تعرضت الدولة في مختلف العصور الإسلامية لهزّات اقتصادية عنيفة، فتراجعت قيمة الدينار والدرهم، وارتفعت الأسعار، وشحّت السلع، وعمّت الاضطرابات السياسية والاجتماعية، ما استلزم إجراء إصلاحات نقدية طالت الكثير من النواحي، ومنها سعر صرف العملة الرسمية.
يذكر الدكتور عاطف منصور، في كتابه "النقود الإسلامية وأهميتها في دراسة التاريخ والآثار والحضارة الإسلامية"، أن حكّام المسلمين اهتموا بالنقود، فقاموا بالعديد من الإصلاحات ووضعوا نُظماً نقديةً جديدةً.
وارتبطت هذه الإصلاحات بالظروف الاقتصادية المعاصرة، إذ كان التدهور الذي يصيب النظام النقدي سبباً قوياً في دفع الحكّام لمحاولة ضبط هذا النظام وإيقاف تدهوره، فوضعوا نُظماً اقتصاديةً ونقديةً جديدةً حققت نجاحاً ولاقت نقودها رواجاً تجارياً كبيراً، وفي أحيان أخرى لم تتوافق تلك النظم مع رغبات المتعاملين بالنقود، مما أدى إلى فشلها وإلغاء العمل بها.
عمر بن الخطاب وأول محاولة للإصلاح النقدي
بحسب منصور، كانت أولى محاولات الإصلاح النقدي في العصر الإسلامي في عهد ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب، عندما رأى فساد الدراهم الساسانية المتداولة بعد أن كثر الغش فيها، لذا حاول التغلب على هذه الأزمة بوضع نظام نقدي غير مسبوق، فأصلح الدراهم من حيث الوزن والشكل.
تعرضت الدولة في مختلف العصور الإسلامية لهزّات اقتصادية عنيفة، فتراجعت قيمة الدينار والدرهم، وارتفعت الأسعار، وشحّت السلع، وعمّت الاضطرابات السياسية والاجتماعية، ما استلزم إجراء إصلاحات نقدية طالت الكثير من النواحي، ومنها سعر صرف العملة الرسمية
ويلاحظ منصور، أن عمر بن الخطاب أجرى هذا الإصلاح النقدي لوزنِ الدّراهم بسبب الصعوبات التي كانت تواجه المسلمين في دفع الزكاة، لذلك سكّ الدراهم على وزن موحد لتيسير دفع الزكاة وتسهيل المعاملات التجارية.
واستتبع ذلك الإصلاح في الوزن إصلاحاً آخر في الشكل، حيث أضاف عمر بعض الكتابات العربية والإسلامية إلى هذه الدارهم، ويبدو أن ذلك كان تمييزاً لهذه الدراهم الجديدة عن الدراهم السابقة لها، حتى يسهل على جامعي الزكاة التحصيل بها، كما يذكر منصور.
ويروي منصور، أن عمر بن الخطاب كان يفكر في حلّ هذه الأزمة من خلال وضع نظام نقدي غير مسبوق، إذ قال: "هممت أن أجعل الدّراهم من جلود الإبل"، فقيل له: "إذاً لا بعير فأمسك". وقد أكد تقي الدين المقريزي في كتابه "شذور العقود في ذكر النقود"، ما رواه أبو بكر البلاذري في كتابه "فتوح البلدان"، فقال: "يُروى أن عمر بن الخطاب أراد أن يجعل الدّراهم من جلود الإبل، وصنع منها القليل".
وهذه الفكرة لو قُدّر لها أن تتحقق أو تتبلور بصورة أخرى، لكان العرب أسبق الأمم إلى اختراع النقود الورقية، ولكن اعترض البعض على الفكرة لأنها ستؤدي إلى القضاء على ثروة أخرى مهمة للعرب هي الإبل، الأمر الذي أدى إلى تخلّي عمر عن هذه الفكرة، بحسب منصور.
إصدار نقود إسلامية خالصة
ومن الإصلاحات النقدية المهمة في تاريخ النقود الإسلامية، ما قام به الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (65-86هـ)، وهو إصلاح شامل للنقود من حيث الشكل والمضمون والوزن، حيث نجح في إصدار نقود إسلامية خالصة، ووضع أول نظام اقتصادي إسلامي مستقل، بعدما خلّص النقود الإسلامية من التأثيرات البيزنطية والساسانية، كما يذكر منصور.
