في أواخر عشرينيات القرن الماضي، جلس الملك عبد العزيز على عرش السعودية. وفي سنوات حكمه الأولى اعتاد السعوديون على إقامة حفل سنوي إحياءً لتلك الذكرى، حتى انتهت تلك العادة، بعد استجابة الملك لدعوة المشايخ الذين رأوا أن في إقامة مثل تلك الحفلات "مخالفةً لشرع الله"!
ما كان يحصل في تلك الحفلات كاد أن يندثر، لولا كتابات يسيرة من بعض الحاضرين في تلك المناسبة، منها ما دوّنه اسمٌ كبير في عالم الأدب والصحافة آنذاك، هو الكاتب إبراهيم عبد القادر المازني، في كتابه "رحلة إلى الحجاز".
المازني في الحجاز... لماذا؟
منتصف عام 1930، أو ربما في آخره، أصدر المازني كتابه "رحلة إلى الحجاز"، وأورد فيه ما رآه وما عاينه من مشاهدات جديرة بأن تُروى، كونها تتميز برصدٍ ذكي ولافت لطبيعة الحكم والعمران والحياة في الدولة السعودية الجديدة.
ويزيد من أهمية تلك الرحلة السبب الذي تمت من أجله، أو السياق الذي جرت خلاله. ففي التاسع من كانون الثاني/يناير عام 1930، دُعيَ المازني بصفته مندوباً عن جريدة "السياسة" المصرية، ورافقه حينها وفدٌ صحافي وأدبي، لحضور الحفل الأول لإحياء ذكرى جلوس الملك عبد العزيز على عرشه.
منتصف عام 1930، أو ربما في آخره، أصدر المازني كتابه "رحلة إلى الحجاز"، وأورد فيه ما رآه وما عاينه من مشاهدات جديرة بأن تُروى، كونها تتميز برصدٍ ذكي ولافت لطبيعة الحكم والعمران والحياة في الدولة السعودية الجديدة
ضمّ الوفد المصري نخبةً من المفكرين، منهم أحمد زكي باشا الملقّب بشيخ العروبة، ونبيه بك العظمة، وخير الدين الزركلي صاحب كتاب "الأعلام"، ومحمود أبو الفتح، بصفته مندوباً عن جريدة "الأهرام"، وعبد الحميد حمدي ممثلاً جريدة "البلاغ"، ومحيي الدين رضا عن جريدة "المقطم"، ومحمد المصيلحي عبد الله عن جريدة "كوكب الشرق"، والمصوّر الصحافي رياض شحاتة، وأنيس حصلب عن بعض المجلّات الأخرى.
لم يهتم المازني في رحلته بتحديد الأزمنة، ولا بذكرِ الحوادث، باستثناء مرة واحدة، قال فيها: "وفي الساعة السادسة من صباح السبت 4 كانون الثاني/يناير، أيقظني أحد الزملاء، وبلّغني أن الشاطئ قد ظهر" (يقصد شاطئ ينبع).
لكننا من بين ثنايا الكتاب نستطيع أن نعرف خطّ سير الرحلة التي استمرت ستة أيام، وبدأت بالسفر من السويس في الأول من كانون الثاني/يناير على الباخرة "تالودي"، إحدى بواخر شركة "البوستة الحديدية"، مروراً بميناء ينبع صباح السبت الرابع من كانون الثاني/يناير، كما ورد في الرحلة، إلى الوصول إلى جدّة صباح الأحد في الخامس من كانون الثاني/يناير عام 1930.
أقيمت الاحتفالات في ذكرى جلوس الملك عبد العزيز، وكان الاحتفال الأبرز فيها في وادي فاطمة، صباح يوم الخميس التاسع من كانون الثاني/يناير لعام 1930، وهنا كانت للمازني بأسلوبه الأدبي انطباعات عدة جديرة بالوقوف عندها.
اقطعوا ألسنة شعراء نجد!
خلال الحفل، اهتمّ الخطباء والشعراء بإبراز ما لديهم من براعة أدبية، لكنها لم ترُق للمازني الذي قال: "إن هذه المبالغات السخيفة هي داؤنا جميعاً، وإننا في مصر والشام والعراق والحجاز أحوج إلى مواجهة الحقائق، وفتح العيون على الواقع وقياس ما بيننا وبين من سبقنا من الأمم، وإن من الإجرام أن نخدع أنفسنا ونغالطها في هذه الحقائق، ومن الجناية أن ننشئ هؤلاء الأطفال على التوهم أن بلادهم ارتفعت إلى قمة العلا، وغير ذلك من الكلام الفارغ".
رصد المازني العديد من مظاهر التمدن في الحجاز آنذاك، بل سعى إلى محو الصورة الذهنية المأخوذة عنه، بقوله: "الحجاز ليس مجهلاً من مجاهل آسيا أو إفريقيا، وإنه وطن الإسلام، وإليه يحج المسلمون من أقاصي الأرض وأدانيها، وإنه بلاد متحضرة سوى أنها فقيرة، والفقر لا يمنع الأناقة ولا يحول دون التهذيب".
لم يكتفِ المازني بذلك، بل أمطر الشعراءَ بوابلٍ من غضبِه، فقال: "وكان من بين الشعراء رجل من الكويت شعره سخيف، ولكن إنشاده بديع، وقد كان وهو يلقي القصيدة يغنّي ويمثّل (...) وتلاه شاعر نجدي قح، أعوذ بالله من إلقائه، فليته جاء قبل الكويتي، ولكنه أبى إلا أن يجيء قبل الطعام فكاد يصدّنا عنه ويفتِّر رغبتنا فيه، ويزهدنا في الشعر والأدب والعرب، بل في الحياة نفسها، فأعوذ بالله مرةً أخرى وثانيةً وثالثةً من إلقائه، وسأظل أستعيذ بالله منه كلما ذكرته؛ فإنه يفسد عليَّ نومي ويسوّد العيش في عيني، ويغثي نفسي ويكرب صدري، وقد ضرست أسناني لمّا سمعتُ صوته، وأحسستُ كأن الحكّة قد شاعت في جلدي -أعني الجرَب، والعياذ بالله مرةً رابعةً منهما أعني الجربَ والصوت- وإني لأوصي الحكومة الحجازية أن تقطع ألسنة الشعراء النجديين إذا كانت أصواتهم مُنكرةً كهذا الصوت؛ فإن البُكمَ خيرٌ ألف مرة، وهذا الصوت -إذا كان له مشبه- خليق أن يغري الخلق بالفتنة والتمرد ويدفع الرعية إلى الانتفاض والثورة"!
ويُقرّ المازني بأنه، على المستوى الأدبي، لم ينعم في رحلته إلى الحجاز سوى بأشعار رفيق رحلته خير الدين الزّركلي، واصفاً ذلك المشهد بسخريته اللاذعة: "وقمنا إلى الطعام بعد هذا البلاء الشعري (...) ودُعِي زميلنا خير الدين أفندي الزركلي فأنشد قصيدةً خماسيةً هي كلّ ما خرجنا به في يومنا، بل في رحلتنا كلها من الكلام الرصين الجيد".
الدولة السعودية الوليدة في عيون المازني
الجانب السياسي والحكومي في أرض الحجاز راقَ للمازني، على عكس ما استنكره من الشعراء والخطباء، فقال: "وقد شعرنا من أول لحظة أننا في بلدٍ مستقل، فلا أجنبي هناك، ولا نفوذ ولا سلطان إلا للأبناء، وكل موظف حجازي، حتى اللاسلكي، عُمّاله ومديره حجازيون. وقد أبى أحمد زكي باشا إلا أن يرى هؤلاء العمال وهم يبعثون بتحيّتنا إلى سموّ الأمير فيصل في مكة، كأنما لم يكن يصدق أن لابسي العباءة والعقال يستطيعون أن يُحسنوا ما يُحسنه الأوروبي من الأعمال الآلية على الأقل".
ولم يُخفِ المازني إعجابه بسياسة الدولة الوليدة: "في ينبع عشرة آلاف نسمة وأقل من مئة جندي، والحكومة كأبسط ما يكون، ولا حاجز هناك بين الأمير وأحقر الأهالي، وسلطان الحكومة ليس مستمداً من الخوف الذي تبعثه القوة، بل من الاحترام والحب والتعاون، وآية ذلك أن الناس صريحون مع حكامهم، وأن الحكام لا يبدو عليهم تكلّف، ولا تكون الصراح من الخوف والتقية، ولا الخوف مع البشر الذي ينضح به الوجه ولا يخفي فيه صدق السريرة، ولا هذه البساطة المبتسمة مع القسوة والاستبداد".
شعب الحجاز ليس "جاهلياً"!
رصد المازني العديد من مظاهر التمدن في الحجاز آنذاك، بل سعى إلى محو الصورة الذهنية المأخوذة عنه وعن أهله، بقوله: "سمعت أن فريقاً من المصريين لا يصدقون أن أهل الحجاز لا يعرفون الأكل على الطريقة الحديثة، فلهؤلاء أقول: إن الحجاز ليس مجهلاً من مجاهل آسيا أو إفريقيا، وإنه وطن الإسلام، وإليه يحج المسلمون من أقاصي الأرض وأدانيها، وإنه بلاد متحضرة سوى أنها فقيرة، والفقر لا يمنع الأناقة ولا يحول دون التهذيب".
وضرب المازني مثالاً حياً على ذلك التمدن، فقال: "ليس في الحجاز فنادق أو مطاعم عامة، ولكنّا دُعينا في كل مكان، حتى في قلب الصحراء وتحت الخيام، إلى موائد على الطريقة الغربية، عليها من الآكال ما يندُر أن تقع عليه العين أو يذوقه اللّسانُ حتى في مصر المتحضرة".
