شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
جنوب إفريقيا... نسيناها بعد

جنوب إفريقيا... نسيناها بعد "فشل الربيع" وتذكرناها مع غزة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتاريخ

الجمعة 19 يناير 202412:06 م

لقد نُسيت هذه الجدالات تقريباً الآن، لكن آنذاك، في الأيام الأولى الحالمة لثورات "الربيع العربي"، كانت كثيراً ما تُستدعى جنوب إفريقيا إلى النقاش، لاستعراض تجربتها حول "الحقيقة والمصالحة"، ودراسة إمكانية تطبيقها في الواقع العربي بعد "إسقاط النظام".

في حوار صحافي أجري معه خلال واحدة من اللحظات النادرة التي كان فيها خارج السجن، يقول الناشط المصري السجين والبارز علاء عبد الفتاح، إنه "ابن نضال جنوب إفريقيا"، بالمعنى الفكري بالطبع، لكن المفارقة تكتسب المزيد من المعنى، عند تذكر حقيقة أن "علاء" كان في دولة جنوب إفريقيا بالفعل حين اندلعت ثورة يناير المصرية، ما أدى به إلى قطع سفره – وهجرته المزمعة إلى هناك- والعودة إلى القاهرة، وما تبع ذلك من تاريخ معروف.

الإلهام الجنوبي والوفاء لمانديلا  

لم تكن الدولة التي تقبع في أقصى الطرف الجنوبي للقارة السمراء، في الناحية المقابلة تماماً لمصر وعلى نفس خطها الجغرافي، ملهمة فحسب بسبب نجاحها في التحول الديمقراطي، وقصة "مانديلا" الأشبه بأسطورة، وإنما لأنها كانت تجيب على أسئلة طرحتها الفظائع التي تراكمت طوال حكم أنظمة محلية لا يمكن طردها خارج البلاد كما صار مع الاستعمار في حقب زمنية سابقة، إنها شخصيات ورموز تتخطى هذا الرئيس أو تلك القيادة الحزبية، إلى الآلاف من الموظفين الرسميين و"المتعاونين" والمغلوب على أمرهم من "عبدة المأمور"، وما يتصل بهم من أسر وعائلات وعلاقات وفئات اجتماعية وكل ما يخص جزءاً أصيلاً من المجتمع. 

جاءت تجربة "لجان العفو من أجل الحقيقة" التي أسسها برلمان جنوب أفريقيا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، بطريقة تسمح للبلاد بمعرفة تاريخ توحشها وقصص ضحاياها، وتفتح سبيلاً لمن أخطأ بأن يكون جزءاً من المجتمع الجديد شريطة اعترافه بآثامه  

جاءت تجربة "لجان العفو من أجل الحقيقة" التي أسسها برلمان جنوب أفريقيا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، والتي اتبعتها عدد من البلدان الأخرى بنسب تفاوتت في النجاح والفشل، سبيلاً ممكناً أو حلاً ثالثاً بدلاً من الانتقام أو الاستسلام، بطريقة تسمح للبلاد بمعرفة تاريخ توحشها وقصص ضحاياها، وتفتح -في الآن نفسه- سبيلاً لمن أخطأ بأن يكون -شريطة اعترافه بآثامه- جزءاً من المجتمع الجديد، وثّقت اللجان انتهاكات حقوق الإنسان خلال فترة التفرقة العنصرية التي بدأت في 1948 وتخللها عدد من المذابح الوحشية من أبرزها مجزرة "شاربفيل" عام 1960، كما أنها سمحت بفضل ذلك للضحايا بمقاضاة عدد من الشركات العالمية متعددة الجنسيات، من أبرزها "فورد" و"جنرال موتورز" و"أي بي إم" بتهمة مشاركة هذه الشركات في انتهاكات حقوق الإنسان الجماعية خلال فترة التمييز العنصري. 

بعيداً عن المثالية 

لم تكن جنوب إفريقيا أفضل حالاً بكثير من الدول التي استلهمت تجربتها، فحقائق الاقتصاد والسياسة وتوزيع السلطة والثروة لم يسمحوا بالنجاح التام لكل تلك المساعي، ول ازال التقاضي جارياً في الولايات المتحدة ضد الشركات الأمريكية منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، لكن التجربة كانت بلا شك سبيلاً سمح للبلاد بأن تسير نحو مستقبلها، وقد رأينا، في المشهد المهيب في محكمة العدل الدولية، كيف أن الفريق القضائي الجنوب أفريقي كان متنوعاً ومتوائماً على اختلاف خلفياته وأعراقه وانتماءاته السياسية، كما لو كان تلخيصاً لعلم البلاد بألوانه الستة التي تشير إلى تنوع شعبها (وقد اختير هذا العلَم – بالطبع- بعد نهاية سياسة الفصل العنصري). 

أياً كان موقع جنوب أفريقيا أو حكومتها الحالية من "المثالية"، فإنها بلاد تمتلك "وزناً أخلاقياً" ورأس مال رمزي هائل في عيون العالم، وهذا هو الذي أوجع إسرائيل أكثر من أي شيء

بالطبع، ليس الحال في جنوب إفريقيا –ولا في أي مكان– مثالياً، وإن لم يكن هذا هو السبب –على الأغلب– في أن البعض استدعى وقائع مثل استقبالها للرئيس السوداني السابق عمر البشير، المطارد من المحكمة الجنائية الدولية، على سبيل "تحذيرنا" من الإعجاب بحكومة الرئيس رامافوزا، رئيس البلاد ورئيس المؤتمر الوطني الأفريقي والناشط السابق ضد الفصل العنصري والقيادي النقابي. وعلى الرغم من إمكانية النظر إلى تلك الوقائع في سياقات أكثر تعقيداً، لها علاقة بحساسية جنوب أفريقيا من "المجتمع الدولي/ الغربي"، إلا أن التحذير المفاجىء منها قد جاء على الطريقة التي تنزع إليها بعض الأجهزة حين تتخوف من ارتفاع شعبية شخص ما، فتبحث في تاريخه عما يشين. 

على كل حال، أياً كان موقع جنوب أفريقيا أو حكومتها الحالية من "المثالية"، لو كان هناك أمر كذلك في عالم السياسة، فإنها بلاد تمتلك "وزناً أخلاقياً" ورأس مال رمزي هائل في عيون العالم، وهذا هو الذي أوجع إسرائيل أكثر من أي شيء، حين يقاضيها أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، "رفيقتها" السابقة في عالم الأبارتهايد/ الفصل العنصري" وأكثر من يعرف معنى معاملة الإنسان كـ"حيوانات بشرية". 

أمل في الإنسان 

لا نعرف القرار المنتظر للمحكمة الدولية، نعرف أن إسرائيل، ومن يساندوها قد خسروا أخلاقياً بالفعل، لكن الأهم، أن نعود لنتذكر جنوب أفريقيا وتجربتها رغم "فشل ربيعنا"، إنها بلد من الجنوب، ديمقراطية، ذات اقتصاد لا بأس به، مستقلة القرار السياسي، حاربت العنصرية وتهزمها كل يوم، وهي في كل هذا تكاد تكون النقيض من الدول التي اعتدنا أن نتبعها، لكن الأهم من كل ذلك، أنها قدمت، بالذهاب إلى محكمة العدل الدولية، دليلا على أنه لا يزال هناك أمل في الإنسان. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard