تقليدي خاص، إذ تنتقل من الأب إلى الابن. وبذلك فهو المزار الوحيد الذي لا تتدخل في شؤونه وزارة التراث أو هيئة الأوقاف الإيرانية.

يذكر سديد الدين محمد الغزنوي، وهو من مريدي الشيخ الجامي، 369 معجزةً للشيخ في كتاب المقامات، ولكن المستشرق الألماني هلموت رتر، الذي اشتهر بتحقيقه مخطوطات عربيةً وفارسيةً، ذكر للشيخ نحو 180 معجزةً فقط.

من هو الجامي؟

هو أبو نصر أحمد بن أبي ‌الحسن بن أحمد بن محمد النامقي، وُلد عام 1048 م، في قرية نامق من توابع مدينة كاشمَر في إقليم خراسان الواقع في شرق إيران، ويعود نسبه إلى جرير بن عبد الله البجلي من صحابة الرسول محمد، ويبدو أن عائلته قطنت خراسان بعد دخول الإسلام إليها.

كان في شبابه سكّيراً يقضي معظم وقته في اللهو واللعب، وبقي كذلك حتى شاهد رؤيا غريبة تحولت فيها كأس الخمر إلى كأس من العصير، فانقلب رأساً على عقب. استيقظ حينها الفتى وأدرك أن طريقه ليس صحيحاً، فتاب في الـ22 عاماً من عمره، وقرر ممارسة أقصى درجات الزهد في حياته.

تحدّثنا الكتب بأن الشيخ اختار العزلة التامة في كنف الجبل، فبقي نحو 12 عاماً في جبل "نامق"، ثم 6 أعوام أخرى في جبل "بيزد جام"، وقد بنى لنفسه جامعاً هناك باسم جامع النور، ما زالت آثاره موجودةً.

وتذكر المصادر أن العالم الصوفي المجهول "أبو طاهر كُرد"، هو معلم الشيخ أحمد الذي اختار المذهب الحنفي، بيد أن هناك كتباً تاريخيةً أخرى تنفي ذلك. بعد 18 عاماً من العيش في الكهوف، قرر أن يكسر عزلته ويعيش بين الناس للنصيحة والموعظة والإرشاد، وكانت غايته الأهم تتمثل في استتابة شاربي النبيذ، فقطن في مدينة "سرخس" الإيرانية المحاذية للحدود التركمانستانية، وسبب اختيارها هو تفشي المرض فيها، فقام بشفاء المرضى هناك حتى أثار استغراب السكان، وأصبحوا من أصحابه وأتباعه.

ثم حل في قرية "معد آباد"، التي باتت تُعرف بمدينة تربة الشيخ أحمد جامي بعد وفاته، ويقتصرها الإيرانيون فيقولون مدينة "تربت جام" بالفارسية. شيّد لنفسه جامعاً ولأتباعه صومعةً، وراح يدرس ويؤلف الكتب في التصوف والشعر الفارسي.

"أنيس التائبين"، "سراج السائرين"، "روضة المذنبين"، "بحار الحقيقة"، "كنوز الحكمة"، "فتوح الروح"، "فتوح القلوب"، "الرسالة السمرقندية"، وديوانه الشعري... جزء من كتبه الثلاثة عشر التي خطّها باللغة الفارسية.

من أبرز خصال الشيخ أحمد الجامي، عداوته للنبيذ، حتى أنه بذل قصارى جهده لاستتابة السكارى، وكان يؤمن إيماناً تاماً بالتوبة والعودة إلى الخالق

لم يزُر الشيخ أحمد بلاد المسلمين، وفضّل البقاء في تلك البقعة من الأرض ليكتفي بزيارات قصيرة إلى المدن المجاورة فحسب، وأما الكعبة فقد حجّ إليها مرةً واحدةً في حياته.

استتابة السكارى وإعماء الزوجات

قيل عنه إنه كان رجلاً مقتدر ومتنفذاً وصاحب قوة روحية خارقة، يستخدمها دوماً. وكانت له ثماني زوجات و39 ابناً و3 بنات، وكان شديد الصرامة مع زوجاته، وقد أعاق إحداهن بسبب خروجها من المنزل من دون إذنه، كما أعمى اثنتين منهن لأنهن بادرتا إلى مشاهدة جماع الشيخ مع إحدى زوجاته من خلف الباب.

ومن أبرز خصال الشيخ أحمد الجامي، عداوته للنبيذ، حتى أنه بذل قصارى جهده لاستتابة السكارى، وكان يؤمن إيماناً تاماً بالتوبة والعودة إلى الخالق، كما ذُكر عنه أنه كان قاسياً مع أتباع الديانات الأخرى، إذ يعدّهم من أصحاب جهنم، وحاول أن يدخلهم إلى الإسلام.

توفي هذا الشاعر الفارسي من أصول عربية والعالم الصوفي الشهير الذي ما زال الغموض يسود معظم جوانب حياته وأفكاره وشخصيته الدينية، في الـ96 من عمره، في عام 1142 م، وكان 14 من أولاده على قيد الحياة.

ورد ذكره في كتاب رحلة ابن بطوطة مرتين؛ الأولى حينما زار الرحالة المغربي مدينة تُربت جام، والثانية عندما كان في الهند وتعرّف إلى أتباع الشيخ أحمد وهم كثر هناك، وحصلت تلك التبعية بسبب هجرة أحد أبنائه إلى الهند وترويج طريقة والده، وأما أحفاده اليوم فهم موزعون بين إيران وباكستان والهند وبعض الدول الأخرى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image