لم يلق قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان ترحيباً لدى الطرفين، فوصفه قادة إسرائيل بـ"العمى الأخلاقي"، ووصفته حركة حماس بأنه "يساوي بين الضحية والجلاد". بالإضافة إلى الكثير من الاعتراضات الدّولية، والاحتفاءات أيضاً.
وكان المدعي العام للمحكمة قد قرر في البيان الصادر يوم 20 أيار/ مايو استصدار مذكرات اعتقال بحق كل من: نتيناهو، وغالانت، بتهم التسبب في الإبادة، والتسبب في المجاعة كوسيلة من وسائل الحرب، بما في ذلك منع المساعدات الإنسانية، واستهداف المدنيين عمداً.
ومذكرات اعتقال بحق كل السنوار، ومحمد ضيف، واسماعيل هنية بتهم الإبادة، والقتل، واحتجاز رهائن، والاغتصاب، والاعتداء الجنسي أثناء الاحتجاز.
هذا القرار يزيد من الحصار القانوني الدولي الذي باتت تعانيه دولة الاحتلال في العالم، إذ تخضع إسرائيل اليوم للمحاكمة على مستويين، على مستوى الدولة نفسها في محكمة العدل العليا في لاهاي، واختصاصها الواجب والمسؤولية الدولية للدول، وأيضاً على مستوى القادة في المحكمة الجنائية الدولية التي تحاكم الأفراد على أساس مسؤوليتهم الجنائية الفردية في ما يخص الجرائم الخاضعة للقانون الدولي. وبالإضافة إلى المحكمتين يمكن إضافة قرارات مجلس الأمن كونها ملزمة للدول الأعضاء بحكم القانون الدولي والمواثيق التي وقعت عليها كل الدول الأعضاء.
فما هي السيناريوهات المحتملة اليوم إسرائيلياً مع هذه "المحاصرة" القانونية إن صح التعبير؟
بداية لا بد من فهم أمرين أساسيين لإدارك حجم المأزق والمخارج الممكنة، أولاً أن قرار الجنائية الدولية وبرغم أنه أثار ضجة عالمية، لكنه ليس نهائياً بعد، إذ لا بد أن تنظر لجنة من قضاة المحكمة في طلب المدعي العام وتوافق عليه ليدخل في حيز التنفيذ. وثانياً أن القرار غير ملزم للدول غير الأعضاء في المحكمة، فهو ليس قراراً دولياً بالمعنى المطلق.
حقيقة إلزامية القرار
الدول التي يعيش على أراضيها المطلوبون اليوم هي إسرائيل (غالانت ونتنياهو)، وقطر (إسماعيل هنية)، وغزة التابعة بحكم القانون الدولي للسلطة الفلسطينية (السنوار ومحمد ضيف).
قرار الجنائية الدولية ليس نهائياً بعد، وبالتالي فهو غير ملزم حتى هذه اللحظة، إذ لا بد أن تنظر لجنة من قضاة المحكمة في طلب المدعي العام وتوافق عليه ليدخل في حيز التنفيذ
يوضح أستاذ القانون الدولي أيمن هلسا لرصيف22 مدى إلزامية القرار على قادة إسرائيل المطلوبين دولياً، وحول نطاق تنفيذه في حال اتخذ الصفة النهائية، يقول: "قطر وإسرائيل ليسوا أعضاء وليس عليهم أي التزام، وهذه مشكلة كبرى جزئية تسليم غالانت ونتنياهو، لكن السلطة الفلسطينية عليها التزام بالتسليم لأنها طرف بالمحكمة الجنائية الدولية، وهذا الامر كان متوقعاً منذ البداية".
ويردف: "قرارات المحكمة ملزمة فقط للدول الأعضاء، لكن إذا سافر نتنياهو إلى دولة موقعة على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية فسيقع على عاتق هذه الدولة تسليمه، وإن كانت التجارب السابقة قد أثبتت أن التزام الدول بهذا الموضوع ليس جدياً".
فعلى الرغم من أن كثيراً من القادة حوكموا في قاعات الجنائية الدولية، مثل رئيس جمهورية صرب البوسنة السابق رادوفان كاراديتش، وقائد سابق في جيش جمهورية صرب البوسنة راتكو ملاديتش، والرئيس اليوغوسلافي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش، ورئيس ليبيريا السابق تشارلز تايلور، إلا أن العديد ظهروا كأشخاص فوق القانون، ولعل المثال الأهم هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي صدرت بحقه مذكرة اعتقال في آذار/ مارس 2023 على خلفية ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا.
قرار الجنائية الدولية وحتى إن أخذ الصفة النهائية يظل غير ملزماً للدول غير الأعضاء في المحكمة، مثل قطر والولايات المتحدة وإسرائيل.
كذلك الحال مع القائد السابق لجيش الرب للمقاومة في أوغندا دومينيك أونجوين والذي لم يحاكم بالتهم التي وجهت إليه، وكذلك التهم التي وجهت ضد سيف الإسلام القذافي، ومعمر القذافي بموجب مذكرة صدرت في 2011، وتم إنهاء القضية المرفوعة ضد معمر القذافي في 22 نوفمبر 2011، بعد وفاته، ولا يزال سيف الإسلام مطلوباً.
وبحسب هلسا فالرسالة الكبرى من هذا البيان الصادر عن المحكمة هي أنها -أي المحكمة- تحضر نفسها لإصدار هذه المذكرة، بحسب الأدلة القوية التي وجدها صاحب الصلاحية وهو المدعي العام.
يقول: "لكن، باستثناء بعض الحالات التي تم التعاون بها بشكل فعال، هل يعقل أن معظم حالات التسليم السابقة للمحكمة كانت بحق أفارقة وعرب مثلاً".