نساء الحجاز... لغز عجيب في رحلة المازني
يظل أعجب ما في رحلة المازني إلى الحجاز، هو عدم تيقنه من وضع المرأة هناك، ففي البداية يجزم بأنه لم يرَ "في الحجاز امرأةً ولا بائعاً متجولاً ولا شيخاً همّاً يقوم على الراحتين، ولا جنازة ميت. فأما المرأة فلم أستغرب الحجاب المضروب عليها، فنحن في مصر لا يزال مِنَّا من يحجب المرأة ويوصد عليها الأبواب".
لكنّ موقفاً طريفاً مرّ به، شككه في ذلك اليقين، حين جاءت لحظة التقاط صورة تذكارية للزيارة، وخلال تزاحم المدعوين، يبدو أن المازني احتكّ جسده بشخصٍ ملاصق له، فلم يسعه إلا أن يقول: "بردون مدام! أعني معذرة يا سيدتي! لقد زاحمتك وأنا غافل عن وجودك فلا تؤاخذيني! تفضّلي".
يضيف المازني: "وثنيت عيني إلى جارتي الرشيقة وشعرها الوحف المضفَّر الذي يفترق فوق جبينها الوضَّاء ويلمع في ضوء الشمس كأنه مدهون (بالبرينتين) وإلى حوَر عينيها الواسعتين اللتين يزينهما الكحل، وإلى ديباجة وجهها الضافية وماء الشباب الذي يترقرق في وجنتيها، والابتسامة الخفيفة المغرية التي تفترُّ عنها شفتاها الرقيقتان".
ثم أراد أن يتحدث معها، فأشار إلى فمها ليستفزّها إلى الكلام، قائلاً: "أليس لك لسان؟ أأنت خرساء؟ مسكينة! يا لَسُخر الأقدار!".
بعد فترة، استفاق المازني على صدمة، حين مال إلى زميلٍ له في الرحلة، وهمس في أذنه: ألا ترى هذه السيدة؟ ألم يَرُعْكَ جمالها؟ فقال الزميل: سيدة؟ أي سيدة؟ فردّ المازني: أي سيدة؟ هذه يا أعمى.
يظل أعجب ما في رحلة المازني إلى الحجاز، هو عدم تيقنه من وضع المرأة هناك، ففي البداية يجزم بأنه لم يرَ "في الحجاز امرأةً ولا بائعاً متجولاً ولا شيخاً همّاً يقوم على الراحتين، ولا جنازة ميت. فأما المرأة فلم أستغرب الحجابَ المضروب عليها، فنحن في مصر لا يزال مِنَّا من يحجب المرأة ويوصد عليها الأبواب"
انفجر الزميل مُقهقهاً، والمازني ينظر إليه كالأبله -بحسب وصفه- أو كما يقول: "لما رأيت أن ليس لهذا الضحك آخر، مضيت عنه إلى غرفتي، فلحق بي فيها وهو يقول: سيدة إيه يا مولانا، هذا رجل، فعاد إلى القهقهة، وقعدت قلت له: لقد كلمتُها ووجهت إليها الخطاب بضمير المؤنث فلم تعترض، فكيف تزعمها رجلًا؟ فقال: المسألة بسيطة. لم يفهم كلامك لأنه بدوي قح، وأراهن أنك لم تفهم منه كلمةً".
بعدها اختلى المازني بنفسه، وكتب يعبّر عن صدمته: "ظاهرة عجيبة جداً هذه، النجدي المشهور بوعورة الخُلُق في القتال، يكون في السّلم كما رأيتُه في الحجاز، على حظ عظيم من رقة الحاشية والدماثة واللين والطراوة".
برغم ذلك، ظلّ المازني على رأيه بأن في الحجاز نساءً غير مخفيات عن الأنظار، فيقول: "وقد اقتنعت -وأنا لا أزال في الباخرة قبل أن أصل إلى جدّة أو أضع رجلي على رصيف مينائها- بأن المرأة النجدية تعرف السفور ولا تعرف الحجاب، وكان اقتناعي بالمشاهدة والمعاينة، وليس بالسّماع، ورأيت من الحزم أن أكتم عن زملائي ورفقائي في هذه الرحلة هذا السرّ الذي اهتديت إليه لأنفرد بالعلم به وأستأثر بفضل اكتشافه والوصول إليه".
لم يكتفِ المازني بذلك، بل دللّ على وجهة نظره بأمر غريب: "كنت أسمع زملائي يتحدثون عن المرأة والحجاب المضروب عليها، ويردِّدون ما سمعوا من أنها لا تخرج ولا تظهر ولا يراها غير زوجها وذوي قرابتها الأدنين، فأبتسم ساخراً وأهز رأسي هازئاً متهكماً وأردُّ نفسي بجهدٍ عن أن أصيح بهم: يا عميان! إن نصف من ترون في الطرقات نساء تحسبونهنّ رجالاً"!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.