كانت عدن عاصمة دور السينما في اليمن، لذا نشط المسرح والسينما في مناطقها وضواحيها، وأدت المنافسة الفنية فيها بين الجالية الهندية التي استقدمت أول فرقة مسرحية في العام 1904، ومن ثم ظهور أول فرقة مسرحية عدنية عام 1909، إلى تقديم أول عرض سينمائي محلي عام 1910، في منطقة كريتر، بفضل مستر حمود، الذي بدأ بتشكيل أول فرقة مسرحية، ثم أقام عروضاً سينمائيةً متنقلةً عرض خلالها الأفلام الصامتة في الصالات والساحات ومواقف السيارات في منطقة التواهي.
وبجواره، أحضرت السلطة البريطانية عدداً من الأفلام لجنودها في المعسكرات، والعمال البريطانيين، وأبناء عدن العاملين في المحميات البريطانية، وكانت تعرض الأفلام الصامتة باللونين الأبيض والأسود في العام نفسه، ومن ثم توسعت قاعدة العروض في أواخر العشرينيات بعد أن قدّم عبد العزيز خان بعض الأفلام في ساحة قرب مقهى زكو، في مدينة عدن القديمة.
عرفت عدن السينما الصامتة ثم السينما الناطقة. وتولى ابن محمد الهاشمي، طه حمود، المعروف باسم "ملك السينما"، في الثلاثينيات، إنشاء أول دار عرض سينمائية في عدن في كريتر، قرب حي الميدان، أطلق عليها اسم سينما "هريكن"، ضمّت قسماً خاصاً للتدخين وتناول المرطبات، وقُسّمت إلى صالة أرضية وشرفة (بلكونة) تضم بعض المقصورات.
كانت الترجمة تتم بالكتابة على طرف الشاشة مثل: البطل يطارد الشرير، البطل يطلق النار، البطل يقبّل حبيبته، على الرغم من أن المشاهد كانت واضحةً ولا تحتاج إلى تفسير. وكذلك استقبلت "هيركن" العديد من العروض المسرحية الناجحة، والتي كانت تغطي تكاليف استئجارها عبر بيع التذاكر.
شهدت صالات السينما في عدن أياماً ذهبيةً في فترة خمسينيات القرن الماضي وستينياته. كُتب لها الاستمرار والقدرة على تجاوز جميع التحديات والعوائق، والانتقال من مركزها الأول في كريتر إلى خور مكسر، والمعلا، والشيخ عثمان، ثم البريقة
تاريخياً، شهدت صالات السينما في عدن أياماً ذهبيةً في فترة خمسينيات القرن الماضي وستينياته. كُتب لها الاستمرار والقدرة على تجاوز جميع التحديات والعوائق، والانتقال من مركزها الأول في كريتر إلى خور مكسر، والمعلا، والشيخ عثمان، ثم البريقة، وافتتاح صالات جديدة مثل سينما "الشرقية"، وسينما "الراديو"، وسينما "البادري"، وسينما "برافين"، وسينما "بلقيس"، وسينما "ريجل" أو "شاهيناز"، والسينما "الشعبية" وسينما "دار سعد"، وسينما "البريقة"، في مدينة عدن وضواحيها.
عرضت صالات عدن أشهر الأفلام العالمية الأجنبيّة والعربيّة، لكبار الممثلين والفنانين، بدءاً من الأفلام الصامتة وأفلام الحب والحرب، مروراً بأفلام محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وبهيجة حافظ وعزيزة أمير وفاتن حمامة، انتهاءً بالأفلام الهنديّة.
يقول أوراس الإرياني، وهو شاعر وكاتب وأحد مرتادي دور السينما، في حديثه إلى رصيف22: "اختصت بعض الدور بأفلام معينة. فقد كان لصالتي هيركن والسينما الأهلية امتياز عرض الأفلام المصرية، واشتهرت سينما بلقيس وسينما البنيان بعرض الأفلام الهندية، كما تميزت سينما شاليمار والبريقة في عرض الأفلام الأجنبية الغربية. أما سينما شاهيناز فقد كانت تعرض الأفلام الصامتة".
وبخصوص سينما ريجل، يذكر المؤرخ بلال غلام حسين، التالي: "كانت سينما ريجل أو شاهيناز كما كانت تُسمى، تخصص بضعة أيام للنساء المحجبات، وكان مالك السينما السيد إحسان الحق (مستر حق)، يقدّم خدمات خاصةً لهن حيث كان يرسل سيارات خاصةً لنقلهنّ من منازلهنّ وإعادتهنّ إليها طبعاً بعد أن يقمن بحجز التذاكر وإعطاء عناوينهنّ، وكانت تشرف على هذا اليوم الخاص سيداتٌ أوروبيات وهنديات لتقديم الخدمات للنساء".
السينما في شمال اليمن
تختلف الروايات التاريخية عن بداية العروض السينمائية في شمال اليمن، فقد تسلمت الدولة آلات عرض سينمائيةً قياس 8 مللي و16 مللي، كانت في قصر الإمام بعد قيام ثورة 26 أيلول/سبتمبر 1962، كما يفيد محمد فارع الشيباني، في كتاب "الثقافة اليمنية، رؤى مستقبلية".
ونجد أخباراً متفرقةً عن إدخال بعض السفارات الأجنبية في تعز وصنعاء، مثلها في الخمسينيات، كما يؤكد الدكتور عبد الله الزين في كتاب "اليمن ووسائله الإعلامية"، إذ أقامت بعض السفارات الأجنبية عروضاً سينمائيةً في المناسبات الوطنية لبلدانها بحضور موظفيها وشخصيات يمنية نافذة، مثل سفارتي الصين والاتحاد السوفياتي اللتين نظّمتا العديد من العروض السينمائية، وهو ما يؤكده بعض الدبلوماسيين والأطباء الأجانب في رحلاتهم داخل اليمن الموثقة في مذكراتهم.
بعد قيام ثورة 26 أيلول/سبتمبر 1962، تأسست أول صالة للعرض في صنعاء في تشرين الأول/ أكتوبر 1962، من قبل بعض التجار، وتضمن برنامجها أفلاماً عربيةً وأخرى هنديةً، وسرعان ما افتُتحت قاعات أخرى في المناطق الرئيسية الثلاث في صنعاء وتعز والحديدة. وبحسب تقرير صادر عن وزارة الإعلام حول عدد الصالات والمقاعد وأسعار التذاكر في السنوات 1972-1974، ضمت صنعاء قاعتي بلقيس والأهلية، وافتتحت تعز خمس صالات عرض سينما (قصر سبأ، 23 يوليو، بلقيس، قصر بلقيس، المقهى)، كما امتلكت الحديدة أربع صالات (الشرق، الأهلية، سبتمبر، الشعبية)، وتوزعت بقية الصالات بين إب بعدد صالتي عرض، وذمار بصالة عرض وحيدة، ويشكل إجمالي عدد المقاعد في جميع صالات العرض في شمال اليمن 15،739 مقعداً، فيما تراوحت أسعار التذاكر بين 43 بقشةً و34 بقشةً، وجميع الصالات يمتلكها القطاع الخاص.
يقول الصحافي والروائي عبد الرحمن بجاش، في تصريح خاص لرصيف22: "افتتحت السينما في الستينيات لصاحبها عبد الكافي سفيان الذي كان وكيل الأفلام المصرية في تعز، حيث كان يستوردها ويوزعها على دور السينما، وكانت الأفلام التي تُعرض في تلك المرحلة، هي الأفلام المصرية ثم الأمريكية ثم الهندية، وذلك بعد أن تتم مراقبتها مسبقاً في وزارة الإعلام والثقافة".