هل يمكن التهرب من تسليم المطلوبين؟
وحول خيارات الدول الأعضاء في المحكمة في التهرب من تسليم المطلوبين يجيب هلسا: "إذا شعرت أي دولة أنها محرجة بإمكانها أن تنسحب من عضوية المحكمة، هناك مثال قد نتتبعه وهي حالة مطالبة الأردن بتسليم الرئيس السوداني عمر البشير، وهناك دول انسحبت لتعفي نفسها من المسؤولية مثل الفلبين".
فالأردن -وهو عضو في الجنائية الدولية- رفض سابقاً تنفيذ قرار للجنائية بإلقاء القبض على الرئيس السوداني عمر البشير في آذار/ مارس 2017، حيث أصدرت لجنة مؤلفة من خمسة قضاة بالمحكمة بياناً قالت فيه إنه كان يتعين على الأردن إلقاء القبض عليه عندما شارك في القمة العربية التي استضافها آنذاك، لكن عدم القيام بذلك لا يسوغ إحالة المملكة إلى مجلس الأمن لأن الأردن حاول التشاور مع المحكمة بشأن هذا الأمر قبل زيارة البشير.
إسرائيل لم توقع على اتفاقية إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي فهي غير ملزمة بالتعاون وتسليم نتنياهو وغالانت. وكذلك لا تعد حماس جهة دولية معترف بها مخولة للانضمام للمحكمة وبالتالي فهي غير ملزمة بتسليم محمد ضيف والسنوار، ويقع على عاتق السلطة الفلسطينية مهمة تسليمهم -نظرياً- إن تسنى ذلك.
في 2017 رفض الأردن تسليم الرئيس السوداني المعزول عمر البشير خلال مشاركته في القمة العربية، لكن تم إعفاء الأردن من المسؤولية القانونية لأنه حاول التشاور مع المحكمة سابقاً، وفي 2019 انسحبت الفلبين من الجنائية الدولية كي لا تضطر لتسليم المطلوبين بقتل الآلاف من المهربين وتجار المخدرات
أما قطر التي يعيش إسماعيل هنية على أراضيها فلم توقع بدورها، وهي أيضاً غير ملزمة بتسليم إسماعيل هنية.
وبخصوص ضم قادة حماس لقائمة المطلوبين يعلق الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني عبد المجيد سويلم لرصيف22 بالقول: "طبعا هذا مأزق، ولكنه شكلي لأن السلطة الفلسطينية لا تملك القدرة على تنفيذه بسبب عدم وجودها وولايتها العملية على قطاع غزة". وفي الوقت نفسه يصف القرار بأنه غير مسبوق، يقول: "القرار له قيمة كبيرة فهو فضيحة سياسية مدوية لكيان اعتقد أنه فوق القانون وبقي على قناعة بأنه محمي من الغرب، ولن يتجرأ أحد على محاسبته، وهو تاريخي من زاوية ما سيتبعه من قرارات لاحقاً، وأنه سيشجع العدل الدولية على اتخاذ قرارات أخرى".
ويضيف: "هذا القرار عرّى زيف ادعاءات إسرائيل حول ديمقراطيتها وأخلاقيات جيشها، وأكد مشروعية الموجات العالمية العارمة ضدها، والأهم أنه أسقط محاولات تصوير الانتفاض ضدها وكأنه معاداة للسامية، باختصار نحن أمام زلزال سياسي سنشهد ارتداداته الكبيرة على صعد مختلفة، وهو مدخل قانوني كبير للعقوبات والمقاطعة، هي مرحلة جديدة تتشابه إلى حد بعيد مع المرحلة التي دشنت التصدي لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا".
ردود فعل قانونية
لكن ما هي الخيارات أمام إسرائيل اليوم لتنقض القرار؟ في مقالة نشرها موقع "غلوبس" الإسرائيلي اليوم 21 أيار/ مايو 2024 يقول القانوني عيدو روزنتسويغ، المتخصص في القانون الدولي في جامعة حيفا: "إن فرص إصدار المحكمة الجنائية الدولية لمذكرات الاعتقال عالية، وذلك لأن سقف الأدلة المطلوبة في هذه المرحلة منخفض. يمكن لإسرائيل أن تطلب من المحكمة عدم إصدار المذكرات وأن تدعي أن ليس لدى المحكمة أية سلطة، وأن تعتمد على مبدأ التكامل (أي انتظار صدور قرار نهائي بشأن ارتكاب جرائم حرب). لكن في رأيي، من غير المعقول أن ينجح مثل هذا الإجراء".
فرص إصدار المحكمة لمذكرات الاعتقال عالية، وذلك لأن سقف الأدلة المطلوبة في هذه المرحلة منخفض.
القرار أثار كذلك بعض الجدل في صفوف القانونيين المنطوين تحت الجانب الفلسطيني في هذا الصراع القانوني، وتحديداً في إشارة بيان المدعي العام إلى أن الجرائم المُدعى بها ارتكبت في إطار نزاع مسلح دولي بين إسرائيل وفلسطين، ونزاع مسلح غير دولي بين إسرائيل وحماس بالتوازي، حيث رأى بعض القانونيين أن التوصيف السابق حرم الفلسطينيين من حقهم المشروع في مقاومة الاحتلال ورفع عنهم صفة "دولة تحت الاحتلال"".
هذه المقاربة بين طرفي النزاع والتي تتجاهل "فرق ميزان القوة العسكرية" هي ما أشارت إليه بعض الأصوات الفلسطينية منذ الأمس، ومنهم عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية واصل أبو يوسف الذي وصف القرار في لقاء سابق بأنه "خلط ما بين الضحية والجلاد، والشعب الفلسطيني من حقه الدفاع عن نفسه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...