شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
زوّار مكثوا في مكة والمدينة فتعدّدت مصائرهم…

زوّار مكثوا في مكة والمدينة فتعدّدت مصائرهم… "المجاورون"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ نحن والحقيقة

الاثنين 10 يوليو 202303:30 م

على مر العصور التاريخية، شكلت فئة المجاورين جزءاً لا يتجزأ من المجتمع المكي، برغم اختلاف روافد أفرادها وتنوع أهدافهم، فقد جاءوا من بلدانهم وأطالوا البقاء سنوات بجوار الكعبة للتعبّد وطلب العلم، فيما قرر آخرون الاستيطان الدائم حتى الوفاة، وفي كلتا الحالتين اختلطوا بأهل مكة وتركوا بصماتهم في المجتمع.

و"المجاورة" في مكة ظاهرة دينية واجتماعية، اقتضتها قدسية المكان، وأملتها رغبة بعض المسلمين من مختلف الفئات في قضاء فترة صفاء روحي بجوار الكعبة، وهي فترة تمتد وتقصر حسب رغبة المجاور ودوافعه وأهدافه والظروف المحيطة به، وكثيرون منهم فضّلوا البقاء في مكة حتى يدركهم الموت، حسب ما ذكر الدكتور عبد العزيز بن راشد السنيدي، في دراسته "المجاورون في مكة وأثرهم في الحياة العلمية خلال الفترة من 570-660هـ/1174-1261م)".

المجاورة والمعطيات السياسية

برغم الدوافع الدينية التي وقفت وراء ترك عدد من المسلمين بلدانهم ومجاورة الكعبة، إلا أن ذلك لم يمنع من وجود معطيات سياسية ساهمت في بروز هذه الظاهرة في بعض الفترات، منها أفول الدولة الفاطمية وزوالها من الخريطة السياسية الإسلامية سنة 567هـ، ما أفسح المجال للدولة العباسية ومنحها فرصةً لاستعادة شيء من سلطتها وسيادتها -الروحية خاصةً- على عدد من الأمصار.

شكلت فئة المجاورين جزءاً لا يتجزأ من المجتمع المكي، برغم اختلاف روافد أفرادها وتنوع أهدافهم، فقد جاءوا من بلدانهم وأطالوا البقاء سنواتٍ بجوار الكعبة للتعبّد وطلب العلم

وبحسب السنيدي، تمكّن العباسيون من فرض سيطرتهم المباشرة والمطلقة على بلاد الحجاز دون مضايقة أي سلطة أو منافستها، لا سيما في ظلّ احترام صلاح الدين الأيوبي بعد قيام الدولة الأيوبية في مصر والشام سنة 570هـ لسيادة هؤلاء الخلفاء على المقدسات الإسلامية في الحجاز، وعدم المساس بها.

وخلقت هذه التغيّرات السياسية أجواءً مناسبةً لمجاورة كثير من أبناء العراق في مكة آنذاك، سيما وقد تحققت لهؤلاء السبل المساعدة على ذلك، مثل توفر الإمكانات المادية المعينة على تحمل السفر والإقامة، واستتباب الأمن على الطرق التي تصل العراق ببلاد الحجاز، مع تزويدها من قبل بعض الخلفاء ومحبّي الخير بالخدمات الضرورية للمسافرين.

ومن المعطيات السياسية أيضاً التي ساهمت في تزايد أعداد المجاورين، ما تعرضت له بلدان المشرق الإسلامي من هجوم مغولي شرس بقيادة جنكيز خان في سنة 616هـ، وما بعدها، حيث دفع ذلك عدداً كبيراً ممن فروا من بلادهم صوب مكة والاستقرار فيها بعد أن تعذر عليهم الرجوع مرةً أخرى للمشرق، كما ذكر السنيدي.

ومثّلت مضايقات النصارى للمسلمين في الأندلس، وتتابع سقوط المدن المشهورة، مثل قرطبة وبلنسية وأشبيلية، إبان النصف الأول من القرن السابع الهجري في أيديهم، دافعاً لكثير من العلماء والطلاب لمغادرة هذا الإقليم بلا رجعة، ومن هؤلاء من ظل في مكة مجاوراً فيها حتى وفاته.

وكانت المضايقات المذهبية التي يتعرض لها أحياناً بعض العلماء في بلادهم مدعاةً لفرار بعضهم واللجوء إلى مكة، حيث الراحة والطمأنينة، ومثل هؤلاء غالباً ما بقوا فيها مجاورين حتى الوفاة.