وفي عصر الدولة العباسية، أصلح أمير الموصل ناصر الدولة الحمداني (317-356هـ)، عيار الدنانير والدراهم في دار سكّ العملة الرئيسية للخلافة، وذلك بسبب تطرق الفساد والغش إلى عيار النقود في ذلك الوقت.
ولاقت النقود التي سكّها ناصر الدولة رواجاً كبيراً، وبيع الدينار الجديد بثلاثة عشر درهماً بعد أن كان بعشرة. وبحسب منصور، حاول الصيارفة التلاعب بأسعار الصرف آنذاك، واستغلال حركة الإصلاح النقدي لمصالحهم الشخصية، فاستدعاهم ناصر الدولة وحذّرهم.
اضطراب سعر صرف الدينار المملوكي
وفي عصر دولة المماليك الجراكسة (تأسست عام 784 هـ)/1382 م)، شهد النظام النقدي اضطراباً كبيراً، أدى إلى تدهور الدينار المملوكي، فاضطربت أسعار صرفه. وينقل منصور عن أبي العباس القلقشندي في كتابه "صبح الأعشى في كتابة الإنشا"، "أن صرف الذهب بالديار المصرية لا يثتب على حال، بل يعلو تارةً، ويهبط أخرى، بحسب ما تقتضيه الحال".
وأدى هذا التدهور في النظام النقدي إلى غزو الدوكات البندقية للأسواق المصرية، بحيث أصبحت هي النقود الرئيسية والمعترف بها في مصر، وتراجع أمامها الدينار المملوكي، مما دفع بعض سلاطين المماليك إلى بعض الإصلاحات النقدية لوقف هجوم هذه الدوكات، وتدعيم الدينار المملوكي في مواجهتها.
في عصر دولة المماليك الجراكسة، شهد النظام النقدي اضطراباً كبيراً، أدى إلى تدهور الدينار المملوكي، فاضطربت أسعار صرفه.
وبحسب منصور، كانت المحاولة الأولى لإصلاح النظام النقدي المملوكي في عهد السلطان الناصر فرج بن برقوق (801-815هـ)، حين أمر وزيره يلبغا السالمي سنة 803هـ، بضرب دنانير جديدة على فئات مختلفة، هي المثقال، والمثقال ونصف المثقال، وربما نصف المثقال، وربع المثقال، وعُرفت هذه الدنانير بـ"السالمية"، وبلغ سعر الدينار منها أربعةً وعشرين درهماً.
غير أن هذه المحاولة باءت بالفشل لعدم توافر كميات الذهب اللازمة لاستمرار إصدار الدنانير السالمية، بالإضافة إلى تذبذب وزن الدينار، وتراجع سعر صرفه أمام الدوكات.
وتسبب فشل الدينار السالمي في دفع الناصر فرج إلى محاولة إصلاحية أخرى، فقام في سنة 810 هـ، بضرب دنانير جديدة على وزن الدوكة عُرفت بـ"الدنانير الناصرية"، واستمرت في أسواق التداول بعد وفاة الناصر فرج وحتى سنة 818 هـ، حين أمر السلطان المؤيد شيخ، بمنع التعامل بها، وهدد كلّ من يتعامل بها بأن تُسبك في يده.
وكانت المحاولة الناجحة لوقف هجوم الدوكات على الأسواق المصرية في عهد السلطان الأشرف برسباي (825-841 هـ)، حين أمر في سنة 829 هـ، بسحب الدوكات البندقية من الأسواق، وإعادتها إلى دار السكّ لإعادة سكّها مرةً أخرى كدنانير إسلامية جديدة على وزن الدوكة نفسه، وعُرفت هذه الدنانير بـ"الأشرافية".
وبحسب منصور، راج الدينار الأشرافي أو الأشرفي رواجاً كبيراً، وساد في أسواق التداول المملوكية حتى نهاية العصر المملوكي الجركسي، بل استمر تداوله في بداية العصر العثماني أيضاً.
مُحددات سعر صرف الدينار والدرهم
وخلال العصور الإسلامية المختلفة خضع سعر صرف الدينار لعدد من الضوابط. يذكر فهد مطر المطيري، في دراسته "التاريخ الاقتصادي للدولة العباسية في العصر العباسي الثاني 247-334هـ"، أن سعر صرف الدراهم بالدنانير استند إلى تحديد نسبة ثابتة في الوزن والعيار بين وحدة الذهب ووحدة الفضة، حتى يمكن قياس أحدهما على الآخر، ومعرفة قيمة استبدالها، بحيث تطلق الدولة للناس الحقَّ في بيع وشراء الذهب والفضة، وتوفر لهم إمكانية التحويل بين العملات الأخرى إلى الذهب والفضة، لتسهيل عمليات التجارة الخارجية.
كانت أولى محاولات الإصلاح النقدي في العصر الإسلامي في عهد ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب، عندما رأى فساد الدراهم الساسانية المتداولة بعد أن كثر الغشّ فيها.
فالمعاملات التجارية كانت تعتمد في تقدير قيم الأشياء على الدينار والدرهم المضروبين من معدن الذهب والفضة، وأدى هذا الازدواج في التعامل في نقدين متفاوتي القيمة إلى إرساء تقاليد المفاضلة بينهما، سواءً في ما يتعلق بتقدير قيمة الأشياء أو الوزن.
وبحسب المطيري، فإن النسبة الأساسية بين وزن الدرهم والدينار هي أن الدرهم يمثل (7/10)، أي أن الدرهم سبعة أعشار الدينار، وبمعنى آخر فإن كل عشرة دراهم تساوي سبعة دنانير.
أما في ما يتعلق بسعر صرف الفلوس بالدنانير، فقد جعلت الدولة نسبةً محددةً للتعامل بين الفلس والدرهم، كما هو الحال بين الدرهم والدينار، وحددت النسبة بين الفلس والدرهم وهي (1/48)، أي أن كل 48 فلساً تساوي درهماً واحداً.
ويذكر المطيري، أن هذا النظام أثبت قدرته على المحافظة على استقرار أسعار الصرف لعملة الدولة في التعامل الداخلي والخارجي على السواء مقارنةً بالعملات الأخرى، فأسعار صرف العملة فيها ثابتة من ناحية النسبة الوزنية، لارتباط كلّ عملة بوزن محدد من الذهب أو الفضة، وأثّر ذلك على ازدهار التجارة ورواجها، فانخفضت نسبة الاضطرابات الاقتصادية.
تغيّر قيمة الدرهم والدينار
وبحسب المطيري، تغيرت قيمة الدرهم إلى الدينار تبعاً للبيئات والعصور، واعتمدت على توافر مادتَي الذهب والفضة أو قلّتهما، وعلى العرض والطلب، وهو ما حصل فعلاً، فبعد أن كان الدينار يساوي 10 دراهم في العهد الأول من العصر الأموي، صار في النصف الثاني من العصر نفسه يساوي 12 درهماً، وفي العصر العباسي صار يساوي 15 درهماً أو أكثر.
وفي العصر العباسي الثاني لم يكن سعر صرف الدراهم بالدنانير ثابتاً، بل كان في هبوط وصعود طوال الوقت، ولم يكن لذلك التغيير اتجاه معين، ولكنه يشير إلى زيادة سعر الدينار زيادةً واضحةً في السنين الأخيرة، وهناك عوامل متعددة أثّرت على أسعار الصرف، منها مقدار المعادن الرخيصة في النقود وأسعار الفضة والذهب في السوق.
وبرغم أن الأقطار الممتدة من مصر في الغرب إلى ما وراء النهر في الشرق خضعت لسلطة سياسية واحدة في العصر العباسي، إلا أنها لم تصبح يوماً ما منطقةً نقديةً موحدةً، فبينما كان نظام النقد مزدوجاً في أذربيجان وطبرستان والديلم وغيرها، كان فرديَّ القاعدة في كِرمان وبُخارى وغيرها من المناطق، فقد كانت مصر تقع ضمن منطقة الذهب وتستعمل الفضة للحليّ والأثاث، بينما كان العراق مركزاً للتبادل بين منطقة الفضة في الشرق ومنطقة الذهب في الغرب، وأثّر ذلك على أسعار الصرف فيه.
لذا، لم تكن قيمة الدينار العراقي مساويةً دائماً لقيمة الدينار المصري، كما كانت نسبة الدراهم للدينار تختلف أحياناً في العراق عنها في المناطق الشرقية، فمثلاً كان الدينار سنة 321هـ، يساوي أربعة عشر درهماً في العراق، بينما كان يساوي خمسة عشر درهماً في الريّ.
انتشار النقود الإسلامية في أوروبا
وكان للدينار العربي، خاصةً في أوقات قوته وازدهاره، أثر كبير على اقتصاد أوروبا، ولعب دوراً رئيساً في المبادلات التجارية الدولية بينها وبين دولة الخلافة الإسلامية، حيث قلّده الأوروبيون في عملاتهم كالفلورين والدوقة الإيطاليتين، كما قلّد الصليبيون في المشرق الدنانير الفاطمية، ومن ثم انتشرت النقود العربية خارج نطاق العالم الإسلامي، فأصبحت منافسةً قويةً للعملة البيزنطية في جنوب روسيا وغرب أوروبا، كما يذكر أمين توفيق الطيبي، في دراسته "النقود العربية: انتشارها وأثرها في أوروبا في القرون الوسطى".
من الإصلاحات النقدية المهمة في تاريخ النقود الإسلامية، ما قام به الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (65-86هـ)، وهو إصلاح شامل للنقود من حيث الشكل والمضمون والوزن، حيث نجح في إصدار نقود إسلامية خالصة، ووضع أول نظام اقتصادي إسلامي مستقل
وبينما افتقر الغرب إلى الذهب، توفرت مصادره في الدولة العربية، خاصةً ذهب السودان الغربي الذي كان عاملاً مهماً في الرخاء والازدهار اللّذين تمتعت بهما الدول في شمال إفريقيا، خاصةً في سجلماسة وفاس وتيهرت والقيروان ومراكش وتلمسان.
وبحسب الطيبي، احتكر الفاطميون في القرن العاشر الميلادي ذهبَ السودان بعد سيطرتهم على بلاد المغرب، وجمعوا ثروات طائلةً ساعدتهم في فتح مصر، وفي عهدهم انتشر استعمال ربع الدينار المعروف بـ"الرباعي" في صقلية، وانتقل منها إلى مدن جنوب إيطاليا، وعُرف باسم "tari doro"، وظل متداولاً هناك حتى بعد انتهاء سيادة العرب على الجزيرة.
كما كانت الدنانير المرابطية والموحدية هي العملة المتداولة في ممالك إسبانيا المسيحية، حتى بعد تقلّص نفوذ المسلمين وأراضيهم في الأندلس.
وفي شمال جزيرة إيبرية، ظهرت عملة تُعرف باسم "mancus"، ولعلها من العربية "منقوش"، وهي تسمية شاعت في بعض الممالك المسيحية في إسبانيا للدينار العربي، الذي أخذت هذه الممالك في محاكاته في فترة ملوك الطوائف، كما يذكر الطيبي.
أما الدينار أو المثقال المرابطي فكان واسع الانتشار وعليه إقبال كبير في ممالك إسبانيا المسيحية، وعُرف في القشتالية القديمة والبرتغالية باسم "meteal" أو "metical" أو "metical"، وكلها صيغ مشتقة من الكلمة العربية "مثقال".
فالمرابطون، وقد امتدت إمبراطوريتهم من نهر إبرو شمالاً إلى نهر السنغال جنوباً، وسيطروا على مواكن الذهب في غانا وعلى تجارة القوافل عبر الصحراء، ضربوا دنانير من الذهب الخالص، وكان عليها إقبال كبير في داخل إمبراطوريتهم وخارجها، وقد قلدها ألفونسو الثامن، ملك قشتالة وليون، فضرب دنانير على غرارها سنة 1173م، عُرفت باسمه، كما يروي الطيبي.
ومِثل الدينار، كان للدرهم العربي تأثير اقتصادي كبير على بيزنطة والغرب، فالعملة البيزنطية المعروفة باسم "miliaresia" التي بُدئ بسكّها في أوائل القرن الثامن الميلادي كانت بوحي من الدرهم الأموي، بل إن كثيراً من الدراهم البيزنطية في القرنين الثامن والتاسع الميلاديَين ضُربت على تلك الدراهم العربية ذاتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.