وعلى خلاف جنوب اليمن، حيث واجهت دور السينما العديد من التحديات السياسية والاقتصادية، أهمها قانون التأميم الذي أوقف التنافس التجاري بين القطاع الخاص، فإن الدولة الحديثة في شمال اليمن لم تحتكر الفن السابع، وهو ما سمح بظهور التنافس بين صالات السينما، مع الأخذ في الحسبان أن الدولة لم تساهم في بناء أي دور عرض للحفاظ على استقرار أسعار التذاكر، ومن المفارقات الساخرة أنها سعت في العام 1964 إلى فرض قيود على جمهور السينما، حيث صدر قرار جمهوري رقم 23 بمنع الشباب الذين دون سن الـ15 عاماً من مشاهدة الأفلام التي تقرر الرقابة أنها غير صالحة، إلا أن الدولة لم تكن لديها أي فكرة عن الفرق بين الأفلام المناسبة وغير المناسبة، وعليه لم يطبَّق القانون.
وفي مقابل جهل السلطة، لم يكن بمقدور الجمهور التمييز بين الأفلام الفنية والأفلام الرديئة، فضلاً عن أن بعض هذا الجمهور لم يستطع حتى قراءة الترجمة للأفلام الهندية والإنكليزية والأوروبية بسبب انتشار الأمية.
تردد على صالات السينما اليمنيون من جميع الفئات، حيث ضمت الصالات المثقفين والأميين، الموظفين والعاطلين عن العمل، الطلبة والخريجين، التجار الكبار والحرفيين الصغار والمزارعين. وبحسب استطلاع ميداني أجراه الدكتور عبد الله الزين عن حضور الفتيات اليمنيات في صالات السينما في السبعينيات في المدن الرئيسية الثلاث صنعاء وتعز والحديدة، فقد كن في معظمهن يدرسن في المدارس الإعدادية والثانوية العامة، وتتراوح أعمارهن بين 15 و16 أو أكثر، ويظهر الإحصاء النهائي بشكل عام أن 23% فقط من الفتيات يترددن على صالات السينما، وغالباً برفقة أحد من أفراد الأسرة، لأن المجتمع لم يتقبل الأمر بعد وفقاً للاستطلاع.
لعبت القيم المحافظة في مدينة صنعاء دوراً في الحد من حضور النساء، حيث سجلت العاصمة أقل مجموع لدخول النساء إلى صالات العرض من بين المدن الثلاث في السبعينيات، وزيادةً على ذلك، بحسب الزين، "بعض هواة السينما في صنعاء ليسوا من أهل المنطقة، مما يفسح المجال لافتراض أنهم أقل اهتماماً بالقيود الاجتماعية". ويبين البحث أن سكان تعز أكثر حباً للسينما من غيرهم في العاصمة والحديدة، ويعلل ذلك بأن "تعز كانت ولا تزال مدينةً منفتحةً أكثر من غيرها"، أما مدينة الحديدة "فإن حرارة الجو التي تسود فيها طوال السنة أعطت المدينة طابع السكون والهدوء بالرغم من وجود ميناء ومركز تجاري فيها، ولهذا لا تعمل أكثر دور السينما إلا في الليل"، ولعل ما يبعث على الدهشة هو ظهور صالتي سينما في ذلك الوقت في عمق المناطق القبلية، أي في مدينتَي رداع ويريم.
ومهما يكن من أمر، فقد امتازت سنوات الثمانينيات في مدينة صنعاء بالانفتاح الاجتماعي، حيث توسعت صالات السينما بظهور سينما حدة وسينما خالدة، وشرعت كلية الأدب في صنعاء أبوابها لعرض بعض الأفلام السينمائية في قاعاتها الرحبة، ولذا كانت النساء يذهبن إلى الجامعات والسينمات بلا حجاب ولا رقيب، كما كانت هذه الدور في صنعاء تعمل في فترتين للعرض الواحد، وتصل إلى ثلاث قترات في العطل الرسمية والدينية، وبسعر رمزي لا يصعب على أحد، وقد استمرت في عروضها حتى التسعينيات، لكن ما أن انتصف عقد التسعينيات حتى اختفت هذه الصالات تحت ضغوط اقتصادية واجتماعية ودينية، بعد انقلاب علي صالح جنباً إلى جنب حزب الإصلاح (الإخوان المسلمين)، على شريكه "البيض" في جنوب اليمن في صيف 1994.
ساهم انتشار التلفزيون والفيديو، ثم أجهزة الـdvd والكمبيوتر، في عزوف الجمهور عن قاعات السينما، إذ أصبحت محال بيع واستئجار أشرطة الفيديو في مطلع الألفية الجديدة من قبل اليمنيين، ثم استقطبت لاحقاً محال نسخ الأفلام، بعد أن أصبح الفيديو وأشرطته من الماضي
وبرغم أن السلطة الحاكمة أعادت دور السينما إلى أصحابها، فقد أغرقتهم بالضرائب، بحيث كان من المستحيل استئناف العروض السينمائية. وبطبيعة الحال، صعدت في أعقاب حرب الـ94 طبقة جديدة قبلية ودينية لم ترَ في السينما لا ثقافةً تنهض بالذوق العام ولا استثماراً تجارياً ناجحاً، ولذا اتجهت بأموالها نحو بناء المولات التجارية والمحال الاستهلاكية. وفي المحصلة، سيطر الفاتحون الجدد على السلطة والوزارات والفضاء العام، وسرعان ما تحولت السينما إلى فعل محرّم في نظر غلاة الدين، كما أصبحت في نظر الأقل تشدداً عيباً ووصماً اجتماعياً، وهكذا شُنّعت سمعة رواد دور السينما في المجتمع، حد أن بعض الأسر كانت لا تزوّج الشبان الذين يرتادون السينما في صنعاء.
السينما في الألفية الجديدة
بخلاف ما سبق، ساهم انتشار التلفزيون والفيديو، ثم أجهزة الـdvd والكمبيوتر، في عزوف الجمهور عن قاعات السينما، إذ أصبحت محال بيع واستئجار أشرطة الفيديو في مطلع الألفية الجديدة هي وجهة عموم اليمنيين، ثم استقطبت لاحقاً محال نسخ الأفلام، بعد أن أصبح الفيديو وأشرطته من الماضي، ما تبقى من ذاك الجمهور، وكذلك جمهور الجيل الجديد. وبجانب الثورة التقنية، عانت الساحة الثقافية في اليمن من ظاهرة غلق قاعات السينما أو من اضطرار أصحابها إلى بيعها لتحويلها إلى فضاءات تجارية هدفها الربح المادي. فالأرقام تشير إلى أن البلد كان يضم نحو 52 قاعة سينما، لم تبقَ منها اليوم سوى بضع قاعات تحولت إلى مراكز تجارية واستراحات ومقاهٍ.
على أن الظروف السياسية لم تكن في أحسن أحوالها في العقد الثاني من الألفية الجديدة، إذ أُطفئت آخر عروض السينما "سينما صوت" التي ظهرت كمبادرة شبابية في العاصمة صنعاء، بعد عامين من سيطرة الحوثيين. وبرغم عودة إحياء العروض السينمائية بعد عرض فيلم "عشرة أيام قبل الزفة"، لعمرو جمال في مدينة عدن، فقد مُنع في مدينة تعز بسبب تهم وفتاوى وجهها إليه عبد الله العديني، وقد استجابت السلطة المحلية ومنعته، وإثر ذلك توعد حينها قائد اللواء 35 الراحل عدنان الحمادي، بعرض الفيلم في سينما طارق في الحجريّة "التربة" جنوب مدينة تعز، وهي سينما قديمة تقع أمام المجمع الحكومي، رداً على قرار منعه في تعز، الأمر الذي استدعى خلافاً وتوتراً عسكرياً كان قائماً بين قيادة اللواء 35 من جهة، وبين جماعة حزب "الإصلاح" والسلفيين المسيطرين على تعز من جهة أخرى.
وعليه، يبدو أن ما يميز الألفية الجديدة هو ظهور صنّاع الأفلام واختفاء صالات العرض السينمائية، إذ كان من الأسهل على صنّاع الأفلام تصوير الأفلام القصيرة في اليمن وعرضها في الخارج، لأسباب عديدة، منها اختفاء صالات السينما في اليمن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.