القضاء على الدويلات المتصارعة

بجانب هذه المعطيات والدوافع، كان لجهود بعض الحكام دور في تشجيع العلماء، ومن ثم الاتجاه إلى مكة للاستزادة العلمية، ومن هؤلاء صلاح الدين الأيوبي، الذي كثرت في عهده رحلات الطلاب والعلماء من مصر والشام إلى مكة والمجاورة بها، سيما قد توفر الأمن اللازم على الطرق المؤدية لبلاد الحجاز، بحسب السنيدي.

والوضع عينه ينطبق على بلاد اليمن، حيث نجحت القوات الأيوبية التي بعثها صلاح الدين إليها بقيادة أخيه توران شاه سنة 569هـ في توحيد المنطقة سياسياً، بعد القضاء على كثير من الدويلات المتصارعة عسكرياً وسياسياً ومذهبياً في هذا الإقليم، ما ساهم في تشجيع العلم والعلماء، ومن ثمّ سافر كثير من اليمنيين إلى مكة للاستزادة من العلم والمجاورة فيها. وبحسب السنيدي، سار على النهج نفسه سلاطين بني رسول الذين خلفوا الأيوبيين سنة 626هـ على حكم بلاد اليمن.

مدارس وأربطة وأوقاف

يذكر السنيدي أن الانفتاح على إقامة المدارس النظامية، والتي عُنيت ببعض العلوم والتخصصات في مكة، كان له أثر قوي في تشجيع واستقطاب كثير من العلماء وطلاب العلم الذين قدموا إلى مكة وجاوروا فيها، خصوصاً أن واقفي هذه المدارس وفّروا للمدرّسين والطلاب من الأوقاف والمخصصات والخدمات ما يساعد هؤلاء ويحثهم على التفرغ للعلم وطلبه.

كما تنافس الأغنياء بعد استقرار الأوضاع في مكة على إقامة عدد من الأربطة فيها، فخلال الفترة الممتدة من 570- 660هـ، تأسس أكثر من اثنين وعشرين رباطاً في أنحاء مختلفة من أزقة مكة وأحيائها، وكانت هذه الأربطة، بما خُصص لها من مساكن، وما عُيّن لها من مصروفات كثيرة، خير مشجع لمكوث بعض العلماء والطلاب وبقائهم في مكة، خصوصاً ذوي الدخل المادي المتواضع.

ولا يمكن تجاهل الدوافع الشخصية في السفر إلى مكة والمجاورة فيها، وبحسب السنيدي، كان للوظائف الدينية والعلمية في المسجد الحرام وغيره، والتي لا يتولاها في الغالب سوى حملة العلم، أثر في مجيء بعض العلماء إلى مكة واستقرارهم فيها، سيما في ظل عدم وجود المؤهل من أبناء مكة لشغل الكثير منها.

كما كان طلب الرزق، أو الرغبة في ممارسة التجارة، والتي عُرفت بها مكة، وكانت مزدهرةً آنذاك، عاملاً مغرياً لجذب عدد من المهتمين بالعلم، فجمع هؤلاء بين طلب الرزق وتحصيل العلم ونشره.

وظائف دينية

ويذكر طرفة عبد العزيز العبيكان، في كتابه "الحياة العلمية والاجتماعية في مكة في القرنين السابع والثامن للهجرة"، أن بعض العلماء المجاورين مارسوا عدداً من الأعمال، وتولوا الكثير من الوظائف الدينية، مثل الإمامة والقضاء في مكة المكرمة، وكان أبرزهم في هذا طاهر بن بشير الإربلي، الذي كان من طلاب المدرسة النظامية في بغداد، ثم هاجر إلى مكة وجاور فيها مدة ست عشرة سنةً، وتولّى الإمامة والقضاء في الحرم المكي في منتصف القرن السابع الهجري.

ومن المجاورين، عدد كبير من أهل العلم الذين تولوا التدريس، مثل الخضر بن عبد الواحد بن الخضر المعروف بـ"ابن السابق الشافعي"، المتوفى سنة 631هـ، والذي استوطن مكة وجاور فيها حتى توفي، وكان قاضياً فيها ومدرّساً في الكعبة ومفتياً.

معظم المجاورين الذين وفدوا على المدينة كانوا على مذهب أهل السنّة، وبعضهم تتلمذوا على يد علماء من المذهب نفسه، لكن في بعض الأحيان اختلف مذهب التلميذ عن مذهب الشيخ.

وهناك جعفر بن عبد الرحمن بن جعفر الصقلي، البجائي المولد، والمتوفى سنة 644هـ، وكان ممن حدّث بالمدرسة المنصورية في مكة، وكذلك إبراهيم مسعود بن إبراهيم الأربلي (662-745هـ)، المولود في القاهرة، وكان شيخ القرّاء في زمانه وتصدّر للإقراء في الحرم الشريف.

أما إبراهيم بن محمد بن اللخمي المصري، المعروف بالأميوطي الشافعي (715- 790هـ)، فتولى تدريس الحديث، وانتفع به الناس في الحرمين، فيما اهتم محمد بن علي بن خليل الشمس القاهري بالقراءات السبع، وتوفي في مكة سنة 827هـ.

وبحسب العبيكان، كان من بين المجاورين في مكة زُهّاد آثروا حياة الزهد والاعتكاف في المسجد الحرام، وكانت إقامة هؤلاء في الغالب في أربطة مخصصة لهم، وقد تقدّم بعضهم في درجات الزهد حتى أُسندت إليهم مشيخة الأربطة، ومنهم خضر بن محمد بن علي الإربلي المتوفى سنة 608هـ، والذي هاجر من إربل (إربيل) في العراق، وجاور في مكة وصار شيخاً للزهاد فيها، ومتقدماً عليهم.

دعم مكتبات مكة

ويذكر الدكتور منصور سعيد محمد في دراسته "دور المجاروين في بنية مكتبات مكة المكرمة خلال العصر الأيوبي"، أن المجاورين كان لهم دور في بنية مكتبات مكة خلال العصر الأيوبي، عن طريق ممارسة عدد كبير منهم لمهنة "الوراقة"، حتى صار بعضهم يُكنّى بها.

وهؤلاء اعتنوا بنسخ الكتب وتوريقها، فأسهموا في زيادة تداولها في الأوساط العلمية المكية، سواءً أكان ذلك عن طريق التوريق بالأجرة أم الرغبة في الحصول عليها لأنفسهم، ومن هؤلاء على سبيل المثال أسد بن المحسن بن أبان الجهياني، المعروف بـ"المؤيد"، وجعفر بن محمد بن آموسان الأصبهاني الملنجي، وعبد العزيز بن محمود بن عبد الرحمن المعروف بالعصار، وأحمد بن يوسف أيوب بن شاذي الأيوبي.

كما أسس عدد من المجاورين مكتبات خاصةً بهم، عن طريق التوريق والنسخ لأنفسهم، أو شراء الكتب من الأسواق الخاصة، وكان أبرزهم في ذلك محمد بن عبد الله بن محمد المرسي السلمي الذي تحصل على كثير من الكتب العلمية، بل كانت له في كل منطقة يتجه إليها مكتبة شخصية متكاملة، ما يعني أن هذا المجاور لم يكن بحاجة إلى اصطحاب كتبه عندما ينتقل من مكان إلى آخر، روى محمد.

مجاورون في المدينة المنورة

واستقرّ المجاورون أيضاً في المدينة المنورة، وكان منهم علماء وطلاب علم، وأصحاب حرف، وأرباب وظائف، كالقضاة المعيّنين من السلطة المركزية. ويذكر عبد الرحمن ميدرس في كتابه "المدينة المنورة في العصر المملوكي 648-923هـ/1250-1517م"، أن بعض هؤلاء جاءوا جماعات، مثل أسرة "القيشاني"، وهم رؤساء مذهب الشيعة الاثني عشرية.

وينقل ميدرس، عن كتاب "الديباج المذهّب في معرفة أعيان علماء المذهب" للمؤرخ إبراهيم بن علي بن فرحون، أن المدينة لم يكن فيها من يعرف هذا المذهب حتى جاء القيشانيون من العراق، واستطاعوا بما معهم من مال عظيم تأليف قلوب الناس لمذهبهم، حتى كثر المشتغلون به. غير أن ابن فرحون لم يحدد الفترة التي جاءت فيها هذه الأسرة إلى المدينة.

وقدِمت أيضاً جماعة السلاميين من قرية السلامية بنواحي الموصل في العراق، في زمن غير معروف، ويُعتقد أن عددهم كان كبيراً في المدينة، غير أن أوضاعهم الاقتصادية لم تكن جيدةً.

ومن العناصر المهمة التي وفدت إلى المدينة خُدّام الحرم النبوي، وهم الذين يشرفون على خدمة الحجرة الشريفة في المسجد، وهم من أجناس مختلفة، وكان لهم شيخ يأتمرون بأمره.

وبحسب ميدرس، وفد أيضاً بعض أصحاب الحرف والمهن المختلفة، ممن يمتهنون الزراعة، وعُرفوا بـ"النخاولة".

تغيير مذهب المجاورين

ويذكر ميدرس، أن معظم المجاورين الذين وفدوا على المدينة كانوا على مذهب أهل السنّة، وبعضهم تتلمذوا على يد علماء من المذهب نفسه، لكن في بعض الأحيان اختلف مذهب التلميذ عن مذهب الشيخ، وهذا أدى ببعض الدارسين إلى التحول من مذهب إلى آخر، خاصةً المذهب الجعفري أو الإمامي الاثني عشري، والذي انتشر في العهدين الفاطمي والأيوبي بين الأشراف والعامة.

واختلفت دوافع تحوّل الطلاب إلى مذهب آخر، ما بين تأثير الشيوخ عليهم، أو لأسباب نفعية أخرى، أو لأسباب سياسية أو علمية أو وظيفية، كرغبة بعضهم في التدريس في الحرم النبوي، أو في إحدى المدارس أو الأربطة الموقوفة على بعض المذاهب، أو لتولي بعض الوظائف الدينية كالقضاء أو الخطابة أو الإمامة.

تزوج بعض المجاورين من نساء العوائل المكية، فنشأت من ذلك أسر كبيرة أصبحت جزءاً من المجتمع المكي، واشتهرت في مجالَي القضاء والتعليم، مثل زواج المجاور الفقيه أبي العباس الفاسي، مدرّس المذهب المالكي، من بنت الشيخ الصالح شهاب الدين الزرندي

وابتداءً من القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي، أخذ المذهب الاثني عشري بالانحسار التدريجي، مع بقاء أتباعه ومعتنقيه دون نفوذ يُذكر، وذلك بسبب الإرادة السياسية لدولة المماليك التي عملت على تعزيز مكانة أهل السنّة في المدينة، من خلال إرسال القضاة والخطباء والأئمة، وكذلك المجاورين الذين لعبوا دوراً في التصدي لمذهب الإمامية ومحاولة إضعافه، ومن هؤلاء الصاحب زين الدين أحمد بن محمد بن علي، المعروف بابن حنا المصري، والذي تصدى لفقهاء الشيعة وقضاتهم.

مصاهرات وألقاب

وخلال مدة الإقامة الطويلة للمجاورين، نشأت علاقات اجتماعية بينهم وبين سكان الحرم المكي، كما فعل الشيخ المجاور أبو عبد الله محمد بن الغرناطي، الذي كان يخدم الشيخ عبد الحميد العجمي، أحد أثرياء مكة، وكان الأخير عند سفره يأتمن الغرناطي على بيته وأهله، حسب ما روت وجدان فريق عناد في دراستها "الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمجاورين المغاربة والأندلسيين من رحلة ابن بطوطة".

كما تزوج بعض المجاورين من نساء العوائل المكية، فنشأت من ذلك أسر كبيرة أصبحت جزءاً من المجتمع المكي، واشتهرت في مجالَي القضاء والتعليم، مثل زواج المجاور الفقيه أبي العباس الفاسي، مدرّس المذهب المالكي، من بنت الشيخ الصالح شهاب الدين الزّرَندي المنتمي إلى أسرة الزَّرندي، وزَرَند مدينة بالقرب من مدينة كِرمان الإيرانية.  

وبحسب عناد، لُقّب المجاورون بألقاب عدة، منها "قديم المجاورة" الذي نودي به الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد الغرناطي، في إشارة إلى طول مدة مجاورته في مكة، و"المجاور" الذي لُقّب به الشيخ حسن المغربي المجنون، و"الفقيه الزاهد" للشيخ أبي الحسن علي بن رزق الله من طنجة، و"الصالح السابح السالك"، الذي وُصف به أبو الحسن علي بن فرغوس التلمساني، و"الصالح المبارك" للشيخ العباس الغماري.